فصل في أن مَن عظَّمَ مخلوقاً فوق منزلته بحيث أخرجه عن منزلة العبودية فقد أشرك بالله
 
ومنها: أنَّ مَن عظَّم مخلوقاً فوقَ منزلته التى يستحِقُّها، بحيثُ أخرجه عن منزلة العبودية المحضة، فقد أشرك بالله، وعَبَدَ مع الله غيره، وذلك مخالفٌ لجميع دعوة الرُّسُل، وأما قوله: إنه صلى الله عليه وسلم كتب إلى نجران باسم إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب، فلا أظن ذلك محفوظاً، وقد كتب إلى هرقل: ((بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ))، وهذه كانت سُـنَّته فى كُتبه إلى الملوك، كما سيأتى إن شاء الله تعالى، وقد وَقع فى هذه الرواية هذا، وقال ذلك قبل أن ينزل عليه: {طس، تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُّبِين}[النمل: 1 وذلك غلط على غلط، فإن هذه السورة مكيَّة باتفاق، وكتابه إلى نجرانَ بعد مرجعه من تبوك.
وفيها: جواز إهانةِ رُسُل الكفار، وتركِ كلامهم إذا ظهر منهم التعاظمُ والتكبر، فإنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يُكلِّم الرُّسُل، ولم يرُدَّ السلام عليهم حتى لبسوا ثياب سفرهم، وألقوا حُللهم وحُلاهم.
ومنها: أنَّ السُّـنَّة فى مجادلة أهل الباطل إذا قامت عليهم حُجَّةُ اللهِ، ولم يرجعوا، بل أصرُّوا على العناد أن يدعوَهم إلى المباهلة، وقد أمر اللهُ سبحانه بذلك رسولَه، ولم يقل: إنَّ ذلك ليس لأُمتك مِن بعدك، ودعا إليه ابنُ عمِّه عبدُ الله بن عباس لمن أنكر عليه بعضَ مسائل الفروع، ولم يُنكر عليه الصحابة، ودعا إليه الأوزاعىُّ: سفيانَ الثورىَّ فى مسألة رفع اليدين، ولم يُنكر عليه ذلك، وهذا من تمام الحُجَّة.
ومنها: جواز صلح أهل الكتاب على ما يريد الإمام من الأموال ومِن الثياب وغيرها، ويجرى ذلك مجرى ضربِ الجزية عليهم، فلا يحتاج إلى أن يُفرد كل واحد منهم بجزية، بل يكون ذلك المالُ جزيةً عليهم يقتسِمُونها كما أحبوا، ولما بعث معاذاً إلى اليمن أمره أن يأخذ من كل حالم ديناراً، أو عَدْله معافرياً. والفرق بين الموضعين أن أهلَ نجران لم يكن فيهم مسلم، وكانوا أهل صلح، وأما اليمن فكانت دار الإسلام، وكان فيهم يهود، فأمره أن يضرِبَ الجزية على كل واحد منهم، والفقهاء يخصون الجزية بهذا القسم دون الأول، وكلاهما جزية، فإنه مال مأخوذ من الكفار على وجه الصَغَار فى كل عام.
ومنها: جواز ثبوت الحُلل فى الذِمَّة، كما تثبت فى الدية أيضاً، وعلى هذا يجوز ثبوتُها فى الذِمَّة بعقد السَلَم وبالضَّمان وبالتَّلَفِ، كما تثبت فيها بعقد الصداق والخلع.
ومنها: أنَّه يجوز معاوضتُهم على ما صالحوا عليه من المال بغيره من أموالهم بحسابه.
ومنها: اشتراطُ الإمام على الكفار أن يُؤووا رُسُلَه ويُكرموهم، ويُضيفوهم أياماً معدودة.
ومنها: جوازُ اشتراطه عليهم عارية ما يحتاج المسلمون إليه مِن سلاح، أو متاع، أو حيوان، وأن تلك العارية مضمونة، لكن هل هى مضمونة بالشرط أو بالشرع؟ هذا محتمل، وقد تقدَّم الكلام عليه فى غزوة حُنَيْن، وقد صرَّح هاهنا بأنها مضمونة بالرد، ولم يتعرض لضمان التلف.
ومنها: أنَّ الإمامَ لا يُقِرُّ أهلَ الكتاب على المعاملات الربوية، لأنها حرام فى دينهم، وهذا كما لا يُقِرُّهم على السّكْرِ، ولا على اللِّواط والزِّنَى، بل يحدُّهم على ذلك.
