فصل في مناظرة عبد الله بن عباس و عروة بن الزبير رضي الله عنهما في العمرة
 
وأما ما فى حديث أبى الأسود ، عن عروة ، من فعل أبى بكر ، وعمر ، والمهاجرين ، والأنصار ، وابن عمر ، فقد أجابه ابن عباس ، فأحسن جوابه ، فيُكتفى بجوابه . فروى الأعمش ، عن فضيل بن عمرو ، عن سعيد بن جُبير ، عن ابن عباس ، تمتعَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فقال عروة : نهى أبو بكر وعُمَرُ عن المُتعة . فقال ابن عباس : أراكم ستهلكون ، أقول : قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، وتقول : قال أبو بكر وعمر .
وقال عبد الرزاق : حدثنا مَعمر ، عن أيوب ، قال : قال عُروة لابن عباس : ألا تتَّقى اللَّه تُرَخِّصُ فى المُتعة ؟، فقال ابنُ عباس : سل أُمَّك يا عُرَيَّةُ . فقال عُروة : أمَّا أبو بكر وعمر ، فلم يفعلا ، فقال ابنُ عباس : واللَّهِ ما أراكم مُنتهين حتى يُعَذِّبَكُمُ اللَّه ، أُحدِّثُكم عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، وتُحدِّثُونا عن أبى بكر وعمر ؟ فقال عُروة : لَهُما أعلمُ بِسُّـنَّةِ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، وأتبعُ لها منك .
وأخرج أبو مسلم الكجى ، عن سليمان بن حرب ، عن حماد بن زيد ، عن أيوب السختيانى ، عن ابن أبى مُلَيكة ، عن عُروة بن الزبير ، قال لرجل مِن أصحابِ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : تأمُرُ النَّاس بالعُمرَةِ فى هؤلاء العَشْرِ ، وليس فيها عُمرة ؟، قال : أوَ لاَ تَسألُ أُمَّك عن ذلك ؟ قال عُروة : فإن أبا بكر وعُمَرَ لم يفعلا ذلك ، قال الرجل : مِن هاهنا هلكتُم ، ما أرى اللَّه عزَّ وجلَّ إلا سَيُعَذِّبُكُم ، إنِّى أحدِّثكم عن رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم ، وتُخبرونى بأبى بكر وعمر . قال عروةُ : إنهما واللَّهِ كانا أعلَم بِسُّـنَّةِ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْكَ ، فسكت الرجلُ .
ثم أجاب أبو محمد بن حزم عُروة عن قوله هذا ، بجواب نذكره ، ونذكر جواباً أحسَن منه لشيخنا .
قال أبو محمد : ونحن نقول لعروة : ابنُ عباس أعلمُ بِسُـنَّةِ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، وبأبى بكر وعمَر منك ، وخيرٌ منك ، وأولى بهم ثلاثتهم منك ، لا يشكُّ فى ذلك مسلم . وعائشةُ أم المؤمنين ، أعلم وأصدق منك . ثم ساق من طريق الثورى ، عن أبى إسحاق السَّبِيعى ، عن عبد اللَّه قال : قالت عائشة : من استُعْمِلَ على المَوْسِمِ ؟ قالوا : ابن عباس . قالت : هو أعلم الناس بالحج . قال أبو محمد : مع أنه قد روى عنها خلاف ما قاله عروة ، ومَن هو خير من عروة ، وأفضل ، وأعلم ، وأصدق ، وأوثق . ثم ساق من طريق البزار ، عن الأشج ، عن عبد اللَّه بن إدريس الأودى ، عن ليث ، عن عطاء ، وطاووس ، عن ابن عباس : تمتع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم ، وأبو بكر ، وعمر . وأول مَن نهى عنها معاوية .
ومن طريق عبد الرزاق ، عن الثورى ، عن ليث ، عن طاووس ، عن ابن عباس : تمتع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأبو بكر . حتى مات ، وعمر ، وعثمان كذلك . وأول مَن نهى عنها : معاوية .
قلت : حديث ابن عباس هذا ، رواه الإمام أحمد فى (( المسند )) والترمذى . وقال : حديث حسن .
وذكر عبد الرزاق ، قال : حدثنا معمر عن ابن طاووس ، عن أبيه ، قال : قال أُبىُّ بن كعب ، وأبو موسى لعمر بن الخطاب : ألا تقومُ فتبيِّنَ للنَّاسِ أمرَ هذه المتعة ؟ فقال عمر : وهل بَقى أحد إلا وقد عَلِمَهَا ، أما أنا فأفعلُها .
وذكر على بنُ عبدِ العزيز البغوى ، حدثنا حجاجُ بن المنهال ، قال : حدثنا حمادُ بنُ سلمة ، عن حماد بن أبى سليمان أو حميد عن الحسن ، أن عمر أراد أن يأخذ مال الكعبة ، وقال : الكعبة غَنِيَّةٌ عن ذلِكَ المالِ ، وأراد أن يَنْهى أهل اليمن أن يَصْبِغُوا بالبَولِ ، وأراد أن ينهى عن مُتعة الحج ، فقال أُبىُّ بنُ كعب : قد رأى رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم وأصحابُه هذا المالُ ، وبه وبأصحابه الحاجةُ إليه، فلم يأخذه ، وأنت فلا تأخذْه ، وقد كان رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم وأصحابُه يلبَسون الثيابَ اليمانية ، فلم ينهَ عنها ، وقد علم أنها تُصْبَغُ بالبول، وقد تمتَّعنا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فلم ينه عنها ، ولم يُنْزِلِ اللَّهُ تعالى فيها نهياً .
