فصل في جواز إنشاد الشِّعر للقادم فرحاً وسروراً به
 
ومنها: جواز إنشادِ الشِّعر للقادم فرحاً وسروراً به ما لم يكن معه مُحرَّم من لهو، كمزمار، وشبابة، وعود، ولم يكن غناءً يتضمن رُقية الفواحش، وما حرَّم الله، فهذا لا يُحَرِّمُه أحد، وتَعَلُّقُ أربابِ السماع الفِسقى به كتعلق مَن يستحِلُّ شُربَ الخمر المسكر قياساً على أكل العنب، وشرب العصير الذى لا يُسْكِر، ونحو هذا من القياسات التى تشبه قياس الذين قالوا: إنما البيع مثل الربا.
ومنها: استماعُ النبى صلى الله عليه وسلم مدحَ المادحين له، وتركُ الإنكار عليهم، ولا يَصِحُّ قياسُ غيره عليه فى هذا، لما بين المادحين والممدوحين من الفروق، وقد قال: ((احْثُوا فى وُجُوه المَدَّاحِينَ التُّرابَ)).
ومنها: ما اشتملت عليه قصةُ الثلاثة الذين خُلِّفُوا مِن الحِكَم والفوائد الجمَّة، فنشيرُ إلى بعضُها:
فمنها: جوازُ إخبار الرجل عن تفريطه وتقصِيرِه فى طاعة الله ورسوله، وعن سبب ذلك، وما آل إليه أمرُه، وفى ذلك مِن التحذير والنصيحة، وبيانِ طُرُقِ الخير والشر، وما يترتب عليها ما هو من أهم الأُمور.
ومنها: جوازُ مدح الإنسان نفسه بما فيه من الخير إذا لم يكن على سبيل الفخر والترفع.
ومنها: تسلية الإنسان نفسَه عما لم يُقدَّر له من الخير بِما قُدِّر له مِن نظيره أو خير منه.
ومنها: أن بَيْعةَ العَقَبَةِ كانت مِن أفضل مشاهد الصحابة، حتى إن كعباً كان لا يراها دونَ مشهد بدر.
ومنها: أن الإمام إذا رأى المصلحة فى أن يستر عن رعيته بعضَ ما يهم به ويقصِدُه من العدو، ويُورِّى به عنه، استُحِبَّ له ذلك، أو يتعين بحسب المصلحة.
ومنها أن السِّترَ والكِتمان إذا تضمن مفسدة، لم يجز.
ومنها: أن الجيشَ فى حياة النبى صلى الله عليه وسلم لم يكن لهم دِيوان، وأول مَن دوَّن الدِّيوان عمر بن الخطاب رضى الله عنه، وهذا مِن سُـنَّته التى أمر النبى صلى الله عليه وسلم باتباعها، وظهرت مصلحتُها، وحاجةُ المسلمين إليها.
ومنها: أن الرجلَ إذا حضرت له فُرصةُ القُربة والطاعة، فالحزمُ كُلُّ الحزم فى انتهازها، والمبادرة إليها، والعجزُ فى تأخيرها، والتسويف بها، ولا سيما إذا لم يثق بقدرته وتمكنه من أسباب تحصيلها، فإن العزائم والهمم سريعةُ الانتقاض قلَّما ثبتت، والله سُبحانه يُعاقب مَنْ فتح له باباً من الخير فلم ينتهزه، بأن يحول بين قلبه وإرادته، فلا يُمكنه بعد من إرادته عقوبةً له، فمن لم يَستَجِبْ للهِ ورسوله إذا دعاه، حالَ بينه وبين قلبه وإرادته، فلا يمكنه الاستجابةُ بعد ذلك. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ للهِ وَلِلرَّسُولِ إذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ، وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ}[الأنفال: 24، وقد صرَّح الله سبحانه بهذا فى قوله: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ}[الأنعام: 110 ، وقال تعالى: {فَلَمَّا زَاغُواْ أَزَاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ}[الصف: 5 . وقال: {وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ}[التوبة: 115 وهو كثير فى القرآن.
ومنها: أنه لم يكن يتخلَّفُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أحد رجال ثلاثة: إما مغموصٌ عليه فى النفاق، أو رجلٌ من أهل الأعذار، أو من خلَّفَهُ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم واستعمله على المدينة، أو خَلَّفه لمصلحة.
ومنها: أن الإمام والمطاعَ لا ينبغى له أن يُهمِلَ مَنْ تخلَّفَ عنه فى بعض الأُمور، بل يُذكِّره ليراجع الطاعة ويتوب، فإن النبى صلى الله عليه وسلم قال بتبوك: ((مَا فَعَلَ كَعْب))؟ ولم يذكر سِواه من المخلَّفين استصلاحاً له، ومُرعاةً وإهمالاً للقوم المنافقين.
ومنها: جوازُ الطعنِ فى الرجل بما يغلِبُ على اجتهادِ الطاعن حميةً، أو ذبّاً عن الله ورسوله، ومن هذا طعنُ أهل الحديث فيمن طعنوا فيه من الرواة، ومن هذا طعنُ ورثة الأنبياء وأهل السُّـنَّة فى أهل الأهواء والبِدَع للهِ لا لحظوظهم وأغراضهم.
ومنها: جوازُ الرد على الطاعن إذا غلب على ظن الرادِّ أنه وهم وغلط، كما قال معاذ للذى طعن فى كعب: بئس ما قلتَ، واللهِ يا رسولَ الله ما علمنا عليه إلاَّ خيراً، ولم يُنْكِرْ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على واحد منهما.
