فصل في هَدْيه صلى الله عليه وسلم فى أذكار العطاس
 
ثبت عنه صلى اللَّه عليه وسلم: ((إنَّ اللَّه يُحِبُّ العُطَاسَ، وَيَكْرَهُ التَّثَاؤبَ، فَإذَا عَطَسَ أَحَدُكُم وَحَمِدَ اللَّه، كَانَ حَقّاً عَلَى كُلِّ مُسْلِم سَمِعَهُ أنْ يَقُولَ لَهُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ، وأمَّا التَّثَاؤُبُ، فإنَّمَا هُوَ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَإذَا تَثَاءَبَ أحدُكُم، فَلْيَرُدَّهُ مَا اسْتَطَاعَ، فَإنَّ أَحَدَكُم إذَا تَثَاءَبَ، ضَحِكَ مِنْهُ الشَّيْطَانُ)) ذكره البخارى.
وثبت عنه فى ((صحيحه)): ((إذا عَطَسَ أَحَدُكُم فَلْيَقُلْ: الحَمْدُ لِلَّهِ، وَلْيَقُلْ لَهُ أَخُوهُ أَوْ صَاحِبُهُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ، فَإذَا قَالَ لَهُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ، فَلْيَقُل: يَهْدِيكُم اللَّهُ وَيُصْلِحُ بَالَكُم)).
وفى ((الصحيحين)) عن أنس: ((أنه عَطَسَ عِنْدَهُ رَجُلانِ، فشمَّتَ أحَدَهُمَا، ولم يُشمِّتِ الآخَر، فَقَالَ الَّذى لم يُشَمِّتْهُ: عَطَسَ فُلانٌ فَشَمَّتَّهُ، وَعَطَسْتُ، فَلَمْ تُشَمِّتْنِى، فَقَالَ: ((هَذَا حَمِدَ اللَّهَ، وأنْتَ لَمْ تَحْمَدِ اللَّه)).
وثبت عنه فى ((صحيح مسلم)): ((إذا عَطَسَ أحَدُكُم فَحَمِدَ اللَّهَ، فَشَمِّتُوهُ، فإنْ لَمْ يَحْمَدِ اللَّه، فَلاَ تُشَمِّتُوهُ)).
وثبت عنه فى ((صحيحه)): من حديث أبى هريرة: ((حَقُّ المُسْلِمِ عَلَى المُسْلِمِ سِتٌ: إذَا لَقِيتَهُ، فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، وَإذَا دَعَاك َ فَأجبْهُ، وَإذَا اسْتَنْصَحَكَ، فانْصَحْ لَهُ، وَإذَا عَطَسَ وَحَمِدَ اللَّهَ، فَشَمِّتْهُ، وَإذَا مَرِضَ، فَعُدْه، وَإذَا مَاتَ فَاتْبَعْهُ)).
وروىأبو داودعنه بإسناد صحيح: ((إذَا عَطَسَ أَحَدُكُم فَلْيَقُلْ: الحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَلْيَقُلْ أَخُوهُ أَوْ صَاحِبُه: يَرْحَمُكَ اللَّه، وَلْيَقُلْ هُوَ: يَهْدِيكُمُ اللَّهُ وَيُصْلِحُ بَالَكُم)).
وروى الترمذى، أن رَجُلاً عَطَسَ عِندَ ابنِ عمر، فقال: الحَمْدُ لِلَّه، والسلامُ عَلَى رسولِ اللَّهِ، فَقَالَ ابنُ عُمَرَ: وأنَا أقُولُ: الحمدُ لِلَّهِ والسلامُ على رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وَلَيْسَ هَكَذَا عَلَّمَنَا رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم، وَلَكِن عَلَّمَنَا أنْ نَقُولَ: الحمْدُ لِلَّهِ على كُلِّ حال.
وذكر مالك، عن نافع، عن ابن عمر: ((كَانَ إذَا عَطَسَ فَقِيلَ لَهُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ، قَالَ: يَرْحَمُنَا اللَّهُ وإيَّاكُم، ويَغْفِرُ لَنَا وَلَكُمْ)).
فظاهر الحديثِ المبدوء به: أن التشميتَ فرضُ عَيْن على كُلِّ مَنْ سمع العاطس يحمَدُ اللَّه، ولا يُجْزِئ تشميتُ الواحد عنهم، وهذا أحدُ قولى العلماء، واختاره ابنُ أبى زيد، وأبو بكر بن العربى المالكيان، ولا دافع له.
