فصل في طلاق الغضبان 1
 
وأما طلاق الإغلاق، فقد قال الإمام أحمد فى رواية حنبل: وحديثُ عائشة رضى الله عنها: سمعت النبى صلى الله عليه وسلم يَقول: ((لا طَلاقَ ولا عِتاق فى إغلاق))، يعنى الغضبَ، هذا نصُّ أحمد حكاه عنه الخلال، وأبو بكر فى ((الشافى)) و((زاد المسافر)). فهذا تفسير أحمد.
وقال أبو داود فى سننه: أظنه الغضب، وترجم عليه: ((باب الطلاق على غلط)) وفسره أبو عُبيد وغيرُه: بأنه الإكراه، وفسره غيرهما: بالجنون، وقيل: هو نهىُ عن إيقاع الطلقات الثلاث دفعةً واحدة، فُيغْلَقُ عليه الطلاقُ حتى لا يبقى منه شىء، كغَلَقِ الرهن، حكاه أبو عُبيد الهروى.
قال شيخُنا: وحقيقةُ الإغلاق: أن يُغلق على الرجل قلبُه، فلا يقصِدُ الكلام، أو لا يعلم به، كأنه انغلق عليه قصدُه وإرادتُه. قلت: قال أبو العباس المبرِّد: الغَلَق: ضيقُ الصدر، وقلةُ الصبر بحيث لا يجد مخلصاً قال شيخنا: ويدخل فى ذلك طلاقُ المكرَه والمجنون، ومن زال عقلُه بسُكر أو غضب، وكُلُّ من لا قصد له ولا معرفة له بما قال.
والغضب على ثلاثة أقسام.
أحدها: ما يُزيل العقل، فلا يشعُرُ صاحبُه بما قال، هذا لا يقعُ طلاقه بلا نزاع.
الثانى: ما يكون فى مباديه بحيث لا يمنع صاحِبَه مِن تصور ما يقولُ وقصده، فهذا يقع طلاقُه.
الثالث: أن يستحكِمَ ويشتدَّ به، فلا يُزيل عقله بالكلية، ولكن يحولُ بينه وبين نيته بحيث يندَمُ على ما فرط منه إذا زال، فهذا محلُّ نظر، وعدمُ الوقوع فى هذه الحالة قوى متجه.
حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الطلاق قبل النكاح
فى السنن: من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده، قال: قال رسول الله صلىالله عليه وسلم: ((لا نَذْرَ لابْن آدَمَ فِيمَا لاَ يَمْلِكُ، ولاَ عِتْقَ لَهُ فِيمَا لاَ يَمْلِكُ، ولا طَلاَقَ لَهُ فِيمَا لاَ يَمْلِكُ)). قال الترمذى: هذا حديث حسن، وهو أحسنُ شىء فى هذا الباب، وسَألت محمد بن إسماعيل. فقلت: أىُّ شىء أصحُّ فى الطلاق قبل النكاح؟ فقال: حديثُ عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده.
وروى أبو داود: ((لا بَيْعَ إلاَّ فِيمَا يَمْلِكُ، ولا وَفَاءَ نَذْرِ إلاَّ فِيما يَمْلِكُ)).
وفى سنن ابن ماجه: عن المِسور بنِ مَخْرَمَة رضى الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لاَ طَلاَقَ قَبْلَ النِّكَاحِ وَلاَ عِتْق قَبْلَ مِلْكِ)).
وقال وكيع: حدثنا ابنُ أبى ذئب، عن محمد بن المنكدِر، وعطاء بن أبى رباح، كلاهما عن جابر بن عبد الله يرفعه: ((لاَ طَلاَقَ قَبْلَ نكاح)).
وذكر عبدُ الرزاق، عن ابن جريج، قال: سمعتُ عطاءً يقول: قال ابنُ عباس رضى الله عنه: لا طلاقَ إلا من بعدِ نكاح.
قال ابنُ جريج: بلغ ابن عباس أن ابن مسعود يقول: إن طلَّق ما لم ينكِحْ فهو جائز، فقال ابن عباس: أخطأ فى هذا، إن الله تعالى يقول:{إذَا نَكَحْتُمُ المُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} [الأحزاب: 49]، ولم يقل: إذا طلقتم المؤمنات ثم نكحتموهن.