ومنها: أنَّه لا يجوزُ أن يُؤخذ رجلٌ من الكفار بظلم آخر، كما لا يجوز ذلك فى حق المسلمين، وكلاهما ظلم.
ومنها: أنَّ عقدَ العهد والذِمَّة مشروطٌ بنصح أهل العهد والذِمَّة وإصلاحهم، فإذا غشُّوا المسلمين وأفسدوا فى دينهم، فلا عهد لهم ولا ذِمَّة، وبهذا أفتينا نحن وغيرُنا فى انتقاض عهدهم لما حرقوا الحريق العظيمَ فى دمشق حتى سرى إلى الجامِع، وبانتقاض عهد مَن واطأهم وأعانهم بوجه ما، بل ومَن علم ذلك، ولم يرفعه إلى ولى الأمر، فإنَّ هذا مِن أعظم الغش والضرر بالإسلام والمسلمين.
ومنها: بعثُ الإمامُ الرجل العالِم إلى أهل الهُدنة فى مصلحة الإسلام، وأنه ينبغى أن يكون أميناً، وهو الذى لا غرض له ولا هوى، وإنما مرادُه مجردُ مرضاة الله ورسوله، لا يشوبُها بغيرها، فهذا هو الأمين حقُّ الأمين، كحال أبى عُبيدة بن الجرَّاح.
ومنها: مناظرةُ أهل الكتاب وجوابُهم عما سألوه عنه، فإن أشكل على المسؤول، سأل أهل العلم.
ومنها: أنَّ الكلام عند الإطلاق يُحمل على ظاهره حتى يقومَ دليلٌ على خلافه، وإلا لم يُشكل على المغيرة قوله تعالى: {يَا أُخْتََ هَارُونَ}، هذا وليس فى الآية ما يدل على أنه هارون بن عمران حتى يلزم الإشكال، بل المورد ضمَّ إلى هذا أنه هارون بن عمران، ولم يكتف بذلك حتى ضم إليه أنه أخو موسى بن عمران، ومعلوم أنه لا يدل اللَّفظ على شىء من ذلك، فإيرادُه إيراد فاسد، وهو إما من سوء الفهم، أو فساد القصد.
وأما قول ابنِ إسحاق: إنَّ النبى صلى الله عليه وسلم بعث علىَّ بن أبى طالب رضى الله عنه إلى أهل نجرانَ ليجمع صدقاتِهم، ويقدم عليه بجزيتهم، فقد يُظن أنه كلامٌ متناقضٌ، لأن الصَدَقةَ والجزية لا تجتمعان، وأشكلُ منه ما ذكره هو وغيرُه أنَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم بعث خالد بن الوليد فى شهر ربيع الآخر، أو جُمادى الأُولى سنة عشر إلى بنى الحارث بن كعب بنجران، وأمره أن يدعُوَهم إلى الإسلام قبل أن يُقاتِلَهم ثلاثاً، فإن استجابُوا فاقبل منهم، وإن لم يفعلوا فقاتلهم، فخرج خالد حتى قدم عليهم، فبعث الركاب يضربون فى كل وجه، ويدعون إلى الإسلام، فأسلم الناسُ، ودخلوا فيما دُعُوا إليه، فأقام فيهم خالد يُعلِّمهم الإسلامَ، وكتب بذلك إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فكتب إليه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن يُقبل، ويُقبل إليه بوفدهم، وقد تقدَّم أنهم وَفدُوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصالحهم على ألفى حُلَّة، وكتب لهم كتاب أمن وأن لا يُغيَّروا عن دينهم، ولا يُحشــروا، ولا يُعشروا.
وجواب هذا: أنَّ أهل نجران كانوا صنفين: نصارى وأُمِّيين، فصـالحَ النصارى على ما تقدَّم، وأما الأُميِّون منهم، فبعث إليهم خالدَ بن الوليد، فأسلموا وقدم وفدُهم على النبىِّ صلى الله عليه وسلم وهم الذين قال لهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((بِمَ كُنْتُم تَغْلِبُونَ مَنْ قَاتَلَكُم فى الجَاهِلَيَّةِ))؟، قالوا: كنا نجتمع ولا نتفرَّق، ولا نبدأ أحداً بظلم، قال: ((صدقتم))، وأمَّرَ عليهم قَيْس بن الحُصين، وهؤلاء هم بنو الحارث بن كعب، فقوله: بعث علياً إلى أهل نجران ليأتيه بصدقاتهم أو جزيتهم، أراد به الطائفتين من أهل نجران، صـدقات مَن أسلم منهم، وجزية النصارى.