فصل في النهى عن قول الرجل: خبثت نفسى
 
مِن ذلك: نهيُه صلى اللَّه عليه وسلم أن يقولَ الرجل: ((خَبُثَتْ نَفْسِى، ولَكِنْ لِيَقُلْ: لَقِسَتْ نَفْسِى)) ومعناهما واحد: أى: غَثَتْ نفسى، وساء خُلُقُها، فكره لهم لفظَ الخُبث لما فيه من القُبح والشنَاعة، وأرشدهم إلى استعمال الحسن، وهجران القبيح، وإبدالِ اللفظ المكروه بأحسن منه.
ومِن ذلك نهيه صلى اللَّه عليه وسلم عن قول القائل بعد فواتِ الأمر: ((لَو أنِّى فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا)) وقال: ((إنَّ ((لو)) تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ)) وأرشده إلى ما هو أنفعُ له من هذه الكلمة، وهو أن يقول: ((قَدَّرَ اللَّهُ ومَا شَاءَ فَعَلَ)) وذلك لأن قوله: لو كنتُ فعلتُ كذا وكذا، لم يَفُتْنِى ما فاتنى، أو لم أقع فيما وقعتُ فيه، كلامٌ لا يُجدى عليه فائدةً البتة، فإنه غيرُ مستقبِل لما استدبر من أمره، وغيرُ مستقِيل عَثْرَتَه بـ ((لو))، وفى ضمن ((لو)) ادعاء أن الأمر لو كان كما قدَّره فى نفسه، لكان غيرَ ما قضاه اللَّه وقدَّرَه وشاءه، فإنَّ ما وقع مما يتمنَّى خلافَه إنما وقع بقضاء اللَّه وقَدَرِه ومشيئته، فإذا قال: لو أنى فعلتُ كذا، لكان خلافَ ما وقع فهو مُحال، إذ خلافُ المقدَّر المقْضىِّ مُحال، فقد تضمَّن كلامُه كذباً وجهلاً ومُحالاً، وإن سَلِمَ من التكذيب بالقَدَر، لم يَسْلَم مِن معارضته بقوله: لو أنى فعلتُ كذا، لدفعتُ ما قَدَّر اللَّهُ علىَّ.
فإن قيل: ليس فى هذا ردٌ للقَدَر ولا جَحدٌ له، إذ تلك الأسبابُ التى تمنَّاها أيضاً مِن القَدَر، فهو يقول: لو وقفتُ لهذا القَدَر، لاندفع به عنِّى ذلك القَدَرُ، فإن القَدَرَ يُدفع بعضُه ببعض، كما يُدفع قَدَرُ المرضِ بالدواءِ، وقدرُ الذنوب بالتوبةِ، وقدرُ العدوِّ بالجهاد، فكلاهما من القَدَر.
قيل: هذا حقّ، ولكن هذا ينفعُ قبل وقوعِ القَدَر المكروه، وأما إذا وقع، فلا سبيلَ إلى دفعه، وإن كان له سبيلٌ إلى دفعه أو تخفيفه بقَدَر آخر، فهو أولى به من قوله: لو كنتُ فعلته، بل وظيفتُه فى هذه الحالة أن يستقبلَ فعلَه الذى يدفع به أو يخفف أثرَ ما وقع، ولا يتمنَّى ما لا مطمع فى وقوعه، فإنه عجزٌ محضٌ، واللَّه يلومُ على العجز، ويُحب الكَيْسَ، ويأمر به، والكَيْسُ: هو مباشرةُ الأسباب التى ربطَ اللَّهُ بها مُسِّبباتِها النافعة للعبد فى معاشه ومعاده، فهذه تفتحُ عمل الخيرِ، وأما العجزُ، فإنه يفتحُ عملَ الشيطان، فإنه إذا عَجَزَ عما ينفعُه، وصار إلى الأمانى الباطِلة بقوله: لَوْ كَانَ كَذَا وكَذَا، ولو فعلتُ كَذَا، يُفتح عليه عمل الشيطان، فإن بابَه العجزُ والكسل، ولهذا استعاذ النبىُّ صلى الله عليه وسلم منهما، وهما مفتاحُ كلِّ شر، ويصدر عنهما الهمُّ، والحَزَنُ، والجُبْنُ، والبُخْلُ، وَضَلَعُ الدَّيْنِ، وغَلَبَةُ الرِّجَالِ، فمصدرُها كُلها عن العجز والكسل، وعنوانها ((لو))، فلذلك قال النبى صلى الله عليه وسلم: ((فإن ((لو)) تفتحُ عمل الشيطان)) فالمتمنِّى مِن أعجز الناس وأفلسهم، فإن التمنى رأسُ أموال المفاليسِ، والعجزُ مفتاح كُلِّ شر.
