فصل في حكمه صلى الله عليه وسلم فى قسمة الغنائم
 
حكم صلى الله عليه وسلم أن للفارِس ثلاثَةَ أسهم، وللرَّاجِلِ سهم، هذا حكمُه الثابتُ عنه فى مغازيه كُلِّها، وبه أخذ جمهورُ الفقهاء.
وحكم أن السَّلبَ للقاتل.
وأما حُكمه بإخراج الخمس، فقال ابن إسحاق: كانت الخيلُ يومَ بنى قريظة ستةً وثلاثين فرساً، وكان أوَّلَ فىء وقعت فيه السهمان، وأخرج منه الخمس، ومضت به السنة، ووافقه على ذلك القضاء إسماعيل بن إسحاق، فقال إسماعيل: وأحْسِبُ أن بعضَهم قال: ترك أمرَ الخُمس بعد ذلك، ولم يأت فى ذلك من الحديث ما فيه بيانٌ شاف، وإنما جاء ذكرُ الخمس يقيناً فى غنائم حُنين.
وقال الواقدى: أول خُمسٍ فى غزوة بنى قَيْنُقاع بعدَ بدرٍ بشهر وثلاثة أيام، نزلُوا على حُكمه، فصالحهم على أن له أموالَهم، ولهم النساءُ والذرية، وخمَّس أموالهم.
وقال عُبادة بن الصامت: خرجنا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى بدر، فلما هَزَمَ اللَّه العدُوَّ، تبعتهم طائفةٌ يقتلونهم، وأحدقَتْ طائفةٌ برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وطائفةٌ استولت على العسكر والغنيمة، فلما رجع الَّذِين طلبوهم، قالوا: لنا النَّفَلُ نحن طلبنا العدُوَّ، وقال الذين أحدقوا برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: نحن أحقُّ به، لأنا أحدقنا برسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أن لا ينال العدُوُّ غِرَّتَه، وقال الذين استَولَوْا على العسكر: هُوَ لنا، نحن حَوْيَنَاهُ. فأنزل اللَّه عز وجل: {يَسْأَلُونَكَ عَن الأُنفالِ قُلِ الأَنْفَالُ للَّهِ وَالرَّسُولِ} [الانفال: 1]، فقسمه رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم عن بَوَاءٍ قبل أن ينزل: {واعْلَمُوا أنَّما غَنِمْتُم مِنْ شَىْءٍ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41].
وقال القاضى إسماعيل: إنما قسم رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم أموالَ بنى النضير بينَ المهاجرين، وثلاثةً من الأنصار: سهلِ بنِ حُنيف، وأبى دُجانة، والحارث بن الصِّمة لأن المهاجرين حين قدموا المدينة، شاطرهم الأنصارُ ثمارَهم، فقال لهم رسول اللَّه: ((إنْ شِئْتُم قَسَمْتُ أَمْوَالَ بَنِى النَّضِيرِ بَيْنَكُمْ وبَيْنَهُمْ، وأَقَمْتُم عَلَى مُوَاسَاتِهم فى ثِمَارِكُم، وإنْ شِئْتُمْ أَعْطَيْنَاها لِلْمُهَاجِرينَ دُونَكُمْ، وقَطَعْتُم عَنْهُمْ مَا كُنْتُم تُعْطُونَهُمْ مِنْ ثِمَارِكُمْ))، فقالوا: بل تُعطيهم دوننا، ونُمْسِكُ ثمارنا، فأعطاها رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم المهاجرينَ، فاستغنوا بما أخذوا، واستغنى الأنصارُ بما رجع إليهم من ثمارهم، وهؤلاء الثلاثة من الأنصار شَكَوْا حَاجَةً.
فصل
وكان طلحةُ بنُ عبيد اللَّه، وسعيدُ بن زيد رضى اللَّه عنهما بالشام لم يشهد بدراً، فقسم لهما رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم سهميهما، فقالا: وأجورُنا يا رسولَ اللَّه؟ فقال: ((وأُجُوركُمَا)).
وذكر ابن هشام، وابن حبيب أن أبا لبابة، والحارث بنَ حاطب، وعاصِمَ بنَ عدى خرجُوا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فردَّهم، وأمَّرَ أبا لبابة على المدينة، وابن أم مكتوم على الصلاة، وأسهم لهم.
