فصل في قضائه صلى الله عليه وسلم فى القتيل يُوجد بينَ قريتين
 
روى الإمام أحمد، وابن أبى شيبة، من حديث أبى سعيد الخدرى رضىَ الله عنه قال: ((وُجدَ قتيلٌ بَينَ قريتينِ، فأمر النبىُّ صلى الله عليه وسلم فَذَرَعَ ما بينهما، فوُجِدَ إلى أحدهما أقرب، فكأنى أنظر إلى شِبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فألقاهُ عَلَى أقربِهِمَا)).وفى ((مصنف عبد الرزاق)) قال عمرُ بن عبد العزيز: ((قضى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغنا فى القتيل يُوجد بين ظهرانى دِيارِ قومٍ: أنَّ الأيمانَ على المدَّعى عليهم، فإن نَكَلُوا، حُلِّفَ المدعون، واستحقُّوا، فإن نكل الفريقانِ، كانت الديةُ نِصفُها على المدَّعى عليهم، وبطل النصفُ إذا لم يحلِفُوا)).
وقد نص الإمام أحمد فى رواية المروَزى على القول بمثل رواية أبى سعيد، فقال: قلت لأبى عبد الله: القومُ إذا أعطوا الشىء، فتبينوا أنه ظُلِمَ فيه قوم؟ فقال: يُرد عليهم إن عُرِفَ القوم. قلت: فإن لم يُعرفوا؟ قال: يُفرَّق على مساكين ذلك الموضع، فقلت: فما الحُجة فى أن يُفرَّق على مساكين ذلك الموضع؟ فقال: عمر بنُ الخطاب رضى الله عنه جعل الديةَ على أهل المكانِ يعنى القرية التى وُجِدَ فيها القتيل، فأراه قال: كما أن عليهم الدية هكذا يُفرَّقُ فيهم، يعنى: إذا ظُلِمَ قوم منهم ولم يُعرفوا، فهذا عمر بن الخطاب رضى الله عنه قد قضى بموجب هذا الحديث، وجعل الديةَ على أهل المكان الذى وُجِدَ فيه القتيلِ، واحتج به أحمد، وجعل هذا أصلاً فى تفريق المال الذى ظُلم فيه أهلُ ذلك المكان عليهم إذا لم يُعرفوا بأعيانهم.
وأما الأثر الآخر، فمرسل لا تقومُ بمثله حجة، ولو صحَّ تعيَّن القولُ بمثله، ولم تَجُز مخالفته، ولا يُخالف باب الدعاوى، ولا باب القسامة، فإنه ليس فيهم لَوْثٌ ظاهر يُوجب تقديم المدعين، فيقدم المدَّعى عليهم فى اليمين، فإذا نَكَلُوا، قوىَ جانبُ المدَّعين من وجهين: أحدهما: وجودُ القتيل بين ظهرانيهم. والثانى: نكولُهم عن براءة ساحتهم باليمن، وهذا يقومُ مقامَ اللوثِ الظاهر، فَيَحْلِفُ المدَّعون، ويستحقون، فإذا نكل الفريقانِ كلاهما، أورث ذلك شبهةً مركبة من نكول كُلِّ واحد منهما، فلم ينهض ذلك سبباً لإيجاب كمال الدية عليهم إذا لم يحلِف غرماؤهم، ولا إسقاطُها عنهم بالكلية حيث لم يحلِفُوا، فجعلت الدية نصفين، ووجب نصفُها على المدَّعى عليهم لثبوت الشبهة فى حقهم بترك اليمين، ولم تَجِب عليهم بكمالها، لأن خُصومَهم لم يحلِفُوا، فلما كان اللوثُ متركباً من يمين المدعين، ونكول المدَّعى عليهم، ولم يتمَّ، سقط ما يقابل أيمان المدعين وهو النصفُ، ووجب ما يُقابل نكول المدَّعى عليهم وهو النصف، وهذا مِن أحسن الأحكام وأعدِلها، وبالله التوفيق.