ومنها: أن السُّـنَّة للقادم من السفر أن يدخل البلَد على وضوء، وأن يبدأ ببيت الله قبل بيته، فيُصَلِّى فيه ركعتين، ثم يجلس للمسلِّمين عليه، ثم ينصرفُ إلى أهله.
ومنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقبل علانية مَن أظهر الإسلام من المنافقين، ويَكِلُ سريرته إلى الله، ويُجرى عليه حكم الظاهر، ولا يُعاقبه بما لم يعلم مِن سِرِّه.
ومنها: تركُ الإمام والحاكم ردَّ السلام على مَن أحدث حَدَثاً تأديباً له، وزجراً لغيره، فإنه صلى الله عليه وسلم لم يُنقل أنه رَدَّ على كعب، بل قابل سلامه بتبسم المُغْضَبِ.
ومنها: أن التبسم قد يكون عن الغضب، كما يكون عن التعجب والسرور، فإن كلاّ منهما يُوجب انبساط دمِ القلب وثورانه، ولهذا تظهر حمرةُ الوجه لسرعة ثورانِ الدم فيه، فينشأ عن ذلك السرور، والغضب تعجُّبٌ يتبعهُ ضحك وتبسم، فلا يغتر المغتر بضحك القادر عليه فى وجهه، ولا سيما عند المَعتَبَةِ كما قيل:
إذا رَأَيْتَ نُيُوبَ اللَّيْثِ بَارِزَة فَلا تَظُّنَّنَّ أنَّ اللَّيْثَ مُبْتَسِمُ
ومنها: معاتبةُ الإمام والمطاع أصحابه، ومَن يعز عليه، ويَكْرُم عليه، فإنه عاتَب الثلاثة دونَ سائِر مَنْ تخلَّف عنه، وقد أكثر الناسُ من مدح عتاب الأحبة، واستلذاذه، والسرور به، فكيف بعتاب أحبِّ الخلق على الإطلاق إلى المعتوب عليه، ولله ما كان أحلى ذلك العتاب، وما أعظم ثمرتَه، وأجلَّ فائدتَه، ولله ما نال به الثلاثةُ مِن أنواع المسرَّات، وحلاوةِ الرضى، وخِلَعِ القبول.
ومنها: توفيقُ اللهِ لكعب وصاحبيه فيما جاؤوا به من الصدق، ولم يخذلهم حتى كذبوا واعتذروا بغير الحق، فصلُحت عاجلتهم، وفسدت عاقبتهُم كلَّ الفساد، والصادقون تعبوا فى العاجلة بعضَ التعب، فأعقبهم صلاح العاقبة، والفلاح كُلَّ الفلاح، وعلى هذا قامت الدنيا والآخرة، فمراراتُ المبادى حلاوات فى العواقب، وحلاوات المبادى مرارات فى العواقب. وقول النبىِّ صلى الله عليه وسلم لكعب: ((أما هذا، فقد صدق))، دليلٌ ظاهر فى التمسك بمفهوم اللَّقب عند قيام قرينة تقتضى تخصيص المذكور بالحكم، كقوله تعالى: {وَداوُدَ وَسُلَيْمَانَ إذْ يَحْكُمَانِ فِى الْحَرْثِ إذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ}[الأنبياء: 78-79 ، وقوله صـلى الله عليه وسلم: ((جُعِلت لى الأرضُ مسجداً وتُرْبَتُها طهوراً))، وقوله فى هذا الحديث: ((أما هذا فقد صدق))، وهذا مما لا يشك السامع أن المتكلم قصد تخصيصه بالحكم.
وقول كعب: هل لقى هذا معى أحد؟ فقالوا: نعم، مرارة بن الربيع، وهلال بن أُمية، فيه أن الرجل ينبغى له أن يردَّ حرَّ المصيبة بروح التأسى بمن لقى مثل ما لقى، وقد أرشد سبحانه إلى ذلك بقوله تعالى: {وَلاَ تَهِنُواْ فِى ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ، إنْ تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ، وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ مَا لاَ يَرْجُونَ} [النساء: 104 ، وهذا هو الروح الذى منعه الله سبحانه أهلَ النارِ فيها بقوله: {وَلَن يَنْفَعَكُمُ اليَوْمَ إذ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِى الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} [الزخرف: 39
وقوله: ((فذكروا لى رجلين صالحين قد شهدا بدراً لى فيهما أُسوة)) هذا الموضع مما عُدَّ من أوهام الزُّهْرى، فإنه لا يُحفظ عن أحد من أهل المغازى والسير البتة ذِكرُ هذين الرجلين فى أهل بدر، لا ابن إسحاق ولا موسى ابن عقبة، ولا الأموى، ولا الواقدى، ولا أحد ممن عدَّ أهل بدر، وكذلك ينبغى ألاَّ يكونا من أهل بدر، فإن النبى صلى الله عليه وسلم لمْ يَهْجُرْ حاطباً، ولا عاقبه وقد جسَّ عليه، وقال لعمر لما هَمَّ بقتله: ((وما يُدريكَ أن الله اطلع على أَهْلِ بدرٍ فقال: اعملوا ما شِئتُم فقد غفرتُ لكم))، وأين ذنبُ التخلف من ذنب الجسِّ.
قال أبو الفرج بن الجوزى: ولم أزل حريصاً على كشف ذلك وتحقيقه حتى رأيتُ أبا بكر الأثرم قد ذكر الزُّهْرى، وذكر فضله وحفظه وإتقانه، وأنه لا يكاد يُحفظ عليه غلط إلا فى هذا الموضع، فإنه قال: إن مرارة بن الربيع، وهلال بن أُمية شهدا بدراً، وهذا لم يقله أحدٌ غيره، والغلط لا يُعصم منه إنسان.