والحارث بن الصِّمة كُسِرَ بالروحاء، فضرب له رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم بسهمه.
قال ابن هشام: وخّواتُ بن جُبير ضرب له رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم بسهمه.
ولم يختِلف أحدٌ أن عثمان ابن عفان رضى اللَّه عنه تخلف على امرأته رقية بنت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فضرب له بسهمه، فقال: وأجرى يا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: ((وأَجْرُكَ)) ؛ قال ابن حبيب: وهذا خاصٌ للنبىِّ صلى الله عليه وسلم، وأجمع المسلمون أن لا يُقسم لغائب.
قلتُ: وقد قال أحمدُ ومالك، وجماعةٌ من السلف والخلف: إن الإمامَ إذا بعث أحداً فى مصالح الجيش، فله سهمُه.
قال ابن حبيب: ولم يكن النبى صلى الله عليه وسلم يُسْهِمُ للنساء والصبيان والعبيد، ولكن كان يحذيهم مِن الغنيمة.
فصل
وعدل فى قسمة الإبل والغنم كُلُّ عشرة منها ببعير، فهذا فى التقويم، وقسمة المال المشترك. وأما فى الهدى، فقد قال جابر: نحرنا مَع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عام الحُديبية. وأما فى حجة الوداع، فقال جابر أيضاً: ((أمرنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن نشترك فى الإبل والبقر كُلُّ سبعة منا فى بدنة)) ؛ وكلاهما فى الصحيح.
وفى ((السنن)) من حديث ابن عباس، أن رجلاً: أتى النبىَّ صلى الله عليه وسلم فقال: ((إن علىَّ بدنة وأنا موسِر بها ولا أجدها فأشتريها، فأمره أن يبتاعَ سبعَ شياه، فيذبحهن)).
فصل
حكم النبىُّ صلى الله عليه وسلم بالسَّلَبِ كله للقاتل، ولم يُخمِّسْه، ولم يجعله مِن الخُمس، بل مِن أصل الغنيمة، وهذا حكمه وقضاؤه.
قال البخارى فى ((صحيحه)): السلبُ للقاتل إنما هو مِن غير الخُمس، وحكم به بشهادة واحد، وحكم به بعد القتل، فهذه أربعة أحكام تضمَّنها حكمُه صلى الله عليه وسلم بالسَّلَبِ لمن قتل قتيلاً.
وقال مالك وأصحابهُ: السلبُ لا يكون إلا من الخمس، وحكمه حُكمُ النفل، قال مالك: ولم يبلُغْنَا أن النبىَّ صلى الله عليه وسلم قال ذلك، ولا فعلَه فى غيرِ يوم حُنين، ولا فعلَه أَبُو بكر، ولا عُمر رضى الله عنهما. قال ابن الموَّاز: ولم يُعط غير البراء بن مالك سلبَ قتيله، وخمَّسه.
قال أصحابه: قال اللَّه تعالى: {واعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِنْ شَىءٍ فأنَّ للَّهِ خُمُسَهُ }، فجعل أربعة أخماس الغنيمة لمن غنمها، فلا يجوز أن يُؤخذ شىء مما جعله اللَّه لهم بالاحتمال.
وأيضاً فلو كانت هذه الآيةُ إنما هى فى غير الأسلاب، لم يُؤخر النبى صلى الله عليه وسلم حكمها إلى حُنين، وقد نزلت فى قصة بدر، وأيضاً إنما قال: ((مَنْ قَتَلَ قَتِلاً فلَهُ سَلَبُه))، بعد أن برد القتالُ، ولو كان أمراً متقدماً، لعلمه أبو قتادة فارسُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وأحدُ أكابر أصحابه، وهو لم يطلبه حتى سَمِعَ منادىَ رسولِ اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يقولُ ذلك.
قالوا: وأيضاً فالنبىُّ صلى الله عليه وسلم أعطاه إياه بشهادة واحد بلا يمين، فلو كان مِن رأس الغنيمة، لم يخرج حقُّ مغنم إلا بما تخرج به الأملاكُ من البيِّنات، أو شاهد ويمين.
قالوا: وأيضاً فلو وجب للقاتل ولم يجد بيِّنة لكان يُوقف، كاللقطة ولا يُقسم، وهو إذا لم تكن بينة يُقسَم، فخرج من معنى الملك، ودل على أنه إلى اجتهاد الإمام يجعلُه من الخمس الذى يجعل فى غيره، هذا مجموعُ ما احتُجَّ به لهذا القول.
