فصل عودة الى سياق ججته صلى الله عليه و سلم 2
 
عُدنا إلى سِياق حَجَّته صلى اللَّه عليه وسلم.
ثمَّ نهض صلى اللَّه عليه وسلم إلى أن نزل بذى طُوى وهى المعروفة الآن بآبار الزاهر، فبات بها ليلةَ الأحد لأربع خَلَوْنَ من ذى الحِجة، وصلَّى بها الصُّبح، ثم اغتسلَ مِنْ يومه، ونهض إلِى مكة، فدخلها نهاراً مِن أعلاها مِن الثنيَّة العُليا التى تُشْرِفُ على الحَجُونِ، وكان فى العُمرة يدخل من أسفلها، وفى الحج دخل من أعلاها، وخرج مِن أسفلها، ثم سار حتى دخلَ المسجد وذلك ضحىً.
وذكر الطبرانى، أنه دخلَه من بابِ بنى عبد مناف الذى يُسمِّيه الناسُ اليومَ بابَ بنى شيبة.
وذكر الإمام أحمد: أنه كان إذا دخل مكاناً من دار يعلى، استقبل البيت فدعا.
وذكر الطبرانى: أنه كان إذا نظر إلى البيت، قال: ((اللَّهُمَّ زدْ بَيْتَكَ هَذَا تَشْريفاً وَتَعْظِيماً وَتَكْريماً وَمَهَابَةً)). وروى عنه، أنه كان عند رؤيته يرفعُ يديه، ويُكبِّر ويقُول: ((اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلامُ ومِنْكَ السَّلامُ حَيِّنا رَبَّنا بالسَّلام، اللَّهُمَّ زِدْ هَذا البَيْتَ تَشْرِيفاً وَتَعْظِيماً وَتَكْرِيماً وَمَهَابَةً، وزِدْ مَنْ حَجَّهُ أَوْ اعْتَمَرَهُ تَكْريماً وتَشْريفاً وتَعْظيماً وبِرَّاً)) وهو مرسل، ولكن سمع هذا سعيدُ بن المسِّيب من عُمَرَ بنِ الخطَّاب رضى اللَّه عنه يقوله.
فلما دخل المسجد، عَمَدَ إلى البيت ولم يركع تحيةَ المسجد، فإنَّ تحيةَ المسجدِ الحرام الطَّوافُ، فلما حاذى الحجَر الأسود، استلمه ولم يُزاحِمْ عليه، ولم يتقدّم عنه إلى جهة الرُّكن اليمانى، ولم يرفع يديه، ولَم يَقُلْ: نويتُ بطوافى هذا الأسبوع كذا وكذا، ولا افتتحه بالتَّكْبير كما يفعله مَن لا علم عنده، بل هو مِن البِدَع المُنكرات، ولا حاذى الحَجَرَ الأسود بجميع بدنه ثم انفتل عنه وجَعله على شِقه، بل استقبلَه واستلمه، ثم أخذ عن يمينه، وجعل البيتَ عن يساره، ولم يدعُ عند الباب بدُعاء، ولا تحت الميزاب، ولا عِند ظهر الكعبة وأركانها ولا وقَّتَ لِلطَّوَافِ ذِكراً معيناً، لا بفعله، ولا بتعليمِه، بل حُفِظَ عنه بين الركنين: {رَبَّنَا آتِنَا فى الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِى الآخِرَةِ حَسَنَةً وقِنَا عَذَابَ النَّار} [البقرة: 201] ورمَل فى طوافه هَذَا الثلاثة الأشواط الأول، وكان يُسرع فى مشيه، ويُقارِبُ بين خُطاه، واضطبع بردائه فجعل طرفيه على أحد كتفيه، وأبدى كتفه الأخرى ومنكبه، وكلما حاذى الحجر الأسود، أشار إليه أو استلمه بمحجنه، وقبّل المحجن، والمحجنُ عصا محنيَّة الرأس. وثبت عنه، أنه استلم الركن اليمانى. ولم يثبتْ عنه أنه قبَّله، ولا قبَّل يده عند استلامه، وقد روى الدارقطنى، عن ابن عباس: ((كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يُقبِّلُ الركن اليمانى، ويضع خده عليه))، وفيه عبد اللَّه بن مسلم بن هُرمز، قال الإمام أحمد: صالحُ الحديثِ وضعَّفه غيره. ولكن المرادَ بالرُّكن اليمانِى ههنا، الحجرُ الأسود، فإنه يُسمَّى الركنَ اليمانى ويُقالُ له مع الركن الآخر: اليمانيان، ويقال له مع الركن الذى يلى الحِجر من ناحية الباب: العراقيان، ويقال للرُّكنين اللذين يليان الحِجر: الشاميان. ويقال للركن اليمانى، والذى يلى الحِجر مِن ظهر الكعبة: الغربيان، ولكن ثبت عنه، أنه قبَّل الحجر الأسود. وثبت عنه، أنه استلمه بيده، فوضع يده عليه، ثم قبَّلها، وثبت عنه، أنه استلمه بمحجن، فهذه ثلاث صفات، وروى عنه أيضاً، أنه وضع شفتيه عليه طويلاً يبكى.
وذكر الطبرانى عنه بإسناد جيد: أنه كان إذا استلم الرُّكن اليمانى، قال: ((بسْم اللَّه واللَّه أكْبَر)).
وكان كلما أتى على الحجر الأسود قال: ((اللَّهُ أكبَر)).
وذكر أبو داود الطيالسى، وأبو عاصم النبيل، عن جعفَر بن عبد اللَّه بن عثمان قال: ((رأيتُ محمد بن عباد بن جعفر قَبَّلَ الحَجَرَ وسَجَدَ عليه، ثُمَّ قال: رأيتُ ابنَ عباس يُقبِّلُه ويسجُد عليه، وقال ابن عبَّاس: رأيتُ عمر بن الخطاب قبَّلَه وسجَدَ عليه. ثم قال: رأيتُ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فعل هكذا ففعلتُ)).
وروى البيهقىُّ عن ابن عباس: ((أنه قبَّل الرُكن اليمانى، ثم سَجَدَ عليه، ثم قبَّله، ثم سَجَدَ عليه ثلاثَ مرات)).
وذكر أيضاً عنه، قال: ((رأيتُ النبى صلى الله عليه وسلم سجد على الحَجَر))ِ.
ولم يستلِمْ صلى الله عليه وسلم، ولم يَمَسَّ مِن الأركان إلا اليمانيين فقط. قال الشافعى رحمه اللَّه: ولم يَدَعْ أحدٌ استلاَمَهما هِجرة لبيتِ اللَّه، ولكن اسْتَلَم ما استَلَمَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم، وأَمْسَكَ عَمَّا أَمْسَكَ عَنْهُ.