فصل في حكمه صلى الله عليه وسلم على من اتَّهم رجلاً بسرقة
 
روى أبو داود: عن أزهر بن عبد الله ((أن قوماً سُرِقَ لهم متاع، فاتَّهموه ناساً مِن الحَاكَة، فأتوا النعمانَ بْن بشيرٍ صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحبسهم أياماً ثم خلَّى سبيلهم، فأَتُوْه فقالُوا: خلَّيْتَ سبيلَهم بغير ضرب ولا امتحان، فقال: ما شئتُم، إن شئتُم أن أضربَهم، فإن خرجَ متاعُكم فذاكَ، وإلا أخذتُ مِن ظُهورِكُم مثلَ الذى أخذتُ مِن ظهورهم. فقالوا: هذا حُكْمُكَ؟ فقال: حُكْمُ اللَّهِ وحُكْمُ رَسُولِه)).
فصل
وقد تضمنت هذه الأقضيةُ أموراً :
أحدها: أنه لا يقطع فى أقل من ثلاثةِ دراهم، أو رُبع دينار.
الثانى: جوازُ لعنِ أصحابِ الكَبائِر بأنواعهم دونَ أعيانهم، كما لَعَنَ السارِقَ، ولعن آكِل الرّبا وموكلَه، ولعن شاربَ الخمر وعاصِرها، ولعن من عمل عمل قومِ لوط، ونهى عن لعن عبد الله حِمار وقد شرب الخمر، ولا تعارضُ بين الأمرين، فإن الوصف الذى علق اللعن مقتض. وأما المعين، فقد يقوم به ما يمنعُ لحوقَ اللعن به مِن حسنات ماحية، أو توبة، أو مصائب مكفرة، أو عفوٍ من الله عنه، فتُلعن الأنواعُ دون الأعيان.
الثالث: الإشارة إلى سد الذرائع، فإنه أخبر أن سرقة الحبلِ والبيضة لا تدعُه حتى تقطعَ يده.
الرابع: قطعُ جاحد العارية، وهو سارق شرعاً كما تقدم.
الخامس: أن من سرق مالاً قطع فيه، ضُوعِفَ عليه الغرمُ، وقد نص عليه الإمام أحمد رحمه الله، فقال: كل مَنْ سقط عنه القطعُ، ضُوعِفَ عليه الغرم، وقد تقدَّم الحكمُ النبوىُّ به فى صورتين: سرقةِ الثمار المعلقة، والشاةِ من المرتع.
السادس: اجتماعُ التعزيز مع الغُرم، وفى ذلك الجمعُ بين العقوبتين: مالية وبدنية.
السابع: اعتبارُ الحِرز، فإنه صلى الله عليه وسلم أسقط القطعَ عن سارق الثمار من الشجرة، وأوجبه على سارقة من الجرين، وعند أبى حنيفة أن هذا لنقصان ماليته، لإسراع الفسادِ إليه، وجعل هذا أصلاً فى كل ما نقصت ماليتُه بإسراع الفساد إليه، وقولُ الجمهور أصحُّ، فإنه صلى الله عليه وسلم جعل له ثلاثة أحوال: حالةً لا شىء فيها، وهو ما إذا أكل منه بفيه، وحالةً يُعَزَّم مثليه، ويُضرب مِن غير قطع، وهو ما إذا أخذه من شجره وأخرجه، وحالةً يُقطع فيها، وهو ما إذا سرقه مِن بيدره سواء كان قد انتهى جفافُه أو لم ينته، فالعبرةُ للمكان والحرز لا لُيبسه ورطوبته، ويدل عليه أن صلى الله عليه وسلم أسقط القطعَ عن سارق الشاةِ من مرعاها، وأوجبه على سارقها مِن عطنها فإنه حرزُها.
الثامن: إثبات العقوبات المالية، وفيه عدة سنن ثابتة لا مُعارِضَ لها، وقد عمل بها الخلفاءُ الراشدون وغيرُهم مِن الصحابة رضى الله عنهم، وأكثرُ من عمل بها عمر رضى الله عنه.
التاسع: أن الإنسان حِرز لثيابه ولفراشه الذى هو نائم عليه أين كان، سواء كان فى المسجد أو فى غيره.
العاشر: أن المسجد حِرز لما يعتاد وضعُه فيه، فإن النبى صلى الله عليه وسلم قطع مَن سرق منه ترساً، وعلى هذا فيُقطع من سرق مِن حصيره وقناديله وبسطه، وهو أحدُ القولين فى مذهب أحمد وغيره. ومن لم يقطعه، قال: له فيها حق، فإن لم يكن فيها حق، قطع كالذمى.
الحادى عشر: أن المطالبةُ فى المسروقِ شرط فى القطعِ، فلو وهبه إياه، أو باعه قبل رفعه إلى الإمام، سقط عنه القطع، كما صرح به النبى صلى الله عليه وسلم وقال: ((هَلاَّ كَانَ قَبْلَ أَنْ تَأْتِينى بِهِ)).
الثانى عشر: أن ذلك لا يُسقط القطعَ بعد رفعه إلى الإمام، وكذلك كُلُّ حد بلغ الإمام، وثبت عنده لا يجوز إسقاطُه، وفى ((السنن)): عنه: ((إذا بَلَغَتِ الحُدُودُ الإمَامَ، فَلَعَنَ اللَّهُ الشافِعَ والمُشَفِّعَ)).
الثالث عشر: أن من سرق من شيء له فيه حقٌّ لم يُقطع.
الرابع عشر: أنه لا يقطع إلا بالإقرار مرتين، أو بشهادةِ شاهدين، لأن السارق أقرَّ عنده مرة، فقال: ((ما إخالك سرقت))؟ فقال: بي، فقطعه حينئذ، ولم يقطعه حتى أعاد عليه مرتين.
