فصل في قدوم وفد عبد القيس وما فى قصتهم من الفوائد
 
فى ((الصحيحين)) مِن حديث ابنِ عباس: أنَّ وفدَ عبد القيس قَدِمُوا على النبى صلى الله عليه وسلم، فقال: ((مِمَّنِ القَوْمُ))؟ فقالوا: مِن رَبيعة. فقال: ((مَرْحَباً بِالوَفْدِ غَيْرَ خَزَايَا وَلاَ نَدَامَى)). فقالوا: يا رسول الله؛ إن بيننا وبينك هذا الحىَّ مِن كفار مُضَرَ، وإنَّا لا نِصِلُ إليك إلا فى شهرٍ حرام، فمُرنا بأَمْرٍ فَصْلٍ نأخذُ به ونأمر به مَن وراءنا، وندخُل به الجنَّة، فقال: ((آمُرُكُم بأَرْبَعٍ، وأَنْهاكُم عَنْ أَرْبَع: آمُرُكُم بالإيمَانِ باللهِ وَحْدَهُ، أَتَدْرُونَ مَا الإيمان بالله؟ شَهَادَةُ أَنْ لا إلَه إلا اللهُ، وأَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ الله، وإقَام الصَّلاةِ، وإيتَاء الزَّكَاةِ، وصَوْم رَمَضَانَ، وَأَنْ تُعطُوا الخُمْسَ مِنَ المَغْنَم. وأَنْهَاكُمْ عَنْ أرْبَع: عَنِ الدُّبَّاءِ، والحَنْتَم، والنَّقِير، والمُزَفَّتِ، فَاحْفَظُوهُنَّ وادْعُوا إلَيْهِنَّ مَنْ وَرَاءَكُم)). زاد مسلم: قالوا: يا رسول الله؛ ما عِلمُكَ بِالنَّقِير؟ قال: ((بلى جِذع تَنقُرُونَهُ، ثمَّ تُلْقُونَ فيه مِن التَّمْرِ، ثُمَّ تَصُبُّونَ عَلَيْهِ المَاءَ حَتَّى يَغلِىَ، فإذَا سَكَنَ، شَرِبْتُمُوهُ، فعسى أحَدُكُم أَنْ يَضْرِبَ ابْنَ عَمِّهِ بالسَّيفِ))، وفى القوم رجل به ضربة كذلك. قال: وكنت أخبؤها حَياءً من رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: ففيم نشرَبُ يا رسـول الله؟ قال: ((اشْرَبُوا فى أسْقِيَةِ الأدَمِ التى يُلاثُ عَلَى أفْوَاهِها)). قالوا: يا رسولَ الله؛ إنَّ أرضَنَا كثيرةُ الجِرذان لا تبقى فيها أسقية الأَدَم، قال: ((وإن أكلها الجِرْذَانُ)) مرتين أو ثلاثاً، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأشج عبد القيس: ((إنَّ فِيكَ خَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُما الله: الحِلْمُ والأَنَاةُ)).
قال ابن إسحاق: قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم الجارود بن بشر بن المعلَّى وكان نصرانياً، فجاء رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فى وفد عبد القيس، فقال: يا رسولَ الله؛ إنى على دينٍ، وإنى تاركٌ دِينِى لِدينك، فتضمنُ لى بما فيه؟ قال: ((نعم أَنا ضَامِنٌ لِذلِك، إنَّ الَّذى أدْعُوكَ إلَيْهِ خَيْرٌ مِنَ الَّذِى كُنْتَ عَلَيْهِ))، فأسلمَ وأسلمَ أصـحابه، ثم قال: يا رسولَ الله؛ احملنا. فقال: ((واللهِ مَا عِندى مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ)) فقال: يا رسولَ الله؛ إنَّ بَيْنَنَا وبَيْنَ بلادِنا ضَوَالَّ من ضوالِّ الناس، أفنتبلغُ عليها؟ قال: ((لا، تِلْكَ حَرَقُ النَّارِ)).
فصل
ما فى هذه القصة من الفوائد
ففى هذه القصة: أن الإيمانَ باللهِ هو مجموعُ هذه الخصالِ مِن القول والعمل، كما على ذلك أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعون، وتابعوهم كُلُّهم، ذكره الشافعى فى ((المبسوط))، وعلى ذلك ما يُقارب مائة دليل مِن الكتاب والسُّـنَّة.
وفيها: أنه لم يَعُدَّ الحجَّ فى هَذِهِ الخصال، وكان قدومُهم فى سنة تِسع، وهذا أحدُ ما يُحتج به على أن الحَجَّ لم يكن فُرِضَ بعد، وأنه إنما فُرِض فى العاشرة، ولو كان فُرِضَ لعدَّه من الإيمان، كما عدَّ الصوم والصلاة والزكاة.
وفيها: أنه لا يُكره أن يُقال: ((رمضان)) للشهر خلافاً لمن كره ذلك، وقال: لا يُقال إلا شهر رمضان.
وفى ((الصحيحين)): ((مَن صَامَ رمضان إيمَاناً واحْتِسَاباً، غُفِرَ لهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ)).
وفيها: وجوبُ أداءِ الخُمس من الغنيمة، وأنه من الإيمان.
