فصل في تصنيف الطبيب و المتطبب
 
قلت: الأقسام خمسة
أحدها: طبيب حاذق أعطى الصنعةَ حقَّها ولم تجن يده، فتولَّد من فعله المأذون فيه من جهة الشارع، ومن جهة مَن يطبُّه تلفُ العضو أو النفس، أو ذهابُ صفةٍ، فهذا لا ضمان عليه اتفاقاً، فإنها سِراية مأذونٍ فيه، وهذا كما إذا خَتَنَ الصبىَّ فى وقت، وسِـنٍّه قابل للختان، وأعطى الصنعةَ حقَّها، فَتَلِفَ العضو أو الصبىُّ، لم يضمن، وكذلك إذا بَطَّ مِن عاقل أو غيرِه ما ينبغى بطُّه فى وقته على الوجه الذى ينبغى فَتَلِفَ به، لم يضمن، وهكذا سِراية كُلِّ مأذون فيه لم يتعدَّ الفاعل فى سببها، كسِراية الحدِّ بالاتفاق. وسِرايةِ القِصاص عند الجمهور خلافاً لأبى حنيفة فى إيجابه الضمان بها، وسِراية التعزير، وضربِ الرجل امرأته، والمُعلِّم الصبىَّ، والمستأجر الدابة، خلافاً لأبى حنيفة والشافعى فى إيجابهما الضمانَ فى ذلك، واستثنى الشافعى ضَرْبَ الدابة. وقاعدةُ الباب إجماعاً ونزاعاً: أنَّ سِراية الجناية مضمونةٌ بالاتفاق، وسِراية الواجب مُهْدَرةٌ بالاتفاق، وما بينهما ففيه النزاع. فأبو حنيفة أوجب ضمانَه مطلقاً، وأحمد ومالكٌ أهدرا ضمانه، وفرَّقَ الشافعىُّ بين المقدَّر، فأهدر ضمانه، وبين غيرِ المُقَدَّر فأوجبَ ضمانه. فأبو حنيفة نظر إلى أن الإذن فى الفعل إنما وقع مشروطاً بالسلامة، وأحمد ومالك نظرا إلى أنَّ الإذن أسقط الضمانَ، والشافعىُّ نظر إلى أنَّ المُقَدَّر لا يمكن النقصان منه، فهو بمنزلة النص، وأما غيرُ المُقَدَّر كالتَّعزيرات، والتأديبات فاجتهاديةٌ، فإذا تَلِفَ بها، ضمن، لأنه فى مَظِنَّة العُدوان.
فصل
القسمُ الثانى: متطبِّبٌ جاهِلٍ باشرت يدُه مَن يَطُبُّه، فتَلِفَ به، فهذا إن علم المجنىُّ عليه أنه جاهل لا عِلْمَ له، وأَذِنَ له فى طِبه لم يضمن، ولا تُخالف هذه الصورة ظاهرَ الحديث، فإنَّ السِّياق وقوة الكلام يدلُّ على أنه غرَّ العليل، وأوهمه أنه طبيب، وليس كذلك، وإن ظنَّ المريضُ أنه طبيب، وأذن له فى طِبه لأجل معرفته، ضَمِنَ الطبيبُ ما جنت يده، وكذلك إن وصف له دواء يستعملُه، والعليلُ يظن أنه وصفه لمعرفته وحِذْقه فتَلِفَ به، ضمنه، والحديثُ ظاهر فيه أو صريح.
فصل
القسم الثالث: طبيبٌ حاذِق، أُذن له، وأعطى الصَّنعة حقها، لكنه أخطأت يدُه، وتعدَّت إلى عضو صحيح فأتلفه، مِثل: أن سبقت يدُ الخاتن إلى الكَمَرَةِ، فهذا يضمَنُ، لأنها جِنَايةُ خطإٍ، ثم إن كانت الثُّلُث فما زاد، فهو على عاقِلَتِه، فإن لم تكن عاقلةٌ، فهل تكون الدِّيَة فى ماله، أو فى بيت المال ؟ على قوليْن، هما روايتان عن أحمد. وقيل: إن كان الطبيب ذِمِّيا، ففى ماله؛ وإن كان مسلماً، ففيه الروايتان، فإن لم يكن بيتُ المال، أو تعذَّر تحميلُه، فهل تسقط الدِّيَة، أو تجب فى مال الجانى ؟ فيه وجهان أشهرهما: سقوطها.
فصل
القسم الرابع: الطبيبُ الحاذِق الماهر بصناعته، اجتهد فوصف للمريض دواءً، فأخطأ فى اجتهاده، فقتله، فهذا يُخرَّج على روايتين؛ إحداهما: أنَّ دِيةَ المريض فى بيت المال. والثانية: أنها على عاقلة الطبيب، وقد نص عليهما الإمامُ أحمد فى خطإ الإمام والحاكم.
فصل
القسم الخامس: طبيبٌ حاذق، أعطى الصنعةَ حقها، فقطع سِلْعَةً من رجل أو صبى، أو مجنون بغير إذنه، أو إذن وَليِّه، أو خَتَنَ صبياً بغير إذن وَليِّه فَتَلِفَ، فقال أصحابُنا: يضمن، لأنه تولَّد من فعلٍ غير مأذون فيه، وإن أذن له البالغ، أو وَلِىُّ الصبى والمجنون، لم يضمن، ويحتمِلُ أنْ لا يضمَن مطلقاً لأنه محسنٌ، وما على المُحسنين من سبيلٍ. وأيضاً فإنه إن كان متعدِّياً، فلا أثر لإذن الولىّ فى إسقاطِ الضمان، وإن لم يكن متعدِّياً، فلا وجه لضمانه.
فإن قلتَ: هو متعدٍّ عند عدم الإذن، غير متعدٍّ عند الإذن.
قلتُ: العُدوان وعدمه إنما يرجع إلى فعله هو، فلا أثر للإذن وعدمه فيه، وهذا موضع نظر.
فصل
والطبيبُ فى هذا الحديث يتناول مَن يطب بوصفه وقوله، وهو الذى يُخَصُّ باسم الطَّبائعى، وبمرْوَدِهِ وهو الكحَّال، وبِمبضَعه ومراهِمه وهو الجرائحىُّ، وبمُوساه وهو الخاتِن، وبريشته وهو الفاصد، وبمَحاجمه ومِشْرَطِه وهو الحجَّام، وبخَلْعِه ووَصْله ورِباطه وهو المجبِّر، وبمكواته وناره وهو الكوَّاء، وبقِربته وهو الحاقن.
وسواء أكان طبه لحيوان بهيمٍ، أو إنسان، فاسمُ الطبيب يُطلق لغةً على هؤلاء كلهم، كما تقدَّم، وتخصيصُ الناس له ببعض أنواع الأطباء عُرْفٌ حادث، كتخصيص لفظ الدابة بما يخصُّها به كُلُّ قوم.