فصل فى أنَّ مَن قتل قتيلاً فله سَلَبُه
 
وفى هذه الغزوة أنه قال:((مَنْ قَتَلَ قَتِيلاً، لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ، فَلَهُ سَلَبُه)) وقاله فى غزوة أُخرى قبلها، فاختلف الفقهاء، هل هذا السَلَب مُستحَقٌ بالشرع أو بالشرط؟ على قولين، هما روايتان عن أحمد.
أحدهما: أنه له بالشرع، شرطه الإمامُ أو لم يَشرِطه، وهو قول الشافعى.
والثانى: أنه لا يُستحَق إلا بشرط الإمام، وهو قول أبى حنيفة. وقال مالك رحمه الله: لا يُستحَق إلا بشرط الإمام بعد القتال. فلو نص قبله، لم يجز. قال مالك: ولم يبلغنى أن النبى صلى الله عليه وسلم قال ذلك إلا يوم حُنَيْن، وإنما نفَّل النبىُّ صلى الله عليه وسلم بعد أن برد القتال.
ومأخذ النزاع أن النبى صلى الله عليه وسلم كان هو الإمام، والحاكم، والمفتى، وهو الرسول، فقد يقول الحكمَ بمنصب الرسالة، فيكون شرعاً عاماً إلى يوم القيامة كقوله: ((مَنْ أَحْدَثَ فى أمْرنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُو رَدٌّ)). وقوله: ((مَنْ زَرَعَ فى أرْضِ قَوْمٍ بِغَيْرِ إذْنِهِمْ فَلَيْسَ لَهُ مِنَ الزَّرْع شَىءٌ، وَلَهُ نَفَقَتُهُ))، وكحكمه ((بالشَّاهدِ، واليمينِ))، و((بالشُّفعة فيما لم يُقْسَمْ)).
وقد يقول بمنصب الفتوى، كقوله لهِند بنتِ عُتبة امرأة أبى سُفيان، وقد شكَتْ إليه شُحَّ زوجِها، وأنه لا يُعطيها ما يكفيها: ((خُذِى مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ)) فهذه فتيا لا حكم، إذ لم يدعُ بأبى سفيان، ولم يسأله عن جواب الدعوى، ولا سألها البيِّنة.
وقد يقوله بمنصب الإمامة، فيكون مصلحة للأُمة فى ذلك الوقت، وذلك المكان، وعلى تلك الحال، فيلزم مَن بعده من الأئمة مراعاة ذلك على حسب المصلحة التى راعاها النبى صلى الله عليه وسلم زماناً ومكاناً وحالاً، ومن ههنا تختلِفُ الأئمة فى كثير من المواضع التى فيها أثر عنه صلى الله عليه وسلم كقوله صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ قَتَلَ قَتِيلاً فَلَهُ سَلَبُهُ)) هل قاله بمنصب الإمامة، فيكون حكمه متعلقاً بالأئمة، أو بمنصب الرسالة والنبوة،فيكون شرعاً عاماً؟وكذلك قوله: ((مَنْ أَحْيا أرْضاً مَيتَةً فَهِىَ لَهُ)) هل هو شرع عام لكل أحد، أَذِنَ فيه الإمام، أو لم يأذن، أو هو راجع إلى الأئمة، فلا يُملك بالإحياء إلا بإذن الإمام؟ على القولين، فالأول: للشافعى وأحمد فى ظاهر مذهبهما.
والثانى: لأبى حنيفة، وفرَّق مالك بين الفلوات الواسعة، وما لا يتشاح فيه الناس، وبين ما يقع فيه التشاح، فاعتبر إذن الإمام فى الثانى دون الأول.