فصل في الإشارة إلى ما فى الغزوة من الفقه واللَّطائف
 
كان صلحُ الحديبية مقدِّمةً وتوطئة بينَ يدى هذا الفتح العظيم، أَمِنَ الناسُ به، وكلَّم بعضُهم بعضاً وناظره فى الإسلام، وتمكن مَن اختفى مِن المسلمين بمكة من إظهار دينه، والدعوةِ إليه، والمناظرةِ عليه، ودخل بسببه بَشَرٌ كثيرٌ فى الإسـلام، ولهذا سمَّاه الله فتحاً فى قوله: {إنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً}[الفتح: 1]، نزلت فى شأن الحُديبية، فقال عمر: يا رسول الله ؛ أَوَ فتحٌ هو؟ قال: (( نعم )) . وأعاد سبحانه وتعالى ذكر كونه فتحاً، فقال: {لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ}إلى قوله: {فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُواْ فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً}[الفتح: 27] وهذا شأنه سبحانه أن يُقدِّم بين يدى الأُمور العظيمة مقدِّماتٍ تكونُ كالمدخل إليها، المنبهة عليها، كما قدَّم بين يدى قصة المسيح وخلقه مِن غير أب، قِصة زكريا ، وخلقِ الولد له مع كونه كبيراً لا يُولد لمثله، وكما قدَّم بين يدى نسخ القِبْلة قصةَ البيت وبنائه وتعظيمه، والتنويه بِه، وذِكْر بانيه، وتعظِيمهِ، ومدحه، ووطأ قبل ذلك كُلِّه بذكر النسخ، وحكمته المقتضية له، وقُدرته الشاملة له، وهكذا ما قدَّم بين يدى مبعث رسوله صلى الله عليه وسلم، من قصة الفيل، وبِشارات الكُهَّان به، وغير ذلك، وكذلك الرُّؤيا الصالحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم كانت مقدِّمةً بين يدى الوحى فى اليقظة، وكذلك الهِجرة كانت مقدِّمةً بين يدى الأمر بالجهاد، ومَن تأمل أسرار الشرع والقدر، رأى من ذلك ما تَبْهَرُ حِكمتُه الألبابَ.