فصل في مرور رسول الله صلى الله عليه و سلم بخيمة أم معبد
 
ثُمَّ مَرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فى مسيره ذلك حتى مرَّ بخيمتى أُمَّ مَعْبَدٍ الخُزَاعية، وكانت امرأة بَرْزَةً جَلْدَةً تحتبى بفناء الخيمة، ثم تُطعِمُ وتَسقى مَنْ مَرَّ بها، فسألاها: هل عندها شىء ؟ فقالت: واللهِ لو كان عندنا شىء ما أعْوَزَكُم القِرَى، والشَّاءُ عازِب، وكانت سنة شهباء، فنظَر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى شاة فى كِسْرِ الخيمة، فقال: ((ما هذه الشاة يا أُمّ مَعْبَد)) ؟ قالت: شاة خلفها الجَهْدُ عن الغنم، فقال: ((هل بِهَا مِنْ لبن)) ؟ قالت: هى أجهدُ مِن ذلك، فقال: ((أتأذنين لى أن أَحلِبهَا)) ؟ قالت: نعم، بأبى وأُمى، إن رأيتَ بها حَلْباً فاحلُبها، فمسحَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بِيدِهِ ضَرْعَها، وسمَّى الله ودعا، فتفاجَّت عليه، ودرَّت، فدعا بإناء لها يُربِضُ الرَّهطَ، فحلب فيه حتى علته الرَّغوة، فسقاها فشربت حتى رَوِيَت، وسقى أصحابه حتى رَووْا، ثم شرب، وحلب فيه ثانياً، حتى ملأ الإناء، ثم غادره عندها، فارتحلُوا، فقلَّما لَبِثتْ أن جاء زوجُها أبو معبد يسوق أعنزاً عِجافاً، يتساوكن هُزالاً لا نِقى بهن، فلما رأى اللَّبن، عَجِبَ، فقال: مِن أين لكِ هذا، والشاةُ عازب ؟ ولا حَلُوبةَ فى البيت ؟ فقالت: لا واللهِ إلا أنَّه مرَّ بنا رجلٌ مبارَكٌ كان من حديثه كيت وكيت، ومن حاله كذا وكذا. قال: واللهِ إنى لأُراه صاحِبَ قريش الذى تطلُبه، صِفيه لى يا أُمّ مَعْبَد، قالت: ((ظاهِرُ الوَضَاءة، أبلجُ الوجه، حَسَنُ الخَلْقِ، لم تعبه ثُجْلَة، ولم تُزْر به صُعْلَة، وسيم قَسِيم، فى عَيْنَيْهِ دَعَجٌ، وفى أَشْفَارهِ وطَفٌ، وفى صْوته صَحَل، وفى عُنُقِهِ سَطَعٌ، أحورُ، أكحلُ، أزجُّ، أقرنُ، شديدُ سواد الشَعْر، إذا صمت علاه الوقارُ، وإن تكلم علاه البهاءُ، أجملُ الناس وأبهاهُم مِن بعيد، وأحسنُه وأحلاه من قريب، حُلْوُ المنطق، فَصْلٌ، لا نَزْر ولاَ هَذْر، كأنَّ منطقه خرزاتُ نَظْمٍ يَتَحَدَّرْنَ، ربعةٌ، لا تقحمُه عينٌ مِن قصر، ولا تشنؤُه مِن طول، غصنٌ بين غُصنين، فهو أنضرُ الثلاثة منظراً، وأحسنُهم قَدْرَاً، له رُفقاء يحفُّون به، إذا قال استمعوا لقوله، وإذا أمر تبادرُوا إلى أمره، محفودٌ محشودٌ، لا عابسٌ ولا مُفْنِدٌ))، فقال أبو مَعْبَد: ((واللهِ هذا صاحبُ قريش الذى ذكروا من أمره ما ذكروا، لقد هممتُ أن أصحَبه، ولأفعلنَّ إن وجدتُ إلى ذلك سبيلاً))، وأصبح صوت بمكة عالياً يسمعُونه ولا يرون القائل:
جَزَى اللهُ ربُّ العَرْشِ خَيْر جَزَائِـهِ رَفِيقَـيْنِ حَلاَّ خَيْمَتَىْ أُمَّ مَعْـبَدِ
هُـمَا نَـزلاَ بِالبِـرِّ وَارْتَـحَلاَ بِـهِ وَأَفْلَحَ مَنْ أَمْسَى رَفِيقَ مُحَمَّدِ
فَيَا لَقُصَـىٍّ مَا زَوَى الله عَنْكُــمُ بِهِ مِنْ فَعَال لاَ يُجَازَى وَسُودَدِ
لِيَهْن بَنِى كَعْـبٍ مَكَانُ فَتَــاتِهمْ وَمَقْـعَدُهَا لِلْمُؤمِنينَ بِمَرْصَدِ
سَلُوا أُخْتَـكُمْ عَنْ شَاتِهَا وَإِنَائِهَا فَإِنَّكُمُ إِنْ تَسْأَلُوا الشَّاءَ تَشْهَدِ
قالت أسماء بنت أبى بكر: ما دَرَيْنَا أين توجه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، إذ أقبل رجل من الجن من أسفل مكة، فأنشد هذه الأبيات، والنَّاس يتَّبعونه ويسمعونَ صوته، ولا يرونه حتى خرج من أعلاها، قالت: فلما سَمِعْنَا قولَه، عرفنا حيثُ توجه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وأن وجههُ إلى المدينة.