الخامس عشر: التعريضُ للسارق بعدم الإقرار، وبالرجوع عنه، وليس هذا حُكمَ كل سارق، بل من السُّراق من يُقرُّ بالعقوبة والتهديد، كما سيأتى إن شاء الله تعالى.
السادس عشر: أنه يجب على الإمام حسمُه بعد القطع لئلا يتلَفَ. وفى قوله: ((احسموه))، دليل على أن مؤنة الحسم ليست على السارق.
السابعُ عشر: تعليق يد السارق فى عنقه تنكيلاً له وبه ليراه غيره.
الثامن عشر: ضربُ المتهم إذا ظهر منه أمارات الرِّيبة، وقد عاقَبَ النبى صلى الله عليه وسلم فى تُهمة، وحبس فى تُهمة.
التاسع عشر: وجوبُ تخلية المتَّهم إذا لم يظهر عنده شىء مما اتُّهم به، وأن المتَّهِمَ إذا رضي بضرب المتُهم، فإن خرج ماله عنده، وإلا ضُرِبَ هو مثل ضرب من اتهمه إن أجيب إلى ذلك، وهذا كُلُه مع أمارات الرِّيبة، كما قضى به النعمان بن بشير رضى اللَّه عنه، وأخبر أنه قضاء رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.
العشرون: ثبوت القصاص فى الضربة بالسوط والعصا ونحوهما.
فصل
وقد روى عنه أبو داود: أنه أمر بقتل سارقٍ فقالُوا: إنما سرق، فقال: ((اقْطَعُوهُ))، ثم جىء به ثانياً، فأمر بقتله، فقالوا: إنما سرق، فقال ((اقْطَعُوهُ))، ثم جىء به فى الثالثة، فأمر بقتله، فقالوا: إنما سرق، فقال: ((اقْطَعُوهُ)) ثم جىء به رابعة، فقال: ((اقْتُلُوهُ))، فقالوا: إنما سرق، فقال: ((اقْطَعُوهُ))، فأتى به فى الخامسة، فأمر بقتله، فقتلُوه.
فاختلف الناسُ فى هذه الحكومة: فالنسائىُّ وغيرُه لا يصححون هذا الحديث. قال النسائى: هذا حديثٌ منكَر، ومُصعب بنُ ثابت ليس بالقوى، وغيرُه يُحسنه ويقول: هذا حكم خاص بذلك الرجل وحدَه، لما علم رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم مِن المصلحة فى قتله، وطائفة ثالثة تقبلُهُ، وتقول به، وأن السارق إذا سرق خمسَ مرات قتل فى الخامسة، وممن ذهب إلى هذا المذهب أبو مصعب من المالكية.
وفى هذه الحكومة الإتيانُ على أطراف السارق الأربعة. وقد روى عبد الرزاق فى ((مصنفه)): أن النبى صلى الله عليه وسلم ((أتى بعبد سرق، فأُتِىَ به أربعَ مرات، فتركه، ثم أتَى به الخامسة، فقطع يده، ثم السادسة فقطع رجله، ثم السابعة فقطع يده، ثم الثامنة فقطع رجله)).
واختلف الصحابة ومَنْ بعدهم، هل يُوتى على أطرافِه كُلِّها، أم لا؟ على قولين. فقال الشافعىُّ ومالكٌ وأحمدُ فى إحدى روايتيه: يُؤتى عليها كُلِّها، وقال أبو حنيفة وأحمد فى رواية ثانية: لا يُقطع منه أكثرُ من يد ورجل، وعلى هذا القول، فهل المحذورُ تعطيلُ منفعة الجنس، أو ذهابُ عضوين من شق؟ فيه وجهان ظهر أثرُهما فيما لو كان أقطعَ اليد اليُمني فقط، أو أقطعَ الرجل اليسرى فقط، فإن قلنا: يُؤتى على أطرافه، لم يؤثر ذلك، وإن قلنا: لا يُؤتى عليها، قُطِعَتْ رجلُه اليسرى فى الصورة الأولى، ويدُه اليمنى فى الثانية على العِلتين، وإن كان أقطعَ اليد اليُسرى مع الرجل اليُمنى لم يُقطع على العِلتين، وإن كان أقطعَ اليد اليُسرى فقط، لم تقطع يُمناه على العلتين، وفيه نظر، فتأمل.
وهل قطع رجله اليُسرى يبتنى على العلتين؟ فإن عللنا بذهاب منفعة الجنس، قُطِعَت رجلُه، وإن عللنا بذهاب عضوين مِن شق، لم تُقطع.
وإن كان أقطعَ اليدين فقط، وعللنا بذهاب منفعة الجنس قُطِعَت رجلُه اليسرى، وإن عللنا بذهاب عضوين مِن شق، لم تُقطع، هذا طردُ هذه القاعدة. وقال صاحب ((المحرر)) فيه: تقطع يُمنى يديه على الروايتين، وفرق بينها وبين مسألة مقطعوع اليدين، والذى يقال فى الفرق: إنه إذا كان أقطعَ الرجلين، فهو كالمُقعد، وإذا قُطِعَت إحدى يديه، انتفع بالأخرى فى الأكل والشرب والوضوء والاستجمار وغيره، وإذا كان أقطعَ اليدين لم ينتفع إلا برجليه، فإذا ذهبت إحداهما، لم يمكنه الانتفاعُ بالرجل الواحدة بلا يد، ومن الفرق أن اليدَ الواحدة تنفع مع عدم منفعة المشىء، والرجل الواحدة لا تنفعُ مع عدم منفعة البطش.