فصل في نهيه صلى الله عليه و سلم عن النهبة و المثلة و الغلول
 
وكان ينهى فى مغازيه عن النُّهْبَة والمُثْلَةِ وقال: ((مَنِ انْتَهَبَ نُهْبَةً فَلَيْسَ مِنَّا)).
((وأمرَ بالقُدُورِ التى طُبِخَتْ مِنَ النُّهبَى فَأُكْفِئَتْ)).
وذكر أبو داود عَنْ رجلٍ من الأنصار قال: ((خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فى سفرٍ، فأصَابَ النَّاسَ حاجَةٌ شديدةٌ وجَهْدٌ، وأصابُوا غنماً، فانتَهبُوها وإنَّ قُدورنَا لتغلى إذ جَاءَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يمشى على قوسه، فَأَكْفَأَ قُدورَنَا بقوسِهِ، ثُمَّ جعلَ يُرْمِلُ اللَّحمَ بالترابِ، ثمَّ قال: ((إنَّ النُّهْبَةَ لَيْسَتْ بِأَحَلَّ مِنَ المَيْتَةِ، أو إِنَّ المَيْتَةَ لَيْسَتْ بِأَحَلَّ مِنَ النُّهْبَةِ)).
وكان ينهى أن يركبَ الرجلُ دابةً مِن الفىء حتَّى إذا أعجفَهَا، ردَّهَا فيه، وأن يَلْبَسَ الرَّجُلُ ثوباً مِن الفىء حتى إذا أخلقَه، ردَّه فيه ، ولم يمنع من الانتفاع به حال الحرب.
فصل
وكان يُشدِّدُ فى الغُلُولِ جداً، ويقول: ((هُوَ عارٌ ونَارٌ وشَنَارٌ عَلَى أَهْلِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ)).
ولما أُصيبَ غلامهُ مِدْعَمٌ قالوا: هنيئاً لَهُ الجَنَّةُ قال: ((كَلا وَالَّذِى نَفْسى بِيَدِهِ إِنَّ الشَّمْلَةَ الَّتى أَخَذَهَا يَوْمَ خَيْبَر مِنَ الغَنَائِمِ، لَمْ تُصِبْهَا المَقَاسِمُ لَتَشْتَعِلُ عَلَيْهِ نارَاً)) فجاء رجل بِشرَاكٍ أو شِرَاكَيْنِ لما سمِع ذَلِكَ، فقال: ((شِرَاكٌ أَوْ شِرَاكَانِ مِن نارٍ))
وقال أبو هريرة: ((قَامَ فِينَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ الغُلُولَ وعَظَّمهُ، وَعَظَّمَ أَمْرَهُ، فَقَالَ: ((لاَ أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُم يَوْمَ القِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ شَاةٌ لَهَا ثُغَاءٌ، عَلَى رَقَبتِهِ فَرَسٌ لَهُ حَمْحَمَةٌ يَقُولُ: يَا رَسُولَ الله أَغِثْنِى، فَأَقُولُ: لا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئاً قَدْ أَبْلَغْتُكَ، عَلَى رَقَبَتِهِ صَامتٌ، فَيَقُولُ: يَارَسُولَ اللهِ أَغِثْنِى، فأَقُولُ: لا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ الله شَيْئاً، قَدْ أَبْلَغْتُكَ، عَلَى رَقَبَتِهِ رِقَاعٌ تَخْفِقُ فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ الله أَغِثْنِى، فَأَقُولُ: لاَ أَمْلِكُ لَكَ شَيْئاً قَدْ أَبْلَغْتُكَ)).
وقال لمن كانَ عَلَى ثَقَلِهِ وقد مَات: ((هُوَ فى النَّارِ)) فَذَهَبُوا يَنْظُرُونَ فَوَجَدوا عَبَاءَةً قَدْ غَلَّهَا.
وقالوا فى بعضِ غَزَواتِهم: ((فُلانٌ شَهِيدٌ، وفُلانٌ شَهِيدٌ حتَّى مرُّوا على رجُلٍ، فَقَالُوا: وفُلانٌ شَهِيدٌ، فقال: ((كَلا إِنَّى رَأَيْتُهُ فى النَّارِ فى بُرْدَةٍ غَلَّهَا أَوْ عَبَاءَة)) ثمَّ قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((اذْهَبْ يَا ابنَ الخَطَّابِ، اذْهَبْ فَنَادِ فى النَّاسِ: إِنَّهُ لاَ يَدْخُلُ الجَنَّةَ إلا المُؤْمِنُونَ)).
وتُوفى رجلٌ يومَ خيبر، فذكُروا ذلكَ لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((صَلُّوا عَلَى صَاحِبكُم)) فَتَغَيَّرَتْ وُجُوهُ النَّاسِ لذلِكَ، فَقَالَ: ((إنَّ صَاحِبَكُم غَلَّ فى سَبِيلِ الله شَيْئاً))، ففتَّشُوا متاعَه، فوجدُوا خَرزاً مِن خرزِ يَهودٍ لا يُساوى دِرْهَمَيْنِ)).
وكَانَ إذا أصابَ غَنِيمَةً أمرَ بِلالاً، فنادَى فى الناسِ، فيجيؤونَ بِغَنَائِمِهِم، فَيُخَمِّسُه، ويَقْسمُه، فجاء رجلٌ بعد ذلك بِزِمَامٍ مِن شَعر، فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((سَمِعْتَ بِلاَلاً نَادىَ ثَلاَثَاً ؟)) قالَ: نَعَمْ، قَالَ: (( فَمَا مَنَعَكَ أَنْ تَجِىءَ بِهِ ؟)) فاعتذر، فقالَ: ((كُنْ أَنْتَ تَجِىءُ بِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ فَلَنْ أَقْبَلَهُ مِنْكَ)).
فصل
وأمر بتحريقِ متاعِ الغَالِّ وضرِبهِ، وحَرَقَهُ الخليفتانِ الراشِدانِ بعده ، فقيل: هذا منسوخٌ بسائِرِ الأحاديثِ التى ذَكَرْتُ، فإنه لم يَجىء التحريقُ فى شىءٍ منها، وقيل - وهو الصواب - إِنَّ هذَا مِن باب التعزِيرِ والعقوباتِ المالية الراجعةِ إلى اجتهاد الأئمة بحسَبِ المصلحة، فإنه حَرَقَ وتَرَكَ، وكذلِكَ خلفاؤهُ مِن بعده، ونظيرُ هذا قتلُ شارِب الخمر فى الثَّالثة أو الرَّابعة فليسَ بِحَدٍّ ولا منسوخ، وإنما هو تعزيرٌ يتعلَّق باجتهادِ الإمام.