فصل في رجوعه صلى الله عليه وسلم إلى مِنَى وبياته بها
 
في رجوعه صلى الله عليه وسلم إلى مِنَى وبياته بها
ثم رجع صلى اللَّه عليه وسلم إلى مِنَى مِن يومه ذلك، فباتَ بها، فلما أصبَحَ، انتظرَ زوالَ الشَّمْسِ، فلما زالت، مشى مِن رحله إلى الجمَارِ، ولم يَرْكَبْ، فبدأ بالجمرة الأولى التي تلي مَسْجِدَ الخَيْفِ، فرماها بسبع حَصَياتٍ واحدةً بعدَ واحدةٍ، يقول مع كُلِّ حصاة: ((اللَّهُ أكْبَرُ))، ثم تقدَّم على الجمرة أمامها حتى أسهلَ، فقام مستقبلَ القِبْلة، ثم رفعَ يديهِ وَدَعَا دُعاءاً طَوِيلاً بقدر سُورَةِ البقرة، ثم أتى إلى الجَمرة الوُسطى، فرماها كذلك، ثم انحدرَ ذاتَ اليَسارِ مما يلي الوادي، فوقفَ مستقبِلَ القِبْلة رافعاً يديه يدعو قريباً مِن وقُوفِه الأولِ، ثم أتى الجمرَة الثَّالِثَة وهي جمرة العَقبة، فاستبطن الوادي، واستعرض الجَمرة، فجعل البَيْتَ عَن يسارِه، ومِنَى عن يمينه، فرماها بسبع حصيات كذلك.
ولم يِرمِها مِن أعلاها كما يفعل الجُهَّال، ولا جعلها عن يمينه واستقبل البيتَ وقت الرمي كما ذكره غيرُ واحد من الفقهاء.
فلما أكمل الرمي، رجع مِن فوره ولم يقف عندها، فقيل: لضيق المكان بالجبل، وقيل - وهو أصح: إن دعاءه كان في نفس العبادة قبل الفراغ منها، فلما رمى جمرة العقبة، فرغ الرميُ، والدعاءُ في صُلب العبادة قبل الفراغ منها أفضلُ منه بعد الفراغ منها، وهذا كما كانت سُنَّته في دعائه في الصلاة، إذ كان يدعو في صُلبها، فأما بعد الفراغ منها، فلم يثبت عنه أنه كان يعتادُ الدعاء، ومَن روى عنه ذلك، فقد غَلِط عليه، وإن رُوى في غير الصحيح أنه كان أحياناً يدعو بدعاءٍ عارِض بعد السلام، وفى صحته نظر.
وبالجملة.. فلا ريبَ أن عامة أدعيته التي كان يدعو بها، وعلَّمها الصِّدِّيق، إنما هي في صُلب الصلاة، وأما حديثُ معاذ بن جبل: ((لا تَنْسَ أنْ تَقُولَ دُبُرَ كُلِّ صَلاةٍ: اللَّهُمَّ أَعِنِّى عَلى ذِكْركَ وشُكْرِكَ، وَحُسْن عِبادتِك))، فدُبُر الصلاة يُراد به آخرها قبل السلام منها، كدُبُر الحيوان، ويراد به ما بعد السلام كقوله: ((تُسَبِّحُونَ اللَّهَ وتكبِّرونَ وتحمدونَ دُبُرَ كُلِّ صَلاَةٍ))... الحديث، واللَّه أعلم.