فصل في مبايعة النبي صلى الله عليه و سلم في الحرب
 
وكان النبىُّ صلى الله عليه وسلم يُبايعُ أصحَابَه فى الحربِ على ألا يَفِرُّوا، وربَّما بايعهم على الموتِ، وبايعهم على الجهادِ كما بايعهم على الإسلام، وبايعهم على الهِجرةِ قبل الفتح، وبايَعُهُم على التوحيد، والتزامِ طاعةِ الله ورسوله، وبايع نفراً من أصحابه ألا يسألوا الناس شيئاً.
وكانَ السَّوطُ يَسْقُطُ مِن يَدِ أحَدِهِم، فينزلُ عن دابته، فيأخُذُهُ، ولا يَقُولُ لأَحدِ: نَاولْنى إيَّاهُ.
وكان يُشاوِر أصحابه فى أمر الجهاد، وأمر العدو، وتخير المنازل، وفى ((المستدرك)) عن أبى هريرة: ((ما رأيتُ أحداً أكثر مشورةً لأصحابه مِن رسول الله صلى الله عليه وسلم)).
وكان يتخلَّفُ فى ساقَتِهم فى المسير، فيُزجى الضعيفَ، ويُردِفُ المنقطِعَ، وكان أرفق النَّاسِ بهم فى المسير.
وكان إذا أراد غزوة ورَّى بغيرها ، فيقول مثلاً إذا أراد غزوة حنين: كيف طريقُ نجد، ومياهُها، ومَن بها من العدوَّ ونحو ذلك.
وكان يقولُ: ((الحَرْبُ خَدْعَةٌ)).
وكان يبعث العيون يأتونه بخبر عدوِّه، ويُطلِعُ الطلائعَ، ويبِّيتُ الحرسَ.
وكان إذا لقى عدوَّه، وقف ودعا، واستنصرَ الله، وأكثر هو وأصحابُه مِن ذكر الله، وخفضوا أصواتهم.
وكان يرتِّبُ الجيش والمقاتلة، ويجعلُ فى كل جنبةٍ كُفْئاً لها، وكان يُبارَزُ بين يديه بأمرِهِ، وكانَ يَلُبَسُ لِلحرب عُدَّتَه، ورُبَّمَا ظاهر بين دِرْعَيْنِ، وكان له الألويةُ والرايات.
وكان إذا ظهر على قوم، أقام بِعَرْصَتِهِمْ ثَلاثاً، ثم قفل.
وكان إذا أراد يُغير، انتظر، فإن سمع فى الحىِّ مؤذناً، لم يُغِرْ وإلا أغارَ ، وكان ربما بيَّت عدوَّهُ، وربَّما فاجأهم نهاراً.
وكان يحب الخروج يوم الخميس بكرةَ النهار، وكان العسكرُ إذا نزل انضمَّ بعضه إلى بعض حتى لو بُسطَ عليهم كساء لعمَّهم.
وكان يرتب الصفوف ويُعَبِّئُهُم عند القتال بيده، ويقول: ((تقدَّم يا فلان، تأخَّر يا فلان)).
وكان يستحب للرجُلِ منهم أن يُقاتل تحت راية قومِه.
وكان إِذا لَقِىَ العدوَّ، قال: ((اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الكِتَاب، ومُجْرىَ السَّحَاب، وهَازِمَ الأَحْزَابِ، اهْزِمْهُمْ، وانصُرْنَا عَلَيْهم)) ، وربما قال: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ * بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ والسَّاعَةُ أَدْهَى وَأمَرُّ} [القمر: 45-46].
وكان يقُولُ: ((اللَّهُمَّ أَنْزِلْ نَصْرَكَ)).
وكان يقولُ: ((اللَّهُمَّ أَنْتَ عَضُدِى وأَنتَ نَصِيرِى، وَبِكَ أُقَاتِلُ)).
وكان إذا اشتد له بأسٌ، وَحَمِىَ الحربُ، وقصده العدوُّ، يُعِلمُ بنفسه ويقولُ:
