فصل فى حكم العارية هل هى مضمونة أم لا؟
 
وفيهـا: أن النبى صلى الله عليه وسلم شرط لصـفوان فى العارية الضمان، فقال: ((بَلْ عَارِيَّةٌ مَضْمُونَةٌ)) فهل هذا إخبار عن شرعه فى العارية، ووصف لها بوصفٍ شرعه الله فيها، وأن حكمها الضمانُ كما يُضمن المغصوب، أو إخبار عن ضمانها بالأداء بعينها، ومعناه: أنى ضامن لك تأديَتَها، وأنها لا تذهب، بل أردها إليك بعينها؟ هذا مما اختلف فيه الفقهاء.
فقال الشافعى وأحمد بالأول، وأنها مضمونة بالتلف، وقال أبو حنيفة ومالك بالثانى، وأنها مضمونة بالرد على تفصيل فى مذهب مالك، وهو أن العَيْن إن كانت مما لا يُغاب عليه، كالحيوان والعَقار، لم تُضمن بالتلف إلا أن يظهر كَذِبه، وإن كانت مما يُغاب عليه كالحلى ونحوه، ضُمنت بالتلف إلا أن يأتىَ ببينة تشهد على التلف، وسر مذهبه أن العارية أمانة غيرُ مضمونة كما قال أبو حنيفة، إلا أنه لا يُقبل قوله فيما يخالف الظاهر، فلذلك فرَّق بين ما يُغاب عليه، وما لا يُغاب عليه.
ومأخذ المسألة أن قوله صلى الله عليه وسلم لصفوان: ((بَلْ عَارِيَّةٌ مَضْمُونَةٌ))، هل أراد به أنها مضمونة بالرد أو بالتلف؟ أى: أضمنها إن تلفت، أو أضمن لك ردَّها، وهو يحتمل الأمرين، وهو فى ضمان الرد أظهرُ لثلاثة أوجه:
أحدها: أنَّ فى اللَّفظ الآخر: ((بَلْ عَارِيَّةٌ مُؤَدَّاةٌ))، فهذا يبينُ أن قوله: ((مضمونة))، المراد به: المضمونة بالأداء.
الثانى: أنَّه لم يسأله عن تلفها، وإنما سأله هل تأخذها منى أخذَ غصب تحولُ بينى وبينها؟ فقال: ((لا بل أخذ عارية أُؤديها إليك)). ولو كان سأله عن تلفها وقال: أخاف أن تذهب، لناسب أن يقول: أنا ضامن لها إن تلفت.
الثالث: أنَّه جعل الضمانَ صِفة لها نفسها، ولو كان ضمانَ تلف، لكان الضمانُ لِبدلها، فلما وقع الضمانُ على ذاتها، دل على أنه ضمانُ أداء.
فإن قيل: ففى القصة أن بعض الدروع ضاع، فعرض عليه النبى صلى الله عليه وسلم أن يضمنها، فقال: أنا اليوم فى الإسـلام أرغبُ، قيل: هل عرض عليه أمراً واجباً أو أمراً جائزاً مُستحَباً الأَوْلى فعلُه، وهو من مكارم الأخلاق والشيم، ومن محاسن الشريعة؟ وقد يترجح الثانى بأنه عرض عليه الضمان، ولو كان الضمان واجباً، لم يعرضه عليه، بل كان يفى له به، ويقول: هذا حقُّك، كما لو كان الذاهب بعينه موجوداً، فإنه لم يكن ليعرض عليه رده فتأمله