وذكر أبو عُبيد: عن على بن أبى طالب رضى الله عنه أنه سُئِل عن رجل قال: إن تزوجتُ فلانه، فهى طالق، فقال على: ليس طلاقٌ إلا من بعد ملك.
وثبت عنه رضى الله عنه أنه قال: لا طلاق إلا من بعد نكاح وإن سماها.
وهذا قولُ عائشة، وإليه ذهب الشافعى، وأحمد، وإسحاق وأصحابُهم، وداود وأصحابُه، وجمهورُ أهل الحديث.
ومِن حجة هذا القول: أن القائل: إن تزوجتُ فلانه، فهى طالق مُطَلِّقٌ لأجنبية، وذلك محال، فإنها حِينَ الطلاق المعلَّق أجنبية، والمتجدِّدُ هو نِكاحُها، والنكاح لا يكون طلاقاً، فعُلِمَ أنها لو طلقت، فإنما يكون ذلك استناداً إلى الطلاق المتقدِّم معلقاً، وهى إذا ذاك أجنبية، وتجدُّدُ الصفة لا يجعلُه متكلماً بالطلاق عند وجودها فإن وجودها مختار للنكاح غيرُ مريد للطلاق، فلا يَصِبحُّ، كما لو قال لأجنبية: إن دخلت الدار فأنت طالق، فدخلَتْ وهى زوجتُه، لم تطلق بغير خلاف.
فإن قيل: فما الفرقُ بين تعليق الطلاق وتعليق العِتق؟ فإنه لو قال: إن ملكت فلاناً، فهو حر، صَحَّ التعليقُ، وعتق بالملك؟
قيل: فى تعليق العِتق قولان، وهما روايتان عن أحمد، كما عنه روايتان فى تعليق الطلاق، والصحيحُ من مذهبه الذى عليه أكثرُ نصوصه، وعليه أصحابه: صحةُ تعليق العتق دون الطلاق، والفرقُ بينهما أن العِتقَ له قوة وسراية، ولا يعتمِدُ نفوذ الملك، فإنه ينفذ فى ملك الغير، ويَصِحُّ أن يكون الملك سبباً لزواله بالعتق لزواله عقلاً وشرعاً، كما يزولُ ملكه بالعتق عن ذى رحمه المحرَمِ بشرائه، وكما لو اشترى عبداً لِيعتقه فى كفارة أو نذر، أو اشتراه بشرط العِتق، وكُلُّ هذا يُشرع فيه جعل الملك سبباً للعتق، فإنه قُربة محبوبة للَّه تعالى، فشرع الله سبحانه التوسلَ إليه بكل وسيلة مفضية إلى محبوبه، وليس كذلك الطلاقُ، فإنه بغيضُ إلى الله، وهو أبغضُ الحلال إليه، ولم يجعل ملك البُضع بالنكاح سبباً لإزالته ألبتة، وفرقٌ ثانٍ أن تعليق العتق بالملك من باب نذر القُرَبِ والطاعات والتبرر، كقوله: لئن آتانىَ الله مِن فضله، لأتصدقن بكذا وكذا، فإذا وُجِدَ الشرطُ، لزمه ما علقه به من الطاعة المقصودة، فهذا لونٌ، وتعليقُ الطلاق على الملك لونٌ آخر.
حكْمُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فى تحريم طلاق الحائضِ والنفساء والموطوءةِ فى طُهرها، وتحريم إيقاع الثلاث جملة
فى ((الصحيحين)): أن ابن عمر رضي الله عنه طلق امرأته وهى حائض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأل عمرُ بن الخطاب رضى الله عنه عن ذلك رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْها ثُمَّ ليمْسِكْها حَتَّى تَطْهُرَ ثُمَّ تَحيضَ، ثُمَّ تَطْهُرَ، ثُمَّ إنْ شَاءَ أَمْسَكَ بَعْدَ ذَلِكَ، وإنْ شَاءَ يُطلِّقُ قَبْلَ أَنْ يَمَسَّ، فَتِلْكَ العِدَّةُ التى أَمَرَ اللَّهُ أَنْ تُطَلَّقَ لَها النِّسَاءُ)).
ولمسلم: ((مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْها، ثُمَّ لِيُطَلِّقْها طاهِراً أو حامِلاً)).
