فصل في مبدأ الهجرة النبوية
 
في مبدأ الهجرة التي فرَّق اللهُ فيها بين أعدائه وأوليائه،وجعلها مبدأً لإعزاز دينه ونصر عبده ورسُوله:
قال الواقدى: حدَّثنى محمدُ بن صالح، عن عاصم بن عمر بن قتادة ويزيد بن رومان وغيرهما قالوا: أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بِمَكَّةَ ثلاثَ سِنِينَ مِن أوَّلِ نُبوته مُستخفياً، ثم أعلنَ فى الرَّابِعة، فدعا النَّاسَ إلى الإسلام عَشْرَ سِنِينَ، يُوافى المَوْسِمَ كُلَّ عام، يتَّبعُ الحاجَّ فى منازلهم، وفى المواسم بعُكاظ، ومَجَنَّة، وذى المَجَاز، يدعوهم إلى أن يمنَعُوهُ حتى يُبَلِّغَ رِسَالاتِ ربِّه ولهم الجنةُ، فلا يَجِدُ أحداً ينصُره ولا يُجيبه، حتى إنه ليسألُ عن القبائل ومنازِلهَا قبيلةً قبيلةً، ويقول: ((يا أَيُّهَا النَّاسُ قُولُوا: لاَ إِلهَ إِلا الله تُفْلِحُوا، وَتمْلِكُوا بِهَا العَرَبَ، وتَذِلَّ لَكُم بِهَا العَجَمُ، فَإذَا آمَنْتُم، كُنْتُم مُلُوكاً فى الجَنَّةِ))، وأبو لَهَبٍ وراءَه يقولُ: لا تُطِيعُوهُ فإنَّهُ صَابِىء كَذَّاب، فيردُّونَ على رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبحَ الرَّدِّ، ويُؤذونه، ويقولون: أُسرتُك وعشيرتُكَ أعلمُ بِكَ حيثُ لم يَتَّبِعُوك، وهُوَ يدعُوهم إلى الله، ويقول: ((اللَّهُمَّ لَوْ شِئْتَ لَمْ يَكُونُوا هكَذَا)) قال: وكان ممن يسمَّى لنا مِن القبائِلِ الَّذِينَ أتاهُم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ودعاهم، وعَرَضَ نفسَه عليهم: بنو عامر بن صَعْصَعَةَ، ومحارب بن حَصَفة، وفَزَارَة، وغسَّان، ومُرَّة، وحنيفة، وسُلَيم، وعَبْس، وبنو النَّضر، وبنو البكاء، وكِندة، وكلب، والحارث بن كعب، وعُذرة، والحضَارِمة، فلم يستجب منهم أحد.
فصل
وكان مِما صنع الله لِرسوله أن الأوسَ والخزرجَ كانُوا يسمعُونَ مِن حُلفائهم مِن يهودِ المدينةِ أن نبياً من الأنبياء مبعوثٌ فى هذا الزمانِ سَيَخْرُج، فَنَتَّبِعُهُ ونقتُلكُم معه قَتْلَ عَادٍ وإرَمٍ، وكانت الأنصارُ يحجُّونَ البيتَ كما كانتِ العربُ تحجُّه دونَ اليهود، فلما رأى الأنصارُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يدعو الناسَ إلى اللَّهِ عزَّ وجَلَّ، وتأمَّلُوا أحوَاله، قال بعضُهم لبعض: تَعْلَمُونَ واللهِ يا قَوْمُ أَنَّ هذا الَّذِى تَوَعَّدُكُم بِهِ يَهُودُ، فَلا يَسْبِقُنَّكُم إِلَيْهِ. وكانَ سُويدُ بنُ الصَّامِت من الأوسِ قد قَدِمَ مَكَّةَ، فدعاه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فلم يُبْعِدْ وَلَم يُجِبْ حتَّى قَدِمَ أنس بن رافع أبو الحيسر فى فِتيةٍ مِن قومهِ من بنى عَبْدِ الأَشْهَلِ يطلُبُون الحِلف، فدعاهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسْلام، فقال إياسُ بنُ معاذ وكان شاباً حَدَثاً: يا قومُ ؛ هذا واللهِ خَيْرٌ مِما جئِنَا له، فضربَه أبو الحيسر وانتهره، فسكتَ، ثم لم يَتِمَّ لهم الحِلْفُ، فانصرَفُوا إلى المدينةِ.