فصل في قضائه صلى الله عليه وسلم فيمن سبَّه مِن مسلم أو ذِمِّى أو مُعَاهَدٍ
 
ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قضى بإهدار دم أمِّ ولد الأعمى لما قتلَها مولاها على السبِّ.
وقتل جماعة من اليهود على سبِّه وأذاه، وأمِّن الناسَ يوم الفتح إلا نفراً ممن كان يُوذيه ويهجوه، وهم أربعة رجال وامرأتان. وقال: ((مَنْ لِكَعْبِ بْنِ الأَشرَف، فَإِنَّهُ قَدْ آذى اللَّه ورَسُولهُ)) وأهدر دمه ودم أبى رافع.
وقال أبو بكر الصديق رضى اللَّه عنه لأبى برزة الأسلمى، وقد أراد قتل من سبَّه: ليس هذا لأحد بعدَ رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم. فهذا قضاؤه صلى الله عليه وسلم وقضاءُ خلفائِه مِن بعده، ولا مخالف لهم من الصحابة، وقد أعاذهم اللَّه من مخالفة هذا الحكم.
وقد روى أبو داود فى ((سننه)): عن على رضى اللَّه عنه أن يهوديةً كانت تشتِمُ النبىَّ صلى الله عليه وسلم وتقع فيه، فخنقها رجل حتى ماتت، فأبطلَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم دمَها.
( وذكر أصحابُ السير والمغازى عن ابن عباس رضى اللَّه عنهما قال: هجتِ امرأةُ النبىَّ صلى الله عليه وسلم، فقال: ((مَنْ لى بِهَا))؟ فقال رجل مِن قومها: أنا، فنهضَ فقتلها، فأُخبِرَ النبى صلى الله عليه وسلم، فقال: ((لا يَنْتَطِحُ فيها عَنزانِ)). وفى ذلك بضعة عشر حديثاً ما بين صحاح وحِسان ومشاهير، وهو إجماع الصحابة.وقد ذكر حرب فى ((مسائله)): عن مجاهد قال: أتَي عمرُ رضى اللَّه عنه برجُلِ سبَّ النبى صلى الله عليه وسلم فقتله، ثم قال عمر رضي اللَّه عنه: من سبَّ اللَّه ورسوله، أو سبَّ أحداً من الأنبياء فاقتلُوه. ثم قال مجاهد عن ابن عباس رضى اللَّه عنهما: أيُّما مسلم سبَّ اللَّه ورسوله، أو سبَّ أحداً من الأنبياء، فقد كذَّبَ برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وهى رِدة، يُستتاب، فإن رجع، وإلا قُتِل، وأيُّما مُعَاهَدٍ عاند، فسبَّ اللَّهَ أو سبَّ أحداً من الأنبياء، أو جهر به، فقد نقضَ العهد فاقتلوه.
وذكر أحمد، عن ابن عمر رضى اللَّه عنهما أنه مرَّ به راهب، فقيل له: هذا يسبُّ النبىَّ صلى الله عليه وسلم، فقال ابنُ عمر رضى اللَّه عنه: لو سمعتُه، لقتلته إنا لم نُعطهم الذمة على أن يسبوا نبيَّنا. والآثارُ عن الصحابة بذلك كثيرة، وحكى غيرُ واحد من الأئمة الإجماع على قتله. قال شيخُنا: وهو محمول على إجماع الصدر الأول من الصحابة والتابعين. والمقصود: إنما هو ذكر حكم النبى صلى الله عليه وسلم وقضائه فيمن سبه.
وأما تركه صلى الله عليه وسلم قتل مَن قدح فى عدله بقوله: ((اعْدِلْ فَإنَّكَ لَمْ تَعْدِلْ))، وفى حكمه بقوله: ((أن كان ابن عمَّتِك))، وفى قصده بقوله: ((إن هذهِ قِسْمَةٌ ما أُرِيدَ بِها وَجْهُ اللَّه أو فى خلوته بقوله: ((يَقُولُونَ إنَّكَ تنهى عن الغى وتستخلى به)) وغير ذلك، فذلك أن الحقَّ له، فله أن يستوفِيَه، وله أن يترُكه، وليس لأمته تركُ استيفاء حقِّه صلى الله عليه وسلم.
وأيضاً فإن هذا كان فى أول الأمر حيث كان صلى الله عليه وسلم مأموراً بالعفوِ والصفح.
وأيضاً فإنه كان يعفو عن حقِّه لمصلحة التأليف وجمعِ الكلمة، ولئلا يُنَفِّرَ الناسَ عنه، ولئلا يتحدثوا أنه يقتلُ أصحابه، وكل هذا يختصُّ بحياته صلى الله عليه وسلم.