فصل في ما وقع فى حديث الإفك من الوهم
 
ومما وقع فى حديث الإفك، أن فى بعض طُرق البخارى، عن أبى وائل عن مسروق، قال: سألتُ أمَّ رُومان عن حديثِ الإفك، فحدَّثتنى. قال غيرُ واحد: وهذا غلط ظاهر، فإن أمَّ رُومان ماتت على عهدِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، ونزل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فى قبرها، وقال: (( مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إلى امْرَأَةٍ مِنَ الحُورِ العينِ، فَلْيَنْظُرْ إلى هذه )) قَالُوا: ولو كان مسروقٌ قَدِمَ المدينةَ فى حياتها وسألها، للقى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وسمع منه، ومسروق إنما قَدِمَ المدينة بعد موتِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم. قالوا: وقد روى مسروق، عن أمِّ رومان حديثاً غير هذا، فأرسلَ الروايةَ عنها، فظنَّ بعضُ الرواة، أنه سمع منها، فحمل هذا الحَديث على السماع، قالوا: ولَعل مسروقاً قال: (( سُئلت أم رومانَ )) فتصَّحفت على بعضهم: (( سألت ))، لأن من الناس مَن يكتب الهمزة بالألف على كل حال، وقال آخرون: كل هذا لا يَرُدُّ الرواية الصحيحة التى أدخلها البخارى فى (( صحيحه )) وقد قال ابراهيم الحربى وغيره: إن مسروقاً سألها، وله خمسَ عشرة سنة، ومات وله ثمان وسبعون سنة، وأمُّ رومان أقدمُ مَنْ حدَّثَ عنه، قالوا: وأما حديثُ موتها فى حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونزوله فى قبرها، فحديثٌ لا يَصِحُّ، وفيه علتان تمنعان صِحته، إحداهما: رواية على بن زيد بن جدعان له، وهو ضعيفُ الحديث لا يُحتجُّ بحديثه، والثانية: أنه رواه عن القاسم بن محمد، عن النبى صلى الله عليه وسلم، والقاسم لم يُدرك زمنَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكيف يُقدَّم هذا على حديثٍ إسناده كالشمس يرويه البخارى فى (( صحيحه )) ويقول فيه مسروق: سألتُ أمَّ رومان، فحدثتنى، وهذا يرد أن يكون اللَّفظ: (( سئلت )). وقد قال أبو نعيم فى كتاب (( معرفة الصحابة )): قد قيل: إن أم رومان توفيت فى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو وهم.
فصل
ومما وقع فى حديث الإفك أن فى بعض طرقه: أن علياً قال للنبى صلى الله عليه وسلم لما استشاره: سل الجَارِيَةَ تصدقَكَ، فدعا بَرِيرَة، فسألها، فقالَتْ: ما عَلِمْتُ عليها إلا ما يَعْلَمُ الصائغُ على التِّبْرِ، أو كما قالت، وقد استُشْكِلَ هذا، فإن بريرة إنما كاتبت وعَتَقَتْ بعد هذا بمدَّةِ طوبلة، وكان العباسُ عمُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ ذاك فى المدينة، والعباسُ إنما قَدِمَ المدينةَ بعد الفتح، ولهذا قال له النبىُّ صلى الله عليه وسلم، وقد شَفِعَ إلى بَريرة: أن تُراجعَ زوجَها، فأبت أن تُراجعه: (( يا عبَّاسُ؛ ألا تَعْجَبُ مِنْ بغض بَرِيرَةَ مُغِيثاً وحُبِّهِ لَهَا )).
ففى قصة الإفك، لم تكن بريرةُ عند عائشة، وهذا الذى ذكروه، إن كان لازِماً فيكون الوهمُ مِن تسميته الجارية بريرة، ولم يَقْل له علىُّ: سَلْ بريرَة، وإنما قال: فسل الجارية
تصدُقك، فظن بعضُ الرواة أنها بريرة، فسماها بذلك، وإن لم يلزم بأن يكون طلب مغيث لها استمر إلى بعد الفتح، ولم ييأس منها، زال الإشكال.. والله أعلم.