فصل إقامته صلى الله عليه و سلم بالمدينة بعد خيبر
 
وأقام رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فى المدينة بعد مقدَمه مِن خَيْبَر إلى شوَّال ، وبعث فى خلال ذلك السرايا .
فمنها : سريةُ أبى بكر الصِّدِّيق رضى الله عنه إلى نجدٍ قِبَلَ بنى فَزارة ، ومعه سلمةُ بنُ الأكوع ، فوقع فى سهمه جاريةٌ حسناء ، فاستوهبها مِنه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ، وفادى بها أسرى من المسلمين كانوا بمكة .
ومنها : سريةُ عمر بن الخطاب رضى الله عنه فى ثلاثين راكباً نحو هوازن ، فجاءهم الخبر ، فهربوا وجاؤوا محالهم ، فلم يَلْقَ منهم أحداً ، فانصرف راجعاً إلى المدينة ، فقال له الدليل : هل لك فى جمعٍ من خَثْعَم جاؤوا سائرين ، وقد أجدبت بلادُهم ؟ فقال عمر : لم يأمرنى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بهم ، ولم يَعْرِضْ لهم .
ومنها : سرية عبد الله بن رواحة فى ثلاثين راكباً ، فيهم عبد الله بن أنيس إلى يسير بن رِزَام اليهودى ، فإنه بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يجمع غَطفان لِيغزوه بهم ، فأتوه بخَيْبَر فقالوا : أرسلنا إليك رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ليستعملك على خَيْبَر ، فلم يزالوا حتى تَبِعَهم فى ثلاثين رجلاً مع كُلِّ رجل منهم رديفٌ من المسلمين ، فلما بلغوا قَرقرة نِيار وهى من خَيْبَر على ستة أميال ندم يسير ، فأهوى بيده إلى سيف عبد الله بن أنيس ، ففطن له عبد الله بن أنيس ، فزجر بعيره ، ثم اقتحم عن البعير يسوقُ القوم حتى إذا استمكن مِن يسير ، ضرب رجله فقطعها ، واقتحم يسير وفى يده مِخرشَ من شوحط ، فضرب به وجه عبد الله فشجَّه مأمومَة ، فانكفأ كُلُّ رجل من المسلمين على رديفه ، فقتله غيرَ رجل مِن اليهود أعجزهم شداً ، ولم يُصَبْ مِن المسلمين أحدٌ ، وقدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فبصق فى شجَّة عبد الله بن أنيس ، فلم تَقِحْ ، ولم تُؤذه حتى مات .
ومنها : سريةُ بشير بن سعد الأنصارى إلى بنى مُرَّة بفدك فى ثلاثين رجلاً ، فخرج إليهم ، فلقى رِعاء الشاء ، فاستاق الشاءَ والنَّعم ، ورجع إلى المدينة ، فأدركه الطلبُ عند الليل ، فباتُوا يرمونهم بالنَبْلِ حتى فنى نَبْلُ بشير وأصحابه ، فولَّى منهم مَنْ ولَّى ، وأُصيب منهم مَنْ أُصيب ، وقاتل بشير قتالاً شديداً ، ورجع القومُ بنَعمهم وشائهم ، وتحامل بشيرٌ حتى انتهى إلى فدك ، فأقام عند يهود حتى برئت جِراحه ، فرجع إلى المدينة
ثم بعث رسولُ الله صلى الله عليه وسلم سرية إلى الحُرَقَةِ من جُهينة ، وفيهم أسامةُ بن زيد ، فلما دنا منهم ، بعث الأميرُ الطلائع ، فلما رجعوا بخبرهم ، أقبل حتى إذا دنا منهم ليلاً ، وقد احتلبوا وهدؤوا، قام فحمدَ الله ، وأثنى عليه بما هو أهلُه ، ثم قال : أوصيكم بتقوى الله وحدَه لا شريكَ له ، وأن تُطيعونى ، ولا تعصونى ، ولا تُخالفوا أمرى ، فإنه لا رأى لمن لا يُطاع ، ثم رتبهم وقال : يا فلان ، أنت وفلان ، ويا فلان أنت وفلان ، لا يُفارِقْ كلٌ منكما صاحِبَه وزميله ، وإياكم أن يَرْجع أحد منكم ، فأقول : أين صاحبك ؟ فيقول : لا أدرى ، فإذا كبَّرتُ ، فكبِّروا ، وجرَّدوا السيوف ، ثم كَبَّروا ، وحملوا حملة واحدة ، وأحاطُوا بالقوم ، وأخذتهم سيوفُ الله ، فهم يضعونها منهم حيث شاؤوا ، وشعارهم : أَمِتْ أمِتْ ، وخرج أُسامة فى أثر رجل منهم يقال له مِرداسُ بن نَهِيك ، فلما دنا منه ، وَلَحَمَهُ بالسيف ، قال : لا إله إلا الله ، فقتله ، ثم استاقوا الشَّاءَ والنَّعم والذُّرِّيَّة ، وكانت سُهمانُهم عشرة أبعرة لكل رجُل أو عِدْلَها من النَّعم ، فلما قَدِمُوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أُخبر بما صنع أُسامة ، فكَبُر ذلك عليه ، وقال : ((أقتَلْتَهُ بَعْدَ مَا قَالَ لاَ إلهَ إلاَّ اللهُ؟)) فَقَالَ : إنَّمَا قالها متعوِّذاً ، قال : ((فَهَلاَّ شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِه)) ثم قال : ((مَنْ لَكَ بلا إله إلاَّ اللهُ يَوْمَ القِيَامَةِ)) ، فما زال يُكرر ذلك عليه حتى تمنَّى أن يكون أسلمَ يومئذ وقال : يا رسولَ الله ؛ أُعطى الله عهداَ ألا أقتُل رجلاَ يقول : لا إله إلا الله ، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : ((بعدى)) فقال أُسامة : بعدك .