فصل في عُمرة القضيِّةِ
 
قال نافع: كانت فى ذى القَعدة سنةَ سبع، وقال سليمان التَّيمى: لما رجعَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم من خيبر، بعث السَّرايا، وأقام بالمدينةِ حتى استهل ذو القَعدة، ثم نادى فى النَّاس بالخروج.
قال موسى بن عقبة: ثم خرجَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم من العام المقبل مِن عام الحُديبية معتمراً فى ذى القَعدة سنةَ سبع، وهو الشهر الذى صدَّه فيه المشركون عن المسجدِ الحرام، حتى إذا بلغ يَأْجُج، وضع الأداة كُلَّهَا: الجَحَف والمِجَانَّ، والنَّبل والرِّماح، ودخلوا بسلاح الراكبِ السيوفِ، وبعث رسولُ الله صلى الله عليه وسلم جعفرَ بنَ أبى طالب بين يديه إلى ميمونة بنتِ الحارث ابن حَزْنِ العامِرِيَّة، فخطبها إليه، فجعلت أمرَها إلى العبَّاس بن عبد المطلب، وكانت أُختها أُم الفضل تحتَه، فزوَّجَهَا العباسُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فلما قَدِمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، أمر أصحابه فقال: ((اكْشِفُوا عَنِ المَنَاكِب، واسْعَوْا فى الطَّوَاف))، لِيَرَى المُشْرِكُونَ جَلَدَهم وقُوَّتَهم. وكان يُكايدُهم بكُلِّ ما استطاع، فوقف أهل مكة: الرجالُ والنساءُ والصبيانُ، ينظرون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وهم يطوفون بالبيت، وعبدُ الله بنُ رواحة بين يدى رسول الله صلى الله عليه وسلم يرتجز متوشِّحاً بالسيف يقول:
خَلُّوا بَنى الكُفَّارِ عَن ْ سَبيلِهِ قَدْ أَنْزَلَ الرَّحْمنُ فى تَنْزِيلِهِ
فى صُحُفٍ تُتْلَى عَلى رَسُولِهِ يَارَبِّ إنِّى مُؤْمِنٌ بِقــيلِهِ
إنِّى رَأَيْتُ الحَــقَّ فى قبُولِهِ اليَوْمَ نَضْرِبْكُمْ عَلى تَأْوِيلِهِ
ضَـرْباً يُزِيلُ الهَامَ عَنْ مَقِيلِه وَيُذْهِلُ الخَلِيلَ عَنْ خَلِيلـهِ
وتغيَّب رجال من المشركين كراهية أن ينظُروا إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم حَنَقَاً وغيظاً، فأقامَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بمكة ثلاثاً، فلما أصبحَ مِن اليوم الرابع، أتاه سُهَيْلُ بنُ عمروٍ، وحُويطِبُ بنُ عبد العُزَّى، ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم فى مجلسِ الأنصارِ يتحدَّث مع سعدِ بن عُبادة، فصاح حُويطب: نناشدُك الله والعقد لما خرَجْتَ مِنْ أرضِنَا، فقد مضت الثلاثُ، فقال: سعد بن عُبادة: كذبتَ لا أُمَّ لك، ليست بأرضِكَ ولا أرض آبائك، واللهِ لا نخرُج، ثم نادى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حُويطِباً أو سُهيلاً، فقال: ((إنِّى قَدْ نَكَحْتُ مِنْكُم امْرَأَةً فما يَضُرُّكُم أَنْ أَمْكُثَ حَتَّى أَدْخُلَ بِهَا، ونَضَعَ الطَعَامَ، فَنَأْكُل، وتَأكُلونَ مَعَنَا))، فقالوا: نُنَاشِدُك الله والعقد إلا خرجتَ عنا، فأمر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أبا رافع، فأذَّنَ بالرحيل، وركِبَ رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزلَ بطنَ سَرِف، فأقام بها، وخلَّف أبا رافع لِيحمِلَ ميمونَةَ إليه حين يُمسى، فأقام حتى قَدِمَتْ ميمونةُ ومَنْ معها، وقد لَقُوا أذى وعَناءً مِن سُفهاءِ المشركين وصِبيانهم، فبنى بها بِسَرِف، ثم أدلجَ وسار حتَّى قَدِمَ المدينة، وقدَّر اللهُ أن يكون قبر ميمونَةَ بِسَرِفَ حيث بنى بها.