فصل في حكمه صلى الله عليه وسلم في سعي بنو هشام في مصاهرة علي بن أبي طالب رضي الله عنه
 
واستأذنه بنو هشام بن المُغيرة أن يُزوِّجوا علىَ بنَ أبى طالب رضى الله عنه ابنةَ أبى جهل، فلم يأذن فى ذلك، وقال: ((إلاَّ أَنْ يُرِيدَ ابْنُ أبى طَالِبٍ أَنْ يُطَلِّقَ ابْنَتى ويَنْكِحَ ابْنَتَهُم، فإنَّمَا فَاطِمَة بَضْعَةٌ مِنِّى يَرِيبُنى ما رَابَها، ويُؤْذِينى ما آذاهَا، إنِّى أَخَافُ أَنْ تُفْتَنَ فَاطِمَةُ فى دِينِها، وإنى لَسْتُ أُحَرِّمُ حَلاَلاً، ولاَ أُحِلُّ حَراماً، ولكِنْ واللَّهِ لا تَجْتَمِع بِنْتُ رَسُولِ الله وبِنْتُ عدوِّ الله فى مَكانٍ وَاحِدٍ أَبداً))
وفى لفظ فذكر صِهراً له فأثنى عليه، وقال: حَدَّثَنى فَصَدَقَنى، وَوَعَدَنى فوفى لى.
فتضمَّن هذا الحكمُ أموراً.
أحدُها: أن الرجل إذا شرط لزوجته أن لا يتزوج عليها، لزمه الوفاءُ بالشرط، ومتى تزوَّج عليها، فلها الفسخ، ووجه تضمن الحديث لذلك أنه صلى الله عليه وسلم أخبر أن ذلك يُؤذى فاطمة ويَريبها، وأنه يؤذيه صلى الله عليه وسلم ويريبه، ومعلوم قطعاً أنه صلى الله عليه وسلم إنما زوجه فاطمة رضى الله عنها على أن لا يُؤذيها ولا يَريبها، ولا يؤذى أباها صلى الله عليه وسلم ولا يَريبه، وإن لم يكن هذا مشترطاً فى صُلب العقد، فإنه مِن المعلوم بالضرورة أنه إنما دخل عليه، وفى ذكره صلى الله عليه وسلم صِهره الآخر، وثناءَه عليه بأنه حدَّثه فصدقه، ووعده فوفى له تعريضٌ بعلى رضى الله عنه، وتهييجٌ له على الاقتداء به، وهذا يُشعر بأنه جرى منه وعد له بأنه يَريبها ولا يُؤذيها، فهيَّجه على الوفاء له، كما وفى له صهرُه الآخر.
فيُؤخذ مِن هذا أن المشروطَ عُرفاً كالمشروطِ لفظاً، وأن عدمَه يُملِّك الفسخ لمشترطه، فلو فُرِضَ من عادة قوم أنهم لا يُخرجون نساءهم من ديارهم ولا يُمكنو أزواجَهم من ذلك البتة، واستمرت عادتُهم بذلك كان كالمشروط لفظاً، وهو مطَّرد على قواعد أهل المدينة، وقواعِد أحمد رحمه الله: أن الشرط العرفى كاللفظى سواء، ولهذا أوجبوا الأجرةَ على من دفع ثوبه إلى غسَّال أو قصار، أو عجينَه إلى خباز، أو طعامَه إلى طباخ يعملُون بالأجرة، أو دخل الحمامَ، أو استخدم من يغسله ممن عادته يغسِل بالأجرة ونحو ذلك، ولم يشرط لهم أجرة أنه يلزمه أجرة المثل. وعلى هذا، فلو فُرِضَ أن المرأة من بيت لا يتزوجُ الرجلُ على نسائهم ضرةً، ولا يُمكنونه مِن ذلك، وعادتهم مستمرة بذلك، كان كالمشروط لفظاً.
وكذلك لو كانت ممن يعلم أنها لا تُمكِّن إدخالَ الضرةِ عليها عادةً لشرفها وحسبها وجَلالتها كان تركُ التزوُّج عليها كالمشروط لفظاً سواء.
وعلى هذا فسيِّدةُ نساء العالمين، وابنةُ سيد ولد آدمَ أجمعين أحقُّ النساء بهذا، فلو شرطه على فى صُلب العقد كان تأكيدا لا تأسيساً.
فى منع على من الجمع بين فاطمة رضى الله عنها، وبين بنتِ أبى جهل حِكمةٌ بديعة، وهى أن المرأةَ مع زوجها فى درجته تبعٌ له، فإن كانت فى نفسها ذاتَ درجة عالية، وزوجُها كذلك، كانت فى درجة عالية بنفسها وبزوجها، وهذا شأنُ فاطمة وعلى رضى الله عنهما، ولم يكن اللَّهُ عز وجل لِيجعل ابنةَ أبى جهل مع فاطمة رضى الله عنها فى درجة واحدة لا بنفسها ولا تبعاً وبينَهما من الفرق ما بينهما، فلم يكن نكاحُها على سيدة نساء العالمين مستحسناً لا شرعاً ولا قدراً، وقد أشار صلى الله عليه وسلم إلى هذا بقوله: ((والله لا تَجْتَمِعُ بِنتُ رَسُولِ اللَّهِ وبنت عَدُوِّ اللَّه فى مَكَانٍ وَاحِدٍ أَبداً))، فهذا إما أن يتناولَ درجة الآخر بلفظه أو إشارته.