فصل فيما ينبغى للإمام من بعث العيون
 
وفيها من الفقه: أن الإمام ينبغى له أن يبعث العيونَ ومَنْ يدخلُ بين عدوه ليأتيه بخبرهم، وأن الإمام إذا سمع بقصد عدوِّه له، وفى جيشه قوة ومَنَعَة لا يقعُد ينتظرهم، بل يسيرُ إليهم، كما سار رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى هَوازِن حتى لقيهم بحُنَيْن .
ومنها: أن الإمام له أن يستعيرَ سلاحَ المشركين وعُدَّتهم لِقتال عدوه، كما استعار رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أدراع صفوان، وهو يومئذ مشركٌ .
ومنها: أن مِن تمام التوكل استعمالَ الأسبابِ التى نصبها الله لمسبباتها قدراَ وشرعاً، فإن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أكملُ الخلق توكُّلاً، وإنما كانوا يَلْقَوْنَ عدوَّهم، وهم متحصِّنُون بأنواع السِّلاح، ودخل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مكَّة، والبَيْضَةُ على رأسه، وقد أنزل الله عليه: {وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}[المائدة: 67]
وكثير ممن لا تحقيق عنده، ولا رسوخ فى العلم يستشكلُ هذا، ويتكايس فى الجواب تارة بأن هذا فعله تعليماً للأُمة، وتارة بأن هذا كان قبلَ نزول الآية . ووقعت فى مصر مسألة سأل عنها بعضُ الأمراء، وقد ذُكِرَ له حديثٌ ذكره أبو القاسم بن عساكر فى ((تاريخه الكبير)) أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم كان بعد أن أهدت له اليهوديةُ الشاةَ المسمومةَ لا يأكل طعاماً قُدِّمَ له حتى يأكل منه مَن قدَّمه .
قالوا: وفى هذا أُسوة للملوك فى ذلك . فقال قائل: كيف يُجمع بين هذا وبين قوله تعالى: { وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}؟ فإذا كانَ الله سبحانه قد ضمن له العِصْمةَ، فهو يعلم أنه لا سبيلَ لبَشَرٍ إليه .
وأجاب بعضهُم بأن هذا يدل على ضعف الحديث، وبعضُهم بأن هذا كان قبلَ نزولِ الآية، فلما نزلت لم يكن لِيفعل ذلك بعدَها، ولو تأمل هؤلاء أن ضمان الله له العِصمة، لا يُنافى تعاطيه لأسبابها، لأغناهم عن هذا التكلُّف، فإن هذا الضمانَ له من ربه تبارك وتعالى لا يُناقِضُ احتراسَه مِن الناس، ولا يُنافيه، كما أن إخبارَ الله سبحانه له بأنه يُظهر دينَه على الدِّينِ كُلِّه، ويُعليه، لا يُناقض أمره بالقتال، وإعدادِ العُدَّة، والقوة، ورباط الخيل، والأخذ بالجد، والحذر، والاحتراس من عدوه، ومحاربته بأنواع الحرب، والتورية، فكان إذا أراد الغزوة، ورَّى بغيرها، وذلك لأن هذا إخبار من الله سبحانه عن عاقبة حاله ومآله بما يتعاطاه من الأسباب التى جـعلها الله مُفضية إلى ذلك، مقتضية له، وهو صلى الله عليه وسلم أعلمُ بربِّه، وأتبعُ لأمره من أن يعطِّل الأسبابَ التى جعلها الله له بحكمته موجبة لما وعده به من النصر والظفر، وإظهار دينه، وغلبته لعدوه، وهذا كما أنه سبحانه ضمن له حياتَه حتَّى يُبلِّغ رسالاتِه، ويُظهر دينه، وهو يتعاطى أسبابَ الحياة مِن المأكل والمشرب، والملبس والمسكن، وهذا موضِعٌ يغلَطُ فيه كثير مِن الناس، حتى آل ذلك ببعضهم إلى أن ترك الدُّعاء، وزعم أنه لا فائدةَ فيه، لأن المسـؤول إن كان قد قُدِّر، ناله ولا بد، وإن لم يُقدَّر، لم ينله، فأى فائدة فى الاشتغال بالدعاء؟ ثم تكايسَ فى الجواب، بأن قال: الدعاءُ عبادة، فيقال لهذا الغالِط: بقى عليك قسم آخر وهو الحقُّ أنه قد قدَّر له مطلوبَه بسببٍ إن تعاطاه، حصل له المطلوبُ، وإن عطل السبب، فاته المطلوب، والدعاء من أعظم الأسباب فى حصول المطلوب، وما مثل هذا الغالط إلا مثلُ مَن يقول: إن كان الله قد قدَّر لى الشبع، فأنا أشبع، أكلتُ أو لم آكل، وإن لم يُقدِّر لى الشبع، لم أشبع أكلتُ أو لم آكل، فما فائدة الأكل؟ وأمثال هذه التُّرَّهات الباطلة المنافية لحكمة الله تعالى وشرعه .. وبالله التوفيق