وأصل المعاصى كُلها العجزُ، فإن العبدَ يَعجِز عن أسباب أعمالِ الطاعات، وعن الأسباب التى تُبْعِدُه عن المعاصى، وتحول بينه وبينها، فيقعُ فى المعاصى، فجمع هذا الحديثُ الشريف فى استعاذته - صلى اللَّه عليه وسلم - أُصولَ الشر وفروعه، ومبادِيَه وغاياتِه، وموارِدَه ومصادرَه، وهو مشتمل على ثمانى خصال، كُلُّ خصلتين منها قرينتان فقال: ((أعُوذُ بِكَ مِنَ الهمِّ والحَزَنِ)) وهما قرينان، فإن المكروه الوارد على القلب ينقسِمُ باعتبار سببه إلى قمسين، فإنه إما أن يكون سببُه أمراً ماضياً، فهو يُحدِثُ الحَزَنَ، وإما أن يكون توقع أمر مستقبل، فهو يُحدِث الهم، وكلاهما مِن العجز، فإن ما مضى لا يُدفع بالحزن، بل بالرضى، والحمد، والصبر، والإيمان بالقَدَر، وقول العبد: قَدَرُ اللَّهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ، وما يُستقبل لا يُدفع أيضاً بالهمِّ، بل إما أن يكون له حيلة فى دفعه، فلا يعجز عنه، وإما أن لا تكون له حيلة فى دفعه، فلا يجزع منه، ويلبسُ له لباسه، ويأخذُ له عُدته، ويتأهّبُ له أُهبته اللائقة به، ويَسْتَجِنُّ بجُنَّةٍ حصينة من التوحيد، والتوكل، والانطراح بين يدى الرب تعالى والاستسلام له والرضى به رباً فى كل شئ، ولا يرضى به رباً فيما يحب دون ما يكره، فإذا كان هكذا، لم يرضَ به رباً على الإطلاق، فلا يرضاه الرب له عبداً على الإطلاق، فالهمُّ والحَزَنُ لا ينفَعَانِ العبد البتة، بل مضرَّتُهما أكثرُ من منفعتهما، فإنهما يُضعفان العزم، ويُوهنان القلبَ، ويحولان بينَ العبدِ وبين الاجتهاد فيما ينفعُه، ويقطعان عليه طريقَ السير، أو يُنكسانه إلى وراء، أو يَعوقَانِهِ ويَقِفَانه، أو يَحْجُبانه عن العَلَمِ الذى كلَّما رآهُ، شمَّر إليه، وجدَّ فى سيره، فهما حِمل ثقيل على ظهر السائر، بل إن عاقه الهمُّ والحزن عن شهواته وإراداته التى تضرُّهُ فى معاشه ومعاده، انتفع به من هذا الوجه، وهذا من حكمة العزيز الحكيم أن سلَّط هذَيْن الجندَيْنِ على القلوب المعرضة عنه، الفارغَةِ من محبته، وخوفه، ورجائه، والإنابة إليه، والتوكل عليه، والأُنسِ به، والفِرار إليه، والانقطاع إليه، ليردَّهَا بما يبتليها به من الهموم والغمومِ، والأحزانِ والآلام القلبية عن كثير من معاصيها وشهواتها المُرْدِية، وهذه القلوبُ فى سجن من الجحيم فى هذه الدار، وإن أريد بها الخيرُ، كان حظُّها من سجن الجحيم فى معادها، ولا تزال فى هذا السجن حتى تتخلَّص إلى فضاء التوحيد، والإقبال على اللَّه، والأُنس به، وجعل محبته فى محل دبيبِ خواطِر القلب ووساوسه، بحيث يكون ذِكْرُه تعالى وحُبُّه وخوفُه ورجاؤُه والفرحُ به والابتهاجُ بذكره، هو المستولى على القلب، الغالبَ عليه، الذى متى فقده، فقد قُوتَهُ الذى لا قِوام له إلا به، ولا بقاء له بدونه، ولا سبيلَ إلى خلاصِ القلب من هذه الآلام التى هى أعظمُ أمراضِه وأفسدُها له إلا بذلك، ولا بلاغَ إلا باللَّه وحدَه، فإنه لا يُوصِل إليه إلا هو، ولا يأتى بالحسنات إلا هو، ولا يَصرِف السيئات إلا هو، ولا يدُلُّ عليه إلا هو، وإذا أرادَ عَبْدَه لأمر، هيَْأَهُ له، فمنه الإيجاد، ومنه الإعداد، ومنه الإمداد، وإذا أقامه فى مقام أىِّ مقام كان، فبحمده أقامه فيه وبحكمته أقامه فيه، ولا يليق به غيرُه ولا يصلُح له سواه، ولا مانِع لما أعطى اللَّهُ، ولا مُعطِىَ لما منع، ولا يمنع عبدَه حقاً هو للعبد، فيكون بمنعه ظالماً له، بل إنما منعه لِيتوسَّل إليه بمحابِّه ليعبُدَه، وليتضرَّع إليه، ويتذلَّل بين يديه، ويتملَّقه، ويُعطى فقرَه إليه حقَّه، بحيث يشهد فى كل ذرَّةٍ من ذَرَّاته الباطنةِ والظاهرةِ فاقة تامةً إليه على تعاقُب الأنفاس، وهذا هو الواقعُ فى نفس الأمر، وإن لم يشهده العبدُ فلم يمنع الربُّ عبده ما العبدُ محتاج إليه بخلاً منه، ولا نقصاً مِن خزائنه، ولا استئثاراً عليه بما هو حقٌّ للعبد، بل منعه ليردَّه إليه، ولِيعزَّه بالتَّذَلُّلِ له، وليُغنيَه بالافتقار إليه، ولِيَجْبُرَهُ بالانكسار بين يديه، وليُذيقَه بمرارةِ المنع حلاوةَ الخضوع له، ولذةَ الفقر إليه، وليُلبسه خلعة العبودية، ويولِّيه بعز له أشرفَ الولايات، ولِيُشْهِدَهُ حكمته فى قُدرته، ورحمتَه فى عزته، وبِرَّه ولطفَه فى قهره، وأنَّ منعه عطاءٌ، وعزلَه تولية، وعقوبتَه تأديبٌ، وامتحانَه محبةٌ وعطية، وتسليطَ أعدائه عليه سائقٌ يسوقه به إليه.
وبالجملة فلا يليق بالعبد غير ما أقيم فيه، وحكمتهُ وحمدُه أقاماه فى مقامه الذى لا يليقُ به سِوَاه، ولا يَحْسُنُ أن يتخطَّاه، واللَّهُ أعلمُ حيثُ يجعلُ مواقعَ عطائِهِ وفضله، واللَّهُ أعلمُ حيثُ يجعل رسالتَهُ {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهم بِبَعْضٍ لِّيَقُولُوا أَهَؤُلاَءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِّن بَيْنِنَا، ألَيْسَ اللَّهُ بأَعْلَمَ بِالشَّاكِربنَ} [الأنعام: 53]، فهو سبحانه أعلمُ بمواقع الفضل، ومحالِّ التخصيص، ومحالِّ الحِرمان، فبحمده وحكمته أعطى، وبحمده وحكمته حَرَم، فمن ردَّه المنعُ إلى الافتقار إليه والتذلُّلِ له، وتملُّقهِ، انقلب المنعُ فى حقه عطاءاً، ومَن شغله عطاؤهُ، وقطعه عنه، انقلب العطاءُ فى حقِّه منعاً، فكلُّ ما شغل العبدَ عن اللَّه، فهو مشؤوم عليه، وكلُّ ما ردَّه إليه فهو رحمة به، والربُّ تعالى يُريد من عبده أن يفعل، ولا يقع الفعلُ حتى يُريد سبحانَه مِن نفسه أن يُعينَه، فهو سُبحانه أراد منَّا الاستقامةَ دائماً، واتخاذَ السبيل إليه، وأخبرنا أن هذا المرادَ لا يقع حتى يُريد من نفسه إعانَتنا عليها ومشيئته لنا، فهما إرادتان: إرادة من عبده أن يفعل، وإرادة من نفسه أن يُعينه، ولا سبيلَ له إلى الفعل إلا بهذه الإرادة، ولا يملِك منها شيئاً، كما قال تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إلاَّ أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير: 29] فإن كان مع العبد روح أخرى، نِسبتُها إلى روحه، كنسبة روحِه إلى بدنه يستدعى بها إرادَةَ اللَّه من نفسه أن يفعلَ به ما يكون به العبدُ فاعلاً، وإلا فمحلُّه غير قابلٍ للعطاء، وليس معه إناء يوضع فيه العطاءُ، فمَن جاء بغير إناءٍ، رجع بالحِرمَانِ، ولا يلومنَّ إلا نفسه.
