فصل في جواز بيع الرقيق والحيوان بعضه ببعض
 
وفيها: أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: ((مَن لم يُطيِّبْ نَفْسَه، فَلَهُ بِكُلِّ فريضَةٍ ستُّ فرائض مِنْ أوَّل ما يفئ اللهُ عَلَيْنَا)).
ففى هذا دليل على جواز بيع الرقيق، بل الحيوان بعضه ببعض نسيئةً ومتفاضلاً.
وفى ((السنن)) من حديث عبد الله بن عمرو، أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أمره أن يجهز جيشاً، فنفدت الإبل، فأمره أن يأخذ على قلائص الصدقة، وكان يأخذُ البعيرَ بالبعيرين إلى إبل الصَّدَقَةِ.
وفى ((السنن)) عن ابن عمر، عنهُ صلَّى الله عليه وَسلّم أنه نهى عن بَيْع الحَيَوانِ بالحيوان نسيئةً، ورواه الترمذى من حديث الحسن عن سمرة، وصحَّحه.
وفى الترمذى من حديث الحجاج بن أرطاة، عن أبى الزبير، عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الحَيَوَانُ اثْنَانِ بِوَاحِدٍ لا يَصْلُحُ نَسِيئاً، ولا بَأسَ بِهِ يَداً بيدٍ)) قال الترمذى: حديث حسن.
فاختلف الناس فى هذه الأحاديث، على أربعة أقوال، وهى روايات عن أحمد.
أحدها: جواز ذلك متفاضلاً، ومتساوياً، نسيئة، ويداً بيدٍ، وهو مذهب أبى حنيفة، والشافعى.
والثانى: لا يجوز ذلك نسيئةً، ولا متفاضلاً.
والثالث: يحرم الجمع بين النَّساء والتفاضل،ويجوز البيع مع أحدهما، وهو قولُ مالك رحمه الله.
والرابع: إن اتحد الجنس، جاز التفاضُلُ، وحَرمَ النَّساء، وإن اختلف الجنس، جاز التفاضل والنَّساء.
وللناس فى هذه الأحاديث والتأليفِ بينها ثلاثة مسالك:
أحدها: تضعيفُ حديث الحسن عن سمرة، لأنه لم يُسمع منه سوى حديثين ليس هذا منهما، وتضعيفُ حديث الحجاج بن أرطاة.
والمسلك الثانى: دعوى النسخ، وإنلم يتبين المتأخِّر منها من المتقدِّم، ولذلك وقع الاختلاف.
والمسلك الثالث: حملُها على أحوال مختلفة، وهو أن النهى عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة، إنما كان لأنه ذريعة إلى النسيئة فى الربويات، فإن البائع إذا رأى ما فى هذا البيعِ من الربح لم تقتصر نفسه عليه، بل تجره إلى بيع الربوى كذلك، فسدَّ عليهم الذريعة، وأباحه يدَاً بيدٍ، ومنع من النَّساء فيه، وما حُرِّم للذريعة يُباح للمصلحة الراجحة، كما أباح مِن المُزابنة العرايا للمصلحة الراجحة، وأباح ما تدعو إليه الحاجةُ منها، وكذلك بيعُ الحيوان بالحيوان نسيئة متفاضلاً فى هذه القصة، وفى حديث ابن عمر إنما وقع فى الجهاد، وحاجة المسلمين إلى تجهيز الجيش، ومعلوم أن مصلحةَ تجهيزه أرجحُ من المفسدة فى بيع الحيوان بالحيوان نسيئة، والشريعةُ لا تُعطِّلُ المصلحة الراجحة لأجل المرجوحة، ونظير هذا جوازُ لبس الحرير فى الحرب، وجوازُ الخُيلاء فيها، إذ مصلحة ذلك أرجح من مفسدة لبسه، ونظيرُ ذلك لِباسه القَبَاء الحرير الذى أهداه له ملك ((أيلة)) ساعة، ثم نزعه للمصلحة الراجحة فى تأليفه وجبره، وكان هذا بعد النهى عن لباس الحرير، كما بيَّناه مستوفًى فى كتاب ((التخيير فيما يحل ويحرم من لباس الحرير))، وبيَّنا أن هذا كان عامَ الوفود سنة تسع، وأن النهىَ عن لباس الحريركان قبلَ ذلك، بدليل أنه نهى عمر عن لبس الحُلة الحرير التى أعطاه إياها، فكساها عمر أخاً له مشركاً بمكة، وهذا كان قبلَ الفتح، ولباسه صلى الله عليه وسلم هدية ملك ((أيلة)) كان بعد ذلك، ونظير هذا نهيُه صلى الله عليه وسلم عن الصلاة قبل طلوع الشمس، وبعد العصر، سداً لذريعة التشبه بالكفار، وأباح ما فيه مصلحة راجحة مِن قضاء الفوائت، وقضاء السنن، وصلاة الجنازة، وتحية المسجد، لأن مصلحة فعلها أرجح من مفسدة النهى.. والله أعلم.
وفى القصة دليل على أن المتعاقدين إذا جعلا بينهما أجلاً غيرَ محدود، جاز إذا اتفقا عليه ورضيا به، وقد نص أحمد على جوازه فى رواية عنه فى الخيار مدة غير محدودة، أنه يكون جائزاً حتى يقطعاه، وهذا هو الراجح، إذ لا محذور فى ذلك، ولا عذر، وكل منهما قد دخل على بصيرة ورضى بموجب العقد، فكلاهما فى العلم به سواء، فليس لأحدهما مزية على الآخر، فلا يكون ذلك ظلماً