وقد روى أبو داود: أن رجلاً عَطَسَ عند النبى صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: السَّلامُ عَلَيْكُمْ، فَقَالَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: ((وَعَلَيْكَ السَّلامُ وعَلَى أُمِّكَ))، ثُمَّ قَالَ: ((إذَا عَطَسَ أَحَدُكُم، فَلْيَحْمَدِ اللَّه)) قال: فذكر بَعضَ المَحَامِدِ، وليقُلْ لَهُ، مَنْ عِنْدَهُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ، وَلَيَرُدَّ - يَعْنِى عَلَيْهِم - يَغْفِرُ اللَّهُ لَنَا وَلَكُمْ)).
وفى السلام على أُمِّ هذا المُسلِّم نُكتةٌ لطيفةٌ، وهى إشعارُه بأن سلامَه قد وقع فى غير موقعه اللائق بِه، كما وقع هذا السلامُ على أُمِّه، فكما أن سلامه هَذَا فى غير موضعه كذلك سلامه هو.
ونكتةٌ أخرى ألطفُ منها، وهى تذكيرُه بأُمِّه، ونسبه إليها، فكأنه أُمِّىٌ محض منسوب إلى الأُم، باقٍ على تربيتها لم تربِّه الرجالُ، وهذا أحدُ الأقوال فى الأُمِّى، أنه الباقى على نسبته إلى الأُم.
وأما النبى الأُمِّى: فهو الذى لا يُحسِنُ الكِتَابة، ولا يقرأ الكِتَابَ.
وأمَّا الأُمِّىُّ الذى لا تَصِحُّ الصلاةُ خلفه، فهو الذى لا يُصحح الفاتحة، ولو كان عالماً بعلوم كثيرة.
ونظيرُ ذكر الأُم هاهنا ذكرُ هَنِ الأب لمن تعزَّى بعزاءِ الجاهلية فيقال له: اعضُضْ هَنَ أَبِيكَ، وكَانَ ذِكرُ هَنِ الأب هاهنا أحسن تذكيراً لهذا المتكبِّرِ بدعوى الجاهلية بالعُضو الذى خَرَجَ منه، وهو هَنُ أبيه، فَلاَ يَنْبَغِى لَهُ أن يتعدَّى طَوْرَهُ، كما أن ذِكرَ الأُم هاهنا أحسنُ تذكيراً له، بأنه باقٍ على أُمِّيته. واللَّه أعلم بمراد رسوله صلى الله عليه وسلم.
ولما كان العاطِسُ قد حصلت له بالعُطاسِ نعمةُ ومنفعةُ بخروج الأبخرة المحتقِنة فى دِماغه التى لو بقيت فيه أحدثت له أدواءً عَسِرَةً، شُرعَ له حمدُ اللَّه على هَذِهِ النعمة مع بقاء أعضائه على التئامها وهيئتها بعد هذه الزلزلة التى هى للبدن كزلزلة الأرض لها.
ولهذا يقال: سمَّته وشمَّته - بالسين والشين - فقيل: هما بمعنىً واحد، قاله أبو عبيدة وغيره. قال: وكلُّ داعٍ بخير، فهو مُشمِّتٌ ومُسَمِّتٌ. وقيل: بالمهملة دعاء له بحُسن السَّمتِ، وبعوده إلى حالته من السكون والدعة، فإن العُطاس يُحدث فى الأعضاء حركةً وانزعاجاً. وبالمعجمة: دعاء له بأن يصرفَ اللَّه عنه ما يُشمِّتُ به أعداءَه، فشمَّته: إذا أزال عنه الشماتة، كقرَّد البعيرَ: إذا أزال قُرادَه عنه.
وقيل: هو دعاء له بثباته على قوائمه فى طاعة اللَّه، مأخوذ من الشوامِت، وهى القوائم.
وقيل: هو تشميتٌ له بالشيطانِ، لإغاظته بحمْدِ اللَّهِ على نِعمة العُطاس، وما حصل له به من محابِّ اللَّه، فإن اللَّه يُحبه، فإذا ذكر العبدُ اللَّهَ وحَمِدَه، ساء ذلك الشيطان من وجوه، منها: نفسُ العُطاس الذى يُحبُّه اللَّهُ، وحمدُ اللَّهِ عليه، ودعاءُ المسلمين له بالرحمة، ودعاؤه لهم بالهداية، وإصلاحُ البال، وذلك كُلُّه غائظ للشيطان، محزن له، فتشميتُ المؤمن بغيظ عدوه وحزنه وكآبته، فسمى الدعاءُ له بالرحمة تشميتاً له، لما فى ضمنه من شماتته بعدوه، وهذا معنى لطيف إذا تنبه له العاطِسُ والمشمِّت، انتفعا به، وعَظُمَتْ عندهما منفعةُ نعمةِ العُطاس فى البدن والقلب، وتبيَّن السِّرُّ فى محبة اللَّه له، فلِلَّهِ الحمْدُ الذى هو أهلُه كما ينبغى لكريم وجهه وعِزِّ جلاله.