فصل في دخول النبي صلى الله عليه و سلم المدينة
 
وبلغ الأنصارَ مخرجُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم مِن مكَّةَ، وقصدُه المدينة. وكانوا يخرجونَ كُلَّ يوم إلى الحرَّة ينتظِرونه أول النهار، فإذا اشتد حرُّ الشمس، رجعُوا على عادتهم إلى منازلهم، فلما كان يومُ الاثنين ثانى عشر ربيع الأول على رأس ثلاث عشرة سنةً مِن النبوة، خرجُوا على عادتهم، فلما حَمِىَ حَرُّ الشمس رجعوا، وصَعِدَ رجل من اليهود على أطم من آطام المدينة لبعض شأنه، فرأى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مُبيِّضِينَ، يزولُ بهم السرابُ، فصرخ بأعلى صوته: يا بنى قَيْلَةَ ؛ هذا صَاحِبُكم قد جاء، هذا جَدُّكُم الذى تنتظرونه، فبادر الأنصار إلى السلاح ليتلقَّوْا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، وسُمِعَتِ الرَّجَّةُ والتَّكْبِيرُ فى بنى عمرو بن عوف، وكبَّر المسلمون فرحاً بقُدومه، وخرجوا للقائه، فتلقَّوْه وحيَّوْه بتحية النبوة. فأحدقوا به مطيفين حوله، والسَّكينة تغشاه، والوحى ينزِل عليه {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ، وَالمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم: 4]، فسار حتى نزل بقُباء فى بنى عمرو بن عوف، فنزل على كُلْثُومِ بْنِ الهِدْمِ. وقيل: بل على سَعْدِ بن خَيْثَمَةَ، والأول أثبت، فأقام فى بنى عمرو بن عوف أربع عشرةَ ليلةً وأسَّس مسجِدَ قُباء، وهو أوَّلُ مسجد، أُسِّسَ بعد النبوة.
فلما كان يوم الجمعة رَكِبَ بأمر الله له، فأدركته الجمعةُ فى بنى سالم بن عوف، فجمَّع بهم فى المسجد الذى فى بطن الوادى.
ثم رَكِبَ، فأخذوا بِخِطَام راحلته، هَلُمَّ إلى العدد والعُدَّة والسلاح والمنعة، فقال: ((خَلُّوْا سَبِيلَهَا، فَإنَّهَا مَأْمُورَةٌ)) فلم تزل ناقته سائرة به لا تمرُّ بدارٍ من دُور الأنصار إلا رغِبُوا إليه فى النزول عليهم، ويقول: ((دَعُوهَا فإنَّهَا مَأْمُورَةٌ)) فسارت حتَّى وصلت إلى موضع مسجده اليومَ، وبركت، ولم ينزل عنها حتى نَهَضَتْ وسَارَتْ قليلاً، ثم التفتت، فرجعت، فبركت فى موضعها الأول، فنزل عنها، وذلك فى بنى النجار أخوالِهِ صلى الله عليه وسلم. وكان من توفيق الله لها، فإنه أحبَّ أن ينزِل على أخواله، يُكرمهم بذلك، فجعل الناس يُكلِّمون رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فى النزول عليهم، وبادر أبو أيوب الأنصارى إلى رحله، فأدخله بيتَه، فجعل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((المَرْءُ مَعَ رَحْلِهِ)) وجاء أسعدُ بن زرارة، فأخذ بزمام راحلته، وكانت عنده وأصبح كما قال أبو قيس صِرمة الأنصارى، وكان ابن عباس يختلِف إليه يتحفَّظُ منه هذه الأبيات:
ثَوَى فى قُرَيْشٍ بِضْعَ عَشْـرَةَ حِجَّةً يُذَكَّرُ لَوْ يَلْقَى حَبِيباً مُوَاتِــيَا
وَيَعْـرِضُ فى أهْلِ المَوَاسِـمِ نَفْسَهُ فَلَمْ يَرَ مَنْ يُؤوِي وَلَمْ يَرَ دَاعِـيَا
فَلَمَّا أَتَانَا وَاسْتَقَرَتْ بِهِ النَّــوَى وأَصْبَـحَ مَسْرُورَاً بِطَيْببَةَ رَاضِيَا
وَأصْبَحَ لاَ يَخْشَى ظُلاَمَةَ ظَـالمٍ بَعِيدٍ وَلاَ يَخْشَى مِنَ النَّاسِ بَاغِيَا
بَذَلْنَا لَهُ الأَمْـوَالَ مِنْ حِلِّ مَالِنـا وَأَنْفُسَنَا عِنْدَ الوَغَى والتآسِـيَا
نُعَادِى الَّذِى عَادَى مِنَ النَّاس كُلِّهِمْ جَمِيعاً وَإِنْ كَانَ الحَبِيبَ المُصَافِيَا
(يتبع...)
