فصل في اتيانه صلى الله عليه و سلم زمزم بعد طوافه
 

ثمَّ أتى زمزمَ بعد أن قضى طوافَه وهم يسقون، فقال: ((لَوْلاَ أَنْ يَغْلِبَكُم النَّاسُ، لنَزَلْتُ فَسَقَيْتُ مَعَكُمْ)) ثُمَّ ناولُوه الدَّلْوَ، فَشَربَ وهُوَ قَائِم.
فقيل: هذَا نسخٌ لنهيه عن الشرب قائماً، وقيل: بل بيان منه أن النهي على وجه الاختيار وترك الأَوْلى، وقيل: بل للحاجة، وهذا أظهر.
وهل كان في طوافه هذا راكباً أو ماشياً؟ فروى مسلم في ((صحيحه))، عن جابر قال: ((طافَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بالبَيْتِ في حَجَّةِ الوَدَاعِ على رَاحِلته يَستلِم الرُّكنَ بِمحْجَنِه لأن يراه الناسُ وليُشْرِفَ، ولِيسألُوه، فإنَّ الناسَ غَشُوْهُ)).
وفى ((الصحيحين))، عن ابنِ عباس قال: ((طافَ النبي صلى الله عليه وسلم في حَجة الوداع، على بعير يَسْتَلِمُ الرُّكْنَ بِمحْجَنٍ)).
وهذا الطواف، ليس بطواف الوداع، فإنه كان ليلاً، وليس بطواف القُدوم لوجهين.
أحدهما: أنه قد صحَّ عنه الرَّمَلُ في طواف القدوم، ولم يقل أحد قطُّ: رَمَلَتْ بِه رَاحِلَتُه، وإنما قالوا: رَمَلَ نَفْسُهُ.
والثاني: قول الشريد بن سويد: ((أفضتُ مع رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم، فما مَسَّتْ قدماه الأرْضَ حتَّى أتى جَمْعاً)).
وهذا ظاهره، أنه من حين أفاض معه، ما مسَّت قدماه الأرض إلى أن رجع، ولا ينتقِضُ هذا بركعتي الطواف، فإن شأنَهما معلوم.
قلت: والظاهر: أن الشريد بن سويد، إنما أراد الإفاضة معه من عرفة، ولهذا قال: حتى أتى جَمْعاً وهى مزدلفة، ولم يُرد الإفاضة إلى البيت يومَ النحر، ولا ينتقِضُ هذا بنزوله عند الشِّعب حين بال، ثم رَكِبَ لأنه ليس بنزول مستقر، وإنما مسَّت قدماه الأرضَ مساً عارِضاً. واللَّه أعلم.