أَنَا النَّبِىُّ لا كَذِب أَنَا ابْنُ عَبْدِ المُطَّلِبْ
وكانَ الناسُ إذا اشتدَّ الحَرْبُ اتَّقَوْا به صلى الله عليه وسلم وكانَ أقربَهم إلى العدوِّ.
وكان يجعلُ لأصحابه شِعَاراً فى الحرب يُعْرَفُونَ به إذا تكلَّموا، وكَانَ شِعَارُهُمْ مَرَّة: ((أَمِتْ أَمِتْ))، ومرةً: ((يَا مَنْصْورُ))، ومرة: ((حَم لا يُنْصَرُونَ)).
وكان يلَبسُ الدَّرعَ والخُوذَةَ، ويتقلَّدُ السيفَ، ويَحْمِلُ الرّمح والقوسَ العربية، وكان يتترَّسُ بالتُّرسِ، وكان يُحِبُّ الخُيلاء فى الحربِ، وقال: ((إِنَّ مِنْهَا مَا يُحِبُّهُ اللهُ، وَمِنْهَا مَا يُبْغِضُهُ اللهُ، فأَمَّا الخُيَلاَءُ الَّتِى يُحبُّهَا اللهُ، فاخْتيالُ الرَّجُلِ بِنَفْسِهِ عِنْدَ اللِّقَاءِ، واخْتِيَالُهُ عِنْدَ الصَّدَقَةِ، وَأَمَّا الَّتِى يُبْغِضُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ، فَاخْتِيَالُهُ فى البَغى وَالفَخْرِ)).
وقاتل مرة بالمنجنيق نصبَه على أهل الطائفِ. وكان ينهى عن قتلِ النساءِ والولدانِ، وكان ينظُرُ فى المقاتِلَةِ، فمن رآهُ أَنْبَتَ، قَتَلَهُ، ومَن لم يُنْبِتْ، استحياه.
وكان إذا بعث سريَّة يُوصيهم بتقوى الله، ويقول: ((سيرُوا بِسْم اللهِ وفى سَبِيلِ اللهِ، وقَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ باللَّهِ، وَلاَ تُمَثِّلُوا، وَلاَ تَغْدُرُوا، وَلاَ تَقْتُلُوا وَلِيدَاً)).
وكان ينهى عن السَّفَرِ بالقُرآنِ إلى أرضِ العدوِّ.
وكان يأمر أميرَ سريَّته أن يدعوَ عدوَّه قبل القِتال إمَّا إلى الإسلامِ والهِجرةِ، أو الإسلامِ دون الهِجرة، ويكونون كأعرابِ المسلمين، ليس لهم فى الفىء نصيب، أو بذل الجِزية، فإن هُمْ أجابُوا إليه، قَبِلَ منهم، وإلا استعان باللهِ وقاتلهم.
وكان إذا ظفر بعدوِّه، أمر منادياً، فجمع الغنائمَ كلَّها، فبدأ بالأسلابِ فأعطاها لأهلها، ثم أخرج خُمُسَ الباقى، فوضعه حيث أراه الله، وأمره به مِن مصالح الإسلام، ثم يَرْضَخُ من الباقى لمن لا سهم له مِن النساءِ والصِّـبيانِ والعبيدِ، ثم قسم الباقى بالسَّويَّة بين الجيش، للفارسِ ثلاثةُ أسهم: سهمٌ له، وسهمانِ لفرسه، وللراجل سهم هذا هو الصحيح الثابت عنه.
وكان يُنَفِّلُ مِن صُلْب الغنيمةِ بحسب ما يراه مِن المصلحةِ، وقيل: بل كان النَّفَلُ مِن الخُمُس، وقيل وهو أضعف الأقوال : بل كان من خُمُسِ الخُمُسِ. وجمع لِسلمةَ بن الأكوع فى بعض مغازيه بين سهمِ الراجل والفارس، فأعطاه أربعةَ أسهم لِعظم غَنائِهِ فى تلك الغزوة.
وكان يُسَوِّى الضعيف والقوى فى القِسمة ما عدا النفل.