وقد تقدَّم قولُ عمر : لو اعتمرتُ فى وسط السنة ، ثم حججتُ لتمتعتُ ، ولو حججتُ خمسين حَجة ، لتمتعتُ . ورواه حماد بن سلمة . عن قيس ، عن طاووس ، عن ابن عباس ، عنه : لو اعتمرتُ فى سنة مرتين ، ثم حججت ، لجعلت مع حَجتى عُمرة . والثورى ، عن سلمة بن كهيل ، عن طاووس ، عن ابن عباس ، عنه : لو اعتمرتُ ، ثم اعتمرتُ ، ثم حججت ، لتمتعت . وابن عيينة : عن هشام بن حُجير ، وليث ، عن طاووس ، عن ابن عباس ، قال: هذا الذى يزعمُون أنه نهى عن المتعة يعنى عمر سمعتُه يقول : لو اعتمرتُ ، ثم حججت ، لتمتعت . قال ابن عباس : كذا وكذا مرة ، ما تمت حجة رجل قط إلا بمتعة .
وأما الجواب الذى ذكره شيخنا ، فهو أن عُمَرَ رضى اللَّه عنه ، لم ينه عن المتعة البتة ، وإنما قال : إنَّ أَتَمَّ لِحَجِّكم وعُمرتِكم أن تَفْصِلُوا بينهما ، فاختار عُمَرُ لهم أفضلَ الأُمور ، وهو إفرادُ كل واحد منهما بسفر يُنشئه له من بلده ، وهذا أفضل من القِران والتمتع الخاص بدون سَفرة أُخرى ، وقد نصَّ على ذلك : أحمد ، وأبو حنيفة ، ومالك ، والشافعى رحمهم اللَّه تعالى وغيرهم . وهذا هو الإفراد الذى فعله أبو بكر وعمر رضى اللَّه عنهما ، وكان عُمر يختاره للناس ، وكذلك علىٌ رضى اللَّه عنهما .
وقال عمر وعلى رضى اللَّه عنهما فى قوله تعالى : {وأَتِمُّوا الحَجَّ والعُمْرَةَ للَّهِ} [البقرة: 196] قالا : إتمامهُما أن تُحرِمَ بهما مِن دُوَيْرَةِ أهلِكِ وقد قال صلى اللَّه عليه وسلم لعائشة فى عُمرتها : (( أجْرُكِ عَلى قَدْرِ نَصَبِكِ )) فإذا رجع الحاجُّ إلى دُوَيْرَةِ أهلِه ، فأنشأ العُمرة منها ، واعتمر قبل أشهرِ الحجِّ ، وأقام حتى يحجَّ ، أو اعتمر فى أشهره ، ورجع إلى أهله ، ثم حجَّ ، فهاهنا قد أتى بكل واحدٍ من النسكين من دُويرةِ أهله ، وهذا إتيانٌ بهما على الكمال ، فهو أفضلُ من غيره .
قلت : فهذا الذى اختاره عمر للناس ، فظنَّ مَن غَلِطَ منهم أنه نهى عن المتعة ، ثم مِنهم مَن حمل نَهيه على متعة الفسخ ، ومنهم مَن حمله على تركِ الأولى ترجيحاً للإفراد عليه ، ومنهم مَن عارض رواياتِ النهى عنه بروايات الاستحباب ، وقد ذكرناها ، ومنهم مَن جعل فى ذلك روايتين عن عمر ، كما عنه روايتان فى غيرهما من المسائل ، ومنهم مَن جعل النهى قولاً قديماً ، ورجع عنه أخيراً ، كما سلك أبو محمد بن حزم ، ومنهم مَن يَعُدُّ النهى رأياً رآه من عنده لكراهته أن يَظَلَّ الحاجُّ مُعرِسِينَ بِنسائهم فى ظِلِّ الأرَاكِ .
قال أبو حنيفة : عن حماد ، عن إبراهيم النخعى ، عن الأسود بن يزيد ، قال : بينما أنا واقف مع عُمَرَ بن الخطاب بعرفة عشيةَ عرفة ، فإذا هو برجل مُرَجِّلٍ شعرَه ، يفوحُ منه ريحُ الطِّيب ، فقال له عمر : أمحرِمٌ أنت ؟ قال : نعم . فقال عمر : ما هيئتك بهيئة محرم ، إنما المحرِمُ الأشْعَثُ الأَغْبَرُ الأدْفَرُ . قال : إنى قَدِمتُ متمتِّعاً ، وكان معى أهلى ، وإنما أحرمتُ اليومَ ، فقال عمر عند ذلك : لا تتمتَّعُوا فى هذه الأيام ، فإنى لو رَخَّصْتُ فى المُتعة لهم ، لعرَّسُوا بِهِنَّ فى الأراك ، ثم راحوا بِهِنّ حُجَّاجاً . وهذا يبين ، أن هذا من عمر رأى رآه.
قال ابن حزم : فكان ماذا ؟ وحبذا ذلك ؟ وقد طاف النبى صلى الله عليه وسلم على نسائه، ثم أصبح محرِماً ، ولا خلاف أن الوطء مباح قبل الإحرام بطرفة عين واللَّه أعلم .