والمقصودُ أنَّ النبى صلى الله عليه وسلم استعاذ مِن الهمِّ والحَزَنِ، وهما قرينانِ، ومِنَ العَجزِ والكَسَلِ، وهما قرينان، فإنَّ تَخلُّفَ كمالِ العبد وصلاحِهِ عنه، إما أن يكون لِعدم قدرته عليه، فهو عجز، أو يكونَ قادراً عليه، لكن لا يُريدُ فهو كسل، وينشأ عن هاتين الصفتين، فواتُ كُلِّ خير، وحصولُ كلِّ شر، ومن ذلك الشر تعطيلُه عن النفع ببدنه، وهو الجبن، وعن النفع بماله، وهو البخل، ثم ينشأ له بذلك غلبتان: غلبة بحق، وهى غلبة الدَّيْن، وغلبة بباطل، وهى غلبةُ الرِّجال، وكلُّ هذه المفاسد ثمرة العجز والكسل، ومن هذا قولُه فى الحديث الصحيحِ للرجل الذى قضى عليه، فقال: حَسْبِىَ اللَّهُ ونِعْمَ الوَكِيلُ، فَقَالَ: ((إنَّ اللَّه يَلُومُ عَلَى العَجْزِ، وَلَكِنْ عَلَيْكَ بالكَيْسِ، فإذَا غَلَبَكَ أمْرٌ فَقُلْ: حَسْبِىَ اللَّهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ))، فهذا قال: حَسْبِىَ اللَّهُ ونِعمَ الوكيلُ بعد عجزه عن الكَيْس الذى لو قام به، لقضى له على خصمه، فلو فعلَ الأسبابَ التى يكون بها كَيِّساً، ثمَّ غُلِبَ فقال: حَسْبِىَ اللَّهُ ونِعْمَ الوكيلُ، لكانت الكلمةُ قد وقعت موقعها، كما أن إبراهيم الخليلَ، لما فعل الأسباب المأمورَ بها، ولم يعجِزْ بتركِها، ولا بتركِ شئ منها، ثم غلبهُ عدوُّه، وألقَوْه فى النار، قال فى تلك الحال: حَسْبِىَ اللَّهُ ونِعْمَ الوَكيلُ فوقعت الكلمةُ موقعها، واستقرت فى مظانِّها، فأثَّرت أثرها، وترتَّب عليها مقتضاها.
وكذلك رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم وأصحابُه يوم أُحُد لما قيل لهم بعد إنصرافهم من أُحُد: إن الناسَ قد جمعوا لكم فاخشوهم، فتجهزوا وخرجوا للقاء عدوِّهم، وأعطَوهم الكَيْسَ من نفوسهم، ثم قالوا: حَسْبُنَا اللَّهُ ونِعْمَ الوكيلُ.
فأثرت الكلِمة أثرَهَا، واقتضت موجبَها، ولهذا قال تعالى: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَّهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2-3]، وَمَن يَتَوكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ فجعل التوكل بعد التقوى الذى هو قيامُ الأسباب المأمور بها، فحينئذ إن توكَّل على الله فهو حسبُه، وكما قال فى موضع آخر: {وَاتَّقُوا اللَّهَ، وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُونَ} [المائدة: 11] فالتوكل والحسب بدون قيام الأسباب المأمور بها عجز محض، فإن كان مشوباً بنوعٍ من التوكل، فهو توكُّل عجز، فلا ينبغى للعبد أن يجعلَ توكُّلَهُ عجزاً، ولا يجعلَ عجزَه توكلاً، بل يجعل توكُّلَه مِن جملة الأسباب المأمور بها التى لا يَتِمُّ المقصودُ إلا بها كلِّها.
