فصل في كيف كان صلى الله عليه وسلم يعامل رسل أعدائه إذا وفدوا عليه
 
وكانت تَقْدَمُ عليه رُسُلُ أعدائه، وهم على عداوته، فلا يَهيجُهم، ولا يقتُلُهُم، ولما قَدِمَ عليه رسولا مُسَيْلِمَةَ الكذَّاب: وهما عبد الله بن النواحة وابنُ أُثال، قال لهما: ((فَمَا تَقُولانِ أَنْتُمَا)) ؟ قالا: نقول كما قال، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لَوْلاَ أَنَّ الرُّسُلَ لا تُقْتَلُ لَضَرَبْتُ أَعْنَاقكُمَا)) فجرت سُنَّته أَلاَّ يُقتلَ رسولٌ.
وكان هَديه أيضاً ألا يُحبس الرسولَ عنده إذا اختار دِينه، فلا يمنعه مِن اللحاق بقومه، بل يردُّه إليهم، كما قال أبو رافعٌ: بعثتنى قُريشٌ إلى النبى صلى الله عليه وسلم، فلما أتيتُهُ، وقع فى قلبى الإسلام، فقلت: يا رَسولَ الله؛ لا أرجع إليهم. فقال: ((إنى لا أَخِيسُ بِالعَهْدِ، ولا أحْبِسُ البُرُدَ، ارْجعْ إليهم، فَإِنْ كَانَ فى قَلْبِكَ الّذِى فيهِ الآن، فارْجع)).
قال أبو داود: وكان هذا فى المدة التى شرط لهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن يردَّ إليهم مَن جاء منهم، وإن كان مسلماً، وأما اليومَ، فلا يصلُح هذا.. انتهى.
وفى قوله: ((لا أحْبِسُ البُرُد)) إشعار بأن هذا حكم يختص بالرسُل مطلقاً، وأما ردُّه لمن جاء إليه منهم وإن كان مسلماً، فهذا إنما يكون مع الشرط، كما قال أبو داود، وأما الرسلُ، فلهم حكم آخر، ألا تراه لم يتعرض لرسولى مسيلمة وقد قالا له فى وجهه: نشهد أن مسيلمة رسول الله.
وكان من هَديه، أن أعداءه إذا عاهدوا واحداً من أصحابه على عهد لا يضُرُّ بالمسلمين من غير رضاه، أمضاه لهم، كما عاهَدُوا حُذَيْفَةَ وَأَبَاه الحُسَيلَ أن لا يُقَاتِلاهم مَعَه صلى الله عليه وسلم، فأمضى لهم ذلك وقال لهما: ((انْصَرِفا، نَفِى لَهُم بعهدهم، ونَسْتَعينُ اللهَ عَلَيهم)).