وفيها: النهىُ عن الانتباذ فى هذه الأوعية، وهل تحريمُه باقٍ أو منسوخ؟ على قولين، وهما روايتان عن أحمد. والأكثرون على نسخه بحديث بُرَيدة الذى رواه مسلم وقال فيه: ((وكُنْتُ نَهَيْتُكُم عَن الأَوْعِيَةِ فَانْتَبِذُوا فِيمَا بَدَا لَكُمْ، ولا تَشْرَبُوا مُسْكِراً)). ومَن قال: بأحكام أحاديث النهى، وأنها غير منسوخة، قال: هى أحاديث تكادُ تبلغ التواتر فى تعددها وكثرة طُرقها، وحديثُ الإباحة فرد، فلا يبلُغْ مقاومتَها، وسر المسألة أن النَّهى عن الأوعية المذكورة من باب سدِّ الذرائع، إذ الشرابُ يُسرع إليه الإسكارُ فيها. وقيل: بل النهى عنها لصلابتها، وأن الشراب يُسكر فيها، ولا يُعلم به بخلاف الظروف غير المزفتة، فإن الشرابَ متى غلا فيها وأسكر، انشقت، فيُعلم، بأنه مسكر، فعلى هذه العِلَّة يكون الانتباذ فى الحجارة، والصُّفر أولى بالتحريم، وعلى الأول لا يحرم، إذ لا يُسرِعُ الإسكار إليه فيها، كإسراعه فى الأربعة المذكورة، وعلى كلا العِلَّتين، فهو من باب سدِّ الذريعة، كالنهى أولاً عن زيارة القبور سداً لذريعة الشِّركِ، فلما استقر التوحيدُ فى نفوسهم، وقوىَ عندهم، أذِن فى زيارتِها، غير أن لا يقولوا هُجراً. وهكذا قد يقال فى الانتباذ فى هذه الأوعية إنه فطمهم عن المسكر وأوعيته، وسدَّ الذريعة إليه إذ كانوا حديثى عهد بشربه، فلما استقر تحريمُه عندهم، واطمأنت إليه نفوسُهم، أباح لهم الأوعية كُلَّها غير أن لا يشربوا مسكراً، فهذا فِقه المسألة وسِرُّها.
وفيها: مدح صفتى الحِلم والأناة، وأنَّ الله يحبهما، وضِدهما الطيشُ والعَجَلة، وهما خُلُقَانِ مذمومانِ مفسدان للأخلاق والأعمال.
وفيه دليل على أن اللهَ يُحِبُّ من عبده ما جبله عليه من خصال الخير، كالذكاء، والشجاعة، والحِلم.
وفيه دليل على أن الخُلُقَ قد يحصل بالتخلُّق والتكلف، لقوله فى هذا الحديث: ((خُلُقَيْنِ تَخَلَّقْتُ بِهِمَا، أَوْ جَبَلَنى اللهُ عَلَيْهِما))؟، فقال: ((بَلْ جُبِلْتَ عَلَيْهِمَا))
وفيه دليل على أنه سُبحانه خالقُ أفعالِ العباد وأخلاقِهِم، كما هو خالقُ ذَوَاتِهِم وصفاتِهِم، فالعبدُ كُلُّه مخلوق ذاتُه وصفاتُه وأفعالُه، ومَن أخرج أفعالَه عن خلق الله، فقد جعل فيه خالقاً مع الله، ولهذا شبَّه السَّلَفُ القَدَرِيَّة النفاة بالمجوس، وقالوا: هم مجوسُ هذه الأُمَّة، صحَّ ذلك عن ابن عباس.
وفيه إثباتُ الجَبْلِ لا الجَبْرِ للهِ تعالى، وأنه يَجْبِل عبده على ما يريد، كما جبل الأشجَّ على الحِلم والأناة، وهما فِعلان ناشئان عن خُلُقين فى النفس، فهو سبحانه الذىِ جبل العبدَ على أخلاقه وأفعاله، ولهذا قال الأوزاعى وغيرُه من أئمة السَّلَف: نقول: إن الله جبلَ العبادَ على أعمالهم، ولا نقول: جَبَرَهم عليها. وهذا من كمال علم الأئمة، ودقيقِ نظرهم، فإن الجبر أن يُحْمَل العبد على خلاف مراده، كجبر البِكْر الصغيرة على النكاح، وجبر الحاكم مَن عليه الحق على أدائه، والله سبحانه أقدرُ من أن يجبر عبده بهذا المعنى، ولكنه يجبُلُه على أن يفعل ما يشاء الرب بإرادة عبده واختياره ومشيئته، فهذا لون، والجبر لون.
وفيها: أنَّ الرجلَ لا يجوزُ له أن ينتفع بالضالة التى لا يجوز التقاطُها، كالإبل، فإنَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم لم يجَوِّزْ للجارود ركوب الإبل الضالة، وقال: ((ضالَّةُ المُسلْمِ حَرَقُ النَّارِ))، وذلك لأنه إنما أُمِرَ بتركها، وأن لا يلتقطـها حفظاً على ربِّها حتى يَجِدَها إذا طلبها، فلو جوَّز له ركوبَها والانتفاعَ بها، لأفضى إلى أن لا يقدر عليها ربُّها، وأيضاً تطمع فيها النفوس، وتتملكها، فمنع الشارع من ذلك.