ومن هاهنا غلط طائفتان من الناس، إحداهما: زعمت أن التوكلَ وحده سبب مستقلّ كافٍ فى حصول المراد، فعطَّلت له الأسبابَ التى اقتضتها حِكمةُ اللَّه الموصلة إلى مسبِّباتها، فوقعوا فى نوع تفريط وعجز بحسب ما عطَّلوا من الأسباب، وضَعُفَ توكُّلُهم من حيث ظنوا قوتَه بانفراده عن الأسباب، فجمعوا الهمَّ كُلَّه وصيَّروه هماً واحداً، وهذا وإن كان فيه قوة من هذا الوجه، ففيه ضَعفٌ من جهة أُخرى، فكلما قوى جانبُ التوكل بإفراده، أضعفه التفريطُ فى السبب الذى هو محلُّ التوكل، فإن التوكلَ محلُّه الأسباب، وكمالُه بالتوكل على اللَّه فيها، وهذا كتوكل الحرَّاثِ الذى شق الأرض، وألقى فيها البِذر، فتوكل على اللَّه فى زرعه وإنباتِه، فهذا قد أعطى التوكُّل حقه، ولم يضعُف توكُّله بتعطيل الأرض وتخليتها بوراً، وكذلك توكُّل المسافر فى قطع المسافة مع جِدِّه فى السَّيْرِ، وتوكُّل الأكياس فى النجاة من عذاب اللَّه والفوزِ بثوابه مع اجتهادهم فى طاعته، فهذا هو التوكلُ الذى يترتَّبُ عليه أثرُه، ويكون اللَّهُ حَسْبَ مَن قام به. وأما توكلُ العجز والتفريطِ، فلا يترتبُ عليه أثرُه، وليس اللَّه حَسْبَ صاحِبه، فإن اللَّه إنما يكون حَسْبَ المتوكِّل عليه إذا اتّقاه، وتقواه فعلُ الأسباب المأمور بها، لا إضاعتُها.
والطائفة الثانية: التى قامت بالأسباب، ورأت ارتباطَ المسبِّبات بها شرعاً وقدَراً، وأعرضت عن جانب التوكل، وهذه الطائفةُ وإن نالت بما فعلته من الأسباب ما نالته، فليس لها قوةُ أصحابِ التوكل، ولا عونُ اللَّه لهم وكفايتُه إياهم ودفاعُه عنهم، بل هى مخذولةٌ عاجزة بحسب ما فاتها من التوكّل.
فالقوّةُ كلُّ القُوَّة فى التوكل على اللَّه كما قال بعضُ السَلَف: مَن سرَّه أن يكون أقوى الناس فليتوكل على اللَّه، فالقوةُ مضمونة للمتوكِّل، والكفاية والحَسْبُ والدفع عنه، وإنما يَنْقُصُ عليه من ذلك بقدر ما يَنْقُصُ من التقوى والتوكل، وإلا فمع تحققه بهما لا بد أن يجعل اللَّه له مخرجاً مِن كُلِّ ما ضاق على الناس، ويكونُ اللَّهُ حسبَه وكافيه، والمقصودُ أن النبى صلى الله عليه وسلم أرشد العبدَ إلى ما فيه غايةُ كماله، ونيلُ مطلوبه، أن يحرصَ على ما ينفعُه، ويبذُلَ فيه جهده، وحينئذ ينفعُه التحسُّب وقولُ: ((حَسْبِىَ اللَّهُ ونِعْمَ الوكيلُ)) بخلاف مَن عجز وفرَّط حتى فاتته مصلحته، ثم قال:((حَسْبِى اللَّهُ وَنِعْمَ الوَكيلٌُ)) فإن اللَّه يلومه، ولا يكون فى هذا الحال حَسْبَه، فإنما هو حَسَبُ مَن اتَّقاه، وتوكَّل عليه.