فصـل فى غزوة خيبر
 
قال موسى بنُ عقبة: ولما قدِمَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم المدينةَ مِن الحُديبية، مَكَثَ بها عشرين ليلةً أو قريباً منها، ثم خرج غازياً إلى خيبر، وكان اللهُ عزَّ وجلَّ وعده إياها، وهو بالحُديبية.
وقال مالك: كان فتحُ خيبرَ فى السنة السادسة، والجمهور: على أنها فى السابعة. وقطع أبو محمد بنُ حزم: بأنها كانت فى السادسةِ بلا شك، ولعل الخلافَ مبنىٌ على أوَّلِ التاريخ، هل هو شهر ربيع الأول شهرُ مَقدَمِه المدينة، أو مِن المحرَّم فى أوَّل السنة ؟ وللناس فى هذا طريقانِ: فالجمهورُ على أن التاريخَ وقع مِن المحرَّم، وأبو محمد بن حزم: يرى أنه مِن شهر ربيع الأول حين قَدِمَ، وكان أوَّلَ مَن أرَّخ بالهجرة يَعلى بن أُمية باليمن، كما رواه الإمام أحمد بإسناد صحيح، وقيل: عمرُ بن الخطاب رضى الله عنه، سنةَ ست عشرة مِن الهجرة.
وقال ابنُ إسحاق: حدثنى الزُّهرى، عن عُروة، عن مروانَ بن الحكم، والمِسور بنِ مَخْرَمَة، أنهما حدَّثاه جميعاً، قالا: انصرفَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عامَ الحُديبية، فنزلت عليه سورةُ الفتح فيما بينَ مكة والمدينة، فأعطاه اللهُ عزَّ وجلَّ فيها خيبرَ: { وَعَدَكُمُ اللهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تأخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ}[الفتح : 20]: خيبر، فقدِم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم المدينةَ فى ذى الحجة، فأقام بها حتى سار إلى خيبر فى المحرَّم، فنزلَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بالرَّجيعِ: وادٍ بين خيبرَ وغَطَفَان، فتخوَّف أن تمدهم غَطَفَانُ، فبات به حتَّى أصبح، فغدا إليهم... انتهى.واستخلف على المدينة سِباعَ بنَ عُرْفُطَةَ، وقَدِمَ أبو هريرة حينئذ المدينة، فوافى سِباعَ بنَ عُرفُطة فى صلاة الصُّبح، فسمِعه يقرأ فى الركعة الأولى: { كهيعص}[مريم : 1]، وفى الثانية: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ}[المطففين : 1]، فقال فى نفسه: ويل لأبى فلان، له مِكيالان، إذا اكتال اكتالَ بالوافى، وإذا كال كال بالناقِص، فلما فرغ من صلاته، أتى سباعاً، فزوَّده حتى قَدِمَ على رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلَّم المسلمينَ، فأشْركُوه وأصحابه فى سُهمانهم.
وقال سلمةُ بنُ الأكوع: (( خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خيبر، فسِرْنا ليلاً، فقال رجلٌ مِن القَومِ لعامر بنِ الأكوع: ألا تُسمِعُنَا مِن هُنَيْهَاتِك، وكان عامر رجلاً شاعراً ؟ فنزل يحدُو بالقوم يقول:
اللًَّهُمَّ لَوْلاَ أَنْتَ مَـا اهْتَدَيْنَا وَلاَ تَصَــــدَّقْنَا وَلاَ صَـلَّيْنَا
فاغْفِر فِدَاءً لَكَ ما اقْــتَفَيْنَا وَثَبِّتِ الأقْــدَامَ إنْ لاَقَـــيْنَا
وَأَنْزِلَنْ سَــكِينةً عَلَيْنـَـا إنَّا إذَا صِــــيحَ بِنَا أَتَــيْنَا
وبِالصِّــيَاحِ عَـوَّلُوا عَلَيْنَا وإنْ أرَادُوا فـِــتْنَةً أَبَيْنـــا
فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (( مَنْ هَذَا السّائِقُ )) ؟ قالوا: عامر. فقال: (( رَحِمَهُ اللهُ ))، فقال رجلٌ مِن القوم: وجبت يا رسولَ اللهِ لولا أمتعتَنَا به. قال: فأتينا خيبر، فحاصرناهم حتى أصابتنا مخمصةٌ شديدة، ثم إنَّ الله تعالى فتح عليهم، فلما أَمْسَوْا، أوقدوا نيراناً كثيرة، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: (( مَا هَذِهِ النِّيرانُ، عَلَى أَىِّ شَىءٍ تُوقِدُونَ )) ؟ قالوا: على لحم. قال: (( عَلَى أَىِّ لَحْمٍ )) ؟ قالوا: على لحم حُمُر أنسـية. فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (( أهْريقُوها واكْسِرُوها ))، فقال رجل: يا رسول الله؛ أو نُهْرِيقُها ونغسِلُها ؟ فقال: (( أو ذَاكَ ))، فلما تصافّ القومُ، خرج مَرْحَب يخطُر بسيفه وهو يقول:
قَد عَلِمَتْ خَيْبَرُ أنى مَرْحَبُ شَاكى السِّلاحِ بَطَلٌ مُجَرَّبُ
إذا الحُرُوبُ أَقْبَلَتْ تَلَهَّبُ
فنزل إليه عامر وهو يقول:
قَدْ عَلِمَتْ خَيْبَرُ أَنِّى عَامِرُ شاكِى السِّلاح بَطَلٌ مُغامِرُ
فاختلفا ضربتين، فوقع سيف مَرْحَب فى ترس عامر، فذهب عامر يَسْفُلُ له، وكان سيفُ عامر فيه قِصر، فرجع عليه ذُباب سيفه، فأصابَ عينَ ركبته، فمات منه، فقال سلمة للنبىِّ صلى الله عليه وسلم: زعمُوا أن عامراً حَبِطَ عملُه، فقال: (( كَذَبَ مَنْ قَالَهُ، إنَّ لَهُ أَجْرَيْنِ وجمع بين أصبعيه إنه لَجَاهِدٌ مُجاهِدٌ، قلَّ عربىٌ مشى بها مِثْلَه )).