فصل فى السرايا والبعوث فى سنة تسع
 
ذكر سَرِيَّة عُيينة بن حصن الفَزَارى إلى بنى تميم، وذلك فى المحرَّم من هذه السنة، بعثه إليهم فى سَرِيَّة لِيغزوهم فى خمسين فارساً ليس فيهم مهاجرى ولا أنصارى، فكان يسيرُ الليل ويكمُن النهار، فهجم عليهم فى صحراء، وقد سرَّحوا مواشيهم، فلما رأوا الجمع ولَّوْا، فأخذ منهم أحد عشر رجلا وإحدى وعشرين امرأة وثلاثين صبياً، فساقهم إلى المدينة،فأُنزِلُوا فى دار رملة بنت الحارث فقدم فيهم عدة من رؤسائهم: عطارد بن حاجب، والزِّبْرقان بن بدر، وقيس بن عاصم، والأقرع بن حابس، وقيس بن الحارث، ونعيم بن سعد، وعمرو بن الأهتم، ورباح بن الحارث، فلما رأوا نِساءهم وذراريَهم، بكوا إليهم، فَعَجِلُوا، فجاؤوا إلى باب النبى صلى الله عليه وسلم، فنادوا: يا محمد اخرُج إلينا، فخرج رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وأقام بلالٌ الصلاة، وتعلَّقُوا برسول الله صلى الله عليه وسلم يكلمونه، فوقف معهم، ثم مضى فصلَّى الظهرَ، ثم جلس فى صحن المسجد، فقدَّموا عُطارد بن حاجب، فتكلَّم وخطب، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثابت بن قيس ابن شماس، فأجابهم، وأنزل الله فيهم:{إنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِن وَرَاءِ الحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعقِلُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُواْ حَتَّى تَخْرُجَ إلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ، وَاللهُ غَفُورٌ رَّحيمٌ}[الحجرات: 4-5 فردَّ عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الأسرى والسبىَ.
فقام الزِّبْرقان شاعر بَنى تميم فأنشد مفاخراً
نَحْــن الكِرامُ فَلا حَىٌ يُعادِلُنَـا مِنَّا المُلُوكُ، وفِينا تُنْصَبُ البِيَــعُ
وكـم قَسَرْنَا من الأحْياءِ كُلِّهِـم عند النِّهابِ وفَضْلُ العزِّ يُتَّبِــعُ
ونَحْنُ يُطْعِمُ عِنْدَ القَحْطِ مُطْعِمُنَـا مِن الشِّواءِ إذا لم يُؤْنَس القــَزَعُ
بِمَا تَرَى النَّاسَ تَأْتِينَا سَرَاتُهُــمُ مِنْ كُلِّ أرْضٍ هُويّاً ثُمَّ نَصْطَنِــعُ
فَنَنْحَرُ الكُومَ عُبْطاً فِى أَرُومَتِنَــا للنازلين إذا ما أُنْزِلُوا شَبِعُـــوا
فلا ترانا إلى حىٍّ نُفاخِرُهُـــم إلا اسْتَفَادُوا فَكَانُوا الرَّأْسَ يُقْتَطعُ
فمَـــنْ يُفَاخِرُنَا فى ذَاكَ نَعْرِفُه فَيَرْجِعُ القَوْمُ والأخْبَارُ تُسْتَمَـعُ
إنَّا أَبَيْنَا وَلاَ يَأْبَى لَنَا أحَــــدٌ إنَّا كَذلِكَ عِنْدَ الفَخْـر نَرْتَفِـع
فقام شاعر الإسلام حسَّان بن ثابت، فأجابه على البديهة:
إنَّ الذَّوائِبَ مِنْ فِهْرٍ وإخْوَتِهِـمْ قَدْ بَيَّنُوا سُـنَّةً لِلنَّاس تُتَّبَـــعُ
يَرْضَى ِبها كُلُّ مَنْ كَانَتْ سَـرِيرَتُهُ تَقْوى الإله وكُلُّ الخَيْر مُصْطَنَـعُ
قَـوْمٌ إذا حَارَبُوا ضَرُّوا عَدُوَّهُم أَوْ حَاوَلُوا النَّفْعَ فى أَشْيَاعِهِمْ نَفَعُوا
سَجِيَّةٌ تِلْكَ فِيهمْ غَيْرُ مُحْــدَثَةٍ إنَّ الخَلائِقَ فاعْلَم شَرُّهَا البِـدَعُ
إنْ كَانَ فِى النَّاسِ سَبَّاقُونَ بَعْدَهُمُ فَكُـلُّ سَبقٍ لأَدْنَى سَبْقِهِمْ تَبَـعُ
لاَ يَرْقَعُ النَّاسُ مَا أَوْهَتْ أَكُفُّهُـمُ عِنْدَ الدِّفَاعِ ولاَ يُوهُونَ مَا رَقَعُوا
إنْ سَابَقُوا النَّاسَ يَوْمَاً فَازَ سَبْقُهُم أَوْ وازَنُوا أَهْلَ مَجْدٍ بِالنَّدى مَتَعُوا
أَعِفَّةٌ ذُكِرَتْ فى الوَحْى عِفَّتُهُـمْ لاَ يَطْبَعُونَ وَلا يُرْدِيـهُمُ الطَّمَـعُ
لاَ يَبْخَلُونَ عَلَى جَار بفَضْلِهِمُ وَلا يَمَسُّهُمُ مِنْ مَطْمَعٍ طَبَـعُ
إذَا نَصَبْنَا لِحَىٍّ لَمْ نَدِبَّ لَهُـمْ كَمَا يَدِبُّ إلى الوَحْشيّةِ الـذُّرُعُ
نَسْمُوا إذا الحَرْبُ نَالَتْنَا مَخَالِبُهَا إذا الزَّعَانِفُ مِنْ أَظْفَارِهَا خَشَعُوا
لاَ يَفْخَرُونَ إذَا نَالُوا عَدُوَّهُـمُ وإنْ أُصِيبُوا فَلا جَـوْرٌ وَلاَ هَلَـعُ
كَأَنَّهُمْ فى الوَغَى والمَوْتُ مُكْتَنِـعٌ أُسْدٌ بحلية فى أرسَاغِهـا فَـدَعُ
خُذْ مِنْهُمُ مَا أتَوا عَفْواً إذا غضبُوا وَلا يَكُنْ هَمكَ الأمْرَ الَّذِى منعُوا
فَإنَّ فى حَرْبِهِمْ فَاتْرُكْ عَدَاوَتَهُـمْ شَراً يُخاضُ عَلَيْهِ السُّمُّ والسَّلَـعُ
أَكْـرِمْ بِقَوْمٍ رَسُولُ اللهِ شِيعَتُهُمْ إذَا تَفَاوَتَتِ الأهـوَاءُ والشِّيَــعُ
أَهْدَى لَهُمْ مِدْحَتِى قَلْبٌ يُـوَازِرُهُ فيما أحَبَّ لِسَانٌ حائِكٌ صَنَـعُ
فَإنَّهُمْ أَفْضَـلُ الأَحْيَاءِ كُلِّهِـم إنْ جَدَّ بِالنَّاسِ جِدُّ القَوْل أو شمعوا
فلما فرغ حسَّان، قال الأقرع بن حابس: إنَّ هذا الرجل لَمُؤَتَّى له، لَخطيبُه أخطبُ مِن خطيبنا، ولَشاعره أشعر من شاعرنا، ولأصواتهم أعلى من أصواتنا، ثم أسلموا، فأجازهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فأحسن جوائزهم .