وكان إذا أغار فى أرض العدوِّ، بعثَ سَرِيَّة بين يديه، فما غَنِمتْ، أخرج خُمُسَهُ، وَنَفَّلَهَا رُبُعَ الباقى، وقسم الباقى بينها وبين سائر الجيش، وإذا رجع، فعل ذلك، ونفَّلها الثلث ومع ذلك، فكان يكرهُ النَّفَلَ، ويقولُ: ((لِيَرُدَّ قَوِىُّ المْؤْمِنِينَ عَلَى ضَعِيفِهِمْ)).
وكانَ له صلى الله عليه وسلم سَهْمٌ من الغنيمة يُدْعَى الصَّفِىَّ، إن شاء عبداً، وإن شاء أمةً، وإن شاءَ فرساً يختارُه قبل الخُمُس.
قالت عائشةُ: ((وكَانَتْ صَفِيَّةُ مِنَ الصّفِىِّ)) رواه أبو داود. ولهذا جَاءَ فى كتابه إلى بنى زهير بن أُقَيْش:
((إِنَّكُمْ إِنْ شَهِدْتُم أَنْ لاَ إِلهَ إِلا اللهُ، وأَنَّ محَمَّداً رسُولُ اللهِ، وأَقَمْتُمُ الصَّلاَةَ، وآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ، وَأَدَّيْتُمُ الخُمُسَ مِنَ المَغْنَمِ وَسَهْم النَّبىَّ صلى الله عليه وسلم، وَسَهْمَ الصَّفِىَّ أَنْتُمْ آمِنُونَ بأَمَانِ الله وَرَسُولِهِ)).
وكان سيفُهُ ذُو الفَقَارِ مِن الصَّفِىِّ.
وكان يُسهِمُ لمن غاب عن الوقعةِ لمصلحةِ المُسلمِينَ، كما أسهم لِعثمان سهمَه مِن بدر، ولم يحضُرْهَا لِمكان تمريضه لامرأتِهِ رُقيَّةَ ابنة رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فقالَ: ((إِنَّ عُثْمَانَ انْطَلَقَ فى حَاجَةِ الله وحاجة رَسُولِهِ))، فَضَربَ لَهُ سَهْمَه وَأَجْرَهُ.
وكانوا يشترون معه فى الغزو ويبيعونَ، وهو يراهم ولا ينهاهم، وأخبره رجل أَنَّهُ رَبحَ ربحاً لم يَرْبحْ أحَدٌ مِثلَهُ، فقال: ((ما هو)) ؟ قال: ما زِلتُ أبيعُ وأبتاعُ حتى رَبِحْتُ ثلاثَمائةِ أُوقيَّة، فقالَ: ((أَنَا أُنَبَئُكَ بِخَيْرِ رَجُلٍ رَبِحَ)) قَالَ: مَا هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ: ((رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الصَّلاة)).
وكانوا يستأجرون الأُجراء للغزو على نوعين، أحدُهما: أن يخرُج الرجلُ، ويستأجِرَ مَنْ يَخْدِمه فى سفرِهِ. والثانى: أن يستأجرَ من ماله مَن يخرج فى الجهاد، ويسمون ذلك الجعائل، وفيها قال النبى صلى الله عليه وسلم: ((للغازى أجرُه، وللجاعِلِ أَجْرُهُ وَأَجْرُ الغَازِى)).
وكانوا يتشاركون فى الغنيمة على نوعين أيضاً، أحدهما: شركة الأبدان، والثانى: أن يدفع الرَّجلُ بعيرَه إلى الرجل أو فرسه يغزُو عليه على النصف مما يغنمُ حتى ربما اقتسما السَّهْمَ، فأصابَ أحدُهُما قِدْحَهُ، والآخر نصلَه ورِيشَه.
وقال ابنُ مسعود: ((اشتركتُ أَنَا وَعَمَّارٌ وسَعْدٌ فيما نُصِيبُ يَوْمَ بَدْرٍ، فَجَاءَ سَعْدٌ بِأَسِيْرَيْنِ، وَلَمْ أَجِىءْ أَنَا وَعَمَّارٌ بِشَىءٍ)).
وكان يبعثُ بالسريَّة فُرساناً تارةً، ورِجَالاً أُخْرَى، وكان لا يُسْهِمُ لِمن قَدِمَ مِن المَدَدِ بعدَ الفتح.


الموضوع التالي


فصل في المغنم

الموضوع السابق


فصل في الشهادة