@وَنَعْلَـمُ أَنَّ اللهَ لاَ رَبَّ غَيْــرُهُ وَأَنَّ كِتَابَ اللهِ أَصْبَــحَ هَادِيَا
قال ابنُ عباس: ((كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بمكة، فأُمِرَ بالهِجْرَةِ وأُنزلَ عَلَيْهِ: {وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِى مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِى مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِّى مِن لَّدُنْكَ سُلْطَاناً نَّصِيراً} [الإسراء: 80])).
قال قتادة: ((أخرجه الله مِن مكَّة إلى المدينة مخْرَجَ صدق ونبىُّ الله يعلم أنه لا طاقة له بهذا الأمر إلا بسلطان، فسأل الله سُلطاناً نصيرا، وأراه اللهُ عَزَّ وجَلَّ دار الهِجرة، وهو بمكَّة فَقَالَ: ((أُرِيتُ دَارَ هِجْرَتِكُمْ بِسَبْخَةٍ ذَاتِ نَخْلٍ بَيْنَ لابَتَيْنِ)).
وذكر الحاكم فى ((مستدركه)) عن علىّ بن أبى طالب أن النبىَّ صلى الله عليه وسلم قال لجبريل: ((مَنْ يُهَاجِرُ مَعِى ؟ قال: أَبُو بَكرٍ الصِّدِّيقُ)) .
قال البراءُ: ((أَوَّلُ مَن قَدِمَ عَلَيْنَا مِنْ أصحَابِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم مُصْعَبُ بنُ عُمير وابنُ أُمِّ مكتومٍ، فجعلا يُقْرِئانِ النَّاسَ القرآنَ، ثم جاء عمارُ وبِلالُ وسعدٌ، ثم جاء عمرُ بنُ الخطَّابِ رضى الله عنه فى عشرين راكباً، ثُمَّ جاء رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فما رأيتُ النَّاسَ فَرِحُوا بشىءٍ كَفَرحِهِمْ بِهِ حَتَّى رَأَيْتُ النِّسَاءَ والصِّـبْيَانَ والإِمَاءَ يَقُولُونَ: هَذَا رَسُولُ الله قَدْ جَاءَ)).
وقال أنس: ((شهدتُه يومَ دخلَ المدينة فما رأيتُ يوماً قطُّ، كان أحسنَ ولا أضوأَ مِن يوم دخلَ المدينة علينا، وشهدتُه يَوْمَ ماتَ، فما رأيتُ يوماً قطُّ، كان أقبحَ ولا أظلمَ مِن يومِ مات)).
فأقام فى منزل أبى أيوب حتى بنى حُجَرَه ومسجدَه، وبعثَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وهو فى منزل أبى أيوب زيدَ بْنَ حارِثة وأبا رافع، وأعطاهما بَعِيَريْنِ وخمسمائة درهم إلى مكة فَقَدِمَا عليه بفاطمة وأُمِّ كلثوم ابنتيه، وسَوَدةَ بنتِ زمعة زوجتهِ، وأُسامةَ بنِ زيد، وأُمَّه أُم أيمن، وأما زينبُ بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يُمَكِّنْهَا زوجُها أبو العاص بن الربيع من الخروج، وخَرج عبدُ الله بن أبى بكر معهم بِعيال أبى بكر، ومنهم عائشة فنزلوا فى بيت حارثة بن النعمان.