فصل في الاستئذان الذى أمر الله به المماليكَ ومَن لم يبلغ الحُلُم
 
وأما الاستئذانُ الذى أمر اللَّه به المماليكَ، ومَنْ لم يَبْلُغِ الحُلُمَ، فى العوراتِ الثلاثِ: قبلَ الفجر، ووقتَ الظهيرة، وعند النوم، فكان ابنُ عباس يأمرُ به، ويقول: ترك الناسُ العملَ بها، فقالت طائفة: الآيةُ منسوخة، ولم تأتِ بحُجة، وقال طائفة: أمرُ ندبٍ وإرشاد، لا حتم وإيجاب، وليس معها ما يدل على صرف الأمر عن ظاهره، وقالت طائفة: المأمور بذلك النساءُ خاصة، وأما الرجالُ، فيستأذِنون فى جميع الأوقات، وهذا ظاهرُ البطلان، فإن جمع ((الذين)) لا يختص به المؤنث، وإن جاز إطلاقُه عليهن مع الذكور تغليباً. وقالت طائفة عكس هذا: إن المأمورَ بذلك الرجال دون النساء، نظراً إلى لفظ: ((الذين)) فى الموضعين، ولكن سياقُ الآية يأباه فتأمله.
وقالت طائفة: كان الأمرُ بالاستئذان فى ذلك الوقت للحاجة، ثم زالت، والحكمُ إذا ثبت بعلَّةٍ زال بزوالها، فروى أبو داود فى ((سننه)) أن نفراً من أهل العراق قالوا لابن عباس: يا ابن عباس، كيف ترى هذه الآية التى أُمِرْنَا فيها بِمَا أُمِرْنَا، ولا يَعملُ بها أحدٌ: {يَأيُّها الَّذِينَ آمَنُواْ لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ... } [النور: 58] الآية. فقال ابنُ عباس: إن اللَّه حَكيمٌ رحيمٌ بالمؤمنين، يُحِبُّ السِّتْرَ، وكان الناسُ ليسَ لِبيُوتهم سُتُور ولا حِجَال، فربمَا دخلَ الخادِمُ، أو الولدُ أو يتيمُة الرجل، والرجلُ على أهله، فأمرهم اللَّهُ بالاستئذان فى تلك العَوَرَاتِ، فجاءهم اللَّهُ بالسُّتُور والخير، فلم أر أحداً يَعْمَلُ بذلك بَعْدُ.
وقد أنكر بعضُهم ثبوتَ هذا عن ابن عباس، وطعن فى عِكرمة، ولم يصنع شيئاً، وطعن فى عَمْرو بن أبى عمرو مولى المطلب، وقد احتج به صاحبا الصحيح، فإنكارُ هذا تعنُّت واستبعاد لا وجه له.
وقالت طائفة: الآية محكمة عامة لا مُعارِضَ لها ولا دافع، والعملُ بها واجب، وإن تركه أكثرُ الناس.
والصحيح: أنه إن كان هناك ما يقوم مقامَ الاستئذانِ من فتح باب فتحُه دليل على الدخول، أو رفع ستر، أو تردُّد الداخل والخارج ونحوه، أغنى ذلك عن الاستئذان، وإن لم يكن ما يقومُ مقامه، فلا بُد منه، والحكم معلَّلٌ بعلَّة قد أشارت إليها الآية، فإذا وُجِدَتْ، وُجِدَ الحكمُ، وإذا انتفت انتفى. واللَّه أعلم.