فصل في فراغه صلى الله عليه و سلم من طوافه ..
 
فلما فرغ مِن طوافه، جاء إلى خلفِ المقام، فقرأ: {وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إبْرَاهِيمَ مُصَلى} [البقرة: 125]، فصلَّى ركعتين، والمَقَامُ بينه وبينَ البيت، قرأ فيهما بعد الفاتحة بسورتى الإخلاص وقراءته الآية المذكورة بيانٌ منه لتفسير القرآن، ومراد اللَّه منه بفعله صلى اللَّه عليه وسلم، فلما فرغ من صَلاته، أقبل إلى الحجر الأسودِ، فاستلمه.
ثم خرج إلى الصَّفا مِن الباب الذى يقابله، فلما قَرُب منه. قرأ: (({إنَّ الصَّفَا وَالمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّه} [البقرة: 158] أبدأ بما بدأ اللَّه به))، وفى رواية النسائى: ((ابدؤوا))، بصيغة الأمر. ثم رَقى عليه حتى رأى البيت، فاستقبلَ القِبلة، فوحَّدَ اللَّه وكبَّره، وقال. ((لا إله إلا اللَّهُ وحْدَهُ لا شَريكَ لَه، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شئٍ قدير، لا إله إلاَّ اللَّهُ وحْدَهُ، أَنْجَزَ وَعْدَهُ، ونَصَرَ عَبْدَه، وهَزَمَ الأحْزَابَ وحْدَه)). ثم دعا بين ذلك، وقال مِثلَ هذا ثلاثَ مرات.
وقام ابنُ مسعود على الصَّدْع، وهو الشِّقُّ الذى فى الصَّفا. فقيل له: ((هاهنا يا أبَا عبد الرحمن؟ قال: هَذَا والَّذِى لا إلَه غَيْرُه مَقَامُ الذى أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ سورةُ البقرة)) ذكره البيهقى.
ثم نزل إلى المروة يمشى، فلما انصبَّت قدماه فى بطن الوادى، سعى حتَّى إذا جاوز الوادى وأَصْعَد، مشى. هذا الذى صحَّ عنه، وذلك اليوم قبل الميلين الأخضرين فى أول المسعى وآخره. والظاهر: أن الوادى لم يتغير عن وضعه، هكذا قال جابر عنه فى ((صحيح مسلم)). وظاهر هذا: أنه كان ماشياً، وقد روى مسلم فى ((صحيحه)) عن أبى الزبير، أنه سمع جابر بن عبد اللَّه يقولُ: طافَ النبىُّ صلى الله عليه وسلم فى حَجَّةِ الوَدَاع على رَاحِلَتِه بالبَيْتِ، وبَيْنَ الصَّفَا والمَرْوَةِ لِيَراهُ النَّاسُ وَلِيُشْرِفَ ولِيَسْألُوه فَإن النَّاسَ قد غشوْه، وروى مسلم عن أبى الزبير عن جابر: ((لم يطف رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ولا أصحابُه بين الصَّفَا والمروة إلا طَوَافاً واحِداً طوافه الأول)).
قال ابنُ حزم: لا تعارُض بينهما، لأن الراكب إذا انصبَّ به بعيرُه، فقد انصبَّ كُلُّه، وانصبَّتْ قدماه أيضاً مع سائر جسده.
وعندى فى الجمع بينهما وجه آخر أحسنُ مِن هذا، وهو أنه سَعَى ماشياً أولاً، ثم أتمَّ سعيَه راكباً، وقد جاء ذلك مصرَّحاً به، ففى صحيح ((مسلم)): عن أبى الطُّفيل، قال: ((قلت لابن عباس: أخبرنى عن الطَّوافِ بين الصَّفَا والمروةِ راكباً، أسُّـنَّة هو؟ فإن قومَك يزعمُون أنه سُّـَّنة. قال: صدقُوا وكذبُوا قال: قُلْتُ: ما قَوْلُك صَدقُوا وكذبُوا؟ قال: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَثُرَ عَلَيْه النَّاسُ، يَقُولُونَ: هَذَا مُحَمَّدٌ، هَذَا مُحَمَّدٌ، حَتَى خَرَجَ العَوَاتِقُ مِنَ البُيُوتِ. قال: وكانَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم لا يُضْرَبُ النَّاسُ بَيْنَ يَدَيْهِ. قَالَ: فَلَما كَثُرَ عَلَيْهِ، رَكِبَ، والمشىُ والسَّعى أفضلُ)).