قال الآخرون: قد قال ذلك رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم، وفعله قبل حُنين بستة أعوام، فذكر البخارى فى ((صحيحه)): أن معاذَ بن عمرو بنِ الجموح، ومُعاذَ بن عفراء الأنصاريين، ضرباً أبا جهل بن هشام يوم بدر بسيفهما حتى قتلاه، فانصرفا إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فأخبراه، فقال: ((أَيُّكُمَا قَتَلَهُ))؟ فقال كُلُّ واحد منهما: أنا قتلته، فقال: ((هَلْ مَسَحْتُما سَيْفَيْكُمَا))؟ قالا: لا، فنظر إلى السيفين، فقال: ((كِلاَكُمَا قَتَلَهُ))، وسَلَبُه لمعاذ بْنِ عَمْرو بْنِ الجَمُوح، وهذا يدل على أن كونَ السلب للقاتل أمرٌ مقرر معلومٌ مِن أول الأمر، وإنما تجدَّد يومَ حنين الإعلامُ العام، والمناداة به لا شرعيتُه.
( وأما قول ابنِ الموَّاز: إن أبا بكر وعمر لم يفعلاه، فجوابُه من وجهين ؛ أحدُهما: أن هذا شهادةٌ على النفى، فلا تُسمع، الثانى: أنه يجوز أن يكون تركُ المناداة بذلك على عهدهما اكتفاءً بما تقرر، وثبت مِن حكم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وقضائه، وحتى لو صحَّ عنهما تركُ ذلك تركاً صحيحاً لا احتمالَ فيه، لم يُقَدَّم على حكم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم.
وأما قولُه: ولم يُعط غيرَ البراء بن مالك سلبَ قتيله، فد أعطى السلبَ لسلمة ابنِ الأكوع، ولمعاذ بن عمرو، ولأبى طلحة الأنصارى، قَتَلَ عِشرين يَوْمَ حنين، فأخذ أسلاَبهم، وهذه كلها وقائع صحيحة معظمُها فى الصحيح، فالشهادةُ على النفى لا تكاد تسلمُ من النقض.
وأما قولُه: ((وخمَّسَه))، فهذا لم يُحفظ به أثر البتة، بل المحفوظُ خلافه، ففى ((سنن أبى داود)): عن خالد، أن النبى صلى الله عليه وسلم، لم يُخَمِّس السَّلَب.
وأما قولُه تعالى: {واعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِنْ شَىءٍ فأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41]، فهذا عام، والحكم بالسلب للقاتل خاص، ويجوز تخصيصُ عمومِ الكتاب بالسنة، ونظائرُه معلومة، ولا يُمكن دفعُها.
وقوله: ((لا يجعل شىء من الغنيمةِ لغير أهلها بالاحتمال))، جوابُه من وجهين، أحدهما: أنا لم نجعل السلب لغير الغانمين. الثانى: إنما جعلنا للقاتل بقول رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لا بالاحتمال، ولم يؤخِّر النبى صلى الله عليه وسلم حُكمَ الآية إلى يوم حُنين كما ذكرتم، بل قد حكم بذلك يومَ بدر، ولا يمنع كونه قاله بعد القتالِ مِن استحقاقه بالقتل.وأما كون أبى قتادة لم يطلبه حتى سَمِعَ منادى النبى صلى الله عليه وسلم يقوله، فلا يدُلُّ على أنه لم يكن متقرراً معلوماً، وإنما سكت عنه أبو قتادة لأنه لم يكن يأخُذه بمجرد دعواه، فلما شهد له به شاهد أعطاه.
والصحيح: أن يُكتفى فى هذا بالشاهد الواحد، ولا يحتاج إلى شاهد آخر، ولا يمين، كما جاءت به السنةُ الصحيحةُ الصريحة التى لا مُعارِضَ لها، وقد تقدم هذا فى موضعه. وأما قولُه: ((إنه لو كان للقاتل، لوقف، ولم يُقسم كاللقطة))، فجوابُه أنه للغانمين، وإنما للقاتل حقُّ التقديم، فإذا لم تُعلم عين القاتل اشترك فيه الغانمين، فإنه حقهم، ولم يظهر مستحق التقديم منهم، فاشتركوا فيه.