وفى لفظ: ((إنْ شَاءَ طلَّقَها طاهِراً قَبْل أنْ يَمسَّ، فذلِكَ الطَّلاقُ لِلْعِدَّةِ كَمَا أَمَرَهُ الله تَعالى)). وفى لفظ للبخارى: ((مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْها ثُمَّ ليُطَلِّقْها فى قُبُلِ عِدَّتِها)).
وفى لفظ لأحمد، وأبى داود، والنسائى، عن ابن عمر رضى الله عنهما: قال: طلق عبد الله بن عمر امرأتَه وهى حائِض، فردَّها عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يرها شيئاً، وقال: ((إذَا طَهُرَتْ فَلْيُطَلِّقْ أَوْ لِيُمْسِكْ)). وقال ابن عمر رضى الله عنه: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {يَأيُّها النَّبىُّ إذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلَّقُوهُنَّ} [الطلاق: 1] فى قُبُلِ عِدَّتِهِنَّ.
فتضمَّن هذا الحكمُ أن الطلاقَ على أربعة أوجه: وجهانِ حلال، ووجهان حرام.
فالحلالان: أن يطلِّق امرأته طَاهراً مِن غير جماع، أو يُطلِّقها حاملاً مستبيناً حملها.
والحرامان: أن يُطَلِّقها وهى حائض، أو يُطلِّقها فى طهرٍ جامعها فيه هذا فى طلاق المدخول بها.
وأما من لم يدخل بها، فيجوز طلاقُها حائضاً وطاهراً، كما قال تعالى: {لاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} [البقرة: 236].
وقال تعالى: {يَأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا إذَا نَكَحْتُمُ المُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَالكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها} [الأحزاب: 49] وقد دل على هذا قولُه تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق:1] وهذه لا عِدة لها، ونبَّه عليه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بقوله: ((فَتِلْكَ العِدَّةُ الَّتى أَمرَ اللَّهُ أَنْ تُطَلَّق لَهَا النِّسَاء))، ولولا هاتان الآيتانِ اللتان فيهما إباحةُ الطلاق قبل الدخول، لمنع مِن طلاق مَنْ لا عِدة له عليها.
وفى سنن النسائى وغيره: من حديث محمود بن لبيد، قال: أُخْبِرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رجُلِ طلَّق امرأته ثلاثَ تطليقاتٍ جمعياً، فقامَ غضبان، فقال: ((أيُلْعَبُ بِكِتَابِ اللَّهِ وأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُم))، حتى قام رجلٌ، فقال: يا رسولَ الله، أفلا أقتُلُه.
وفى ((الصحيحين)): عن ابن عُمَرَ رضى الله عنه، أنه كان إذا سئل عن الطلاق قال: أَمَّا أَنْتَ إن طَلَّقْتَ امْرَأَتَكَ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَين، فإِنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنى بهذا، وإنْ كُنْتَ طلَّقتها ثلاثاً، فقد حَرُمَتْ عَلَيْكَ حتى تَنْكِحَ زوجاً غيرَكَ، وعصيتَ الله فِيمَا أمَرَك مِنْ طَلاقِ امْرَأَتِكَ.
فتضمَّنَتْ هذه النصوصُ أن المطلَّقة نوعان: مدخولٌ بها، وغيرُ مدخول بها، وكلاهما لا يجوز تطليقها ثلاثاً مجموعة، ويجوزُ تطليقُ غيرِ المدخولِ بها طاهراً وحائضاً.
وأما المدخولُ بها، فإن كانت حائضاً أو نفساء، حرم طلاقُها، وإن كانت طاهراً فإن كانت مستبينَةَ الحمل، جاز طلاقُها بعد الوطءِ وقبله، وإن كانت حائلاً لم يَجُزْ طلاقها بعد الوطء فى طُهر الإصابة، ويجوز قبلَه هذا الذى شرعه اللَّهُ على لسان رسولهِ مِن الطلاق، وأجمعَ المسلمون على وقوعِ الطلاق الذى أذن الله فيه، وأباحه إذا كان مِن مكلَّفٍ مختارٍ، عالم بمدلول اللفظ، قاصدٍ له.
واختلفوا فى وقوع المحرَّم من ذلك، وفيه مسألتان.
المسألة الأولى: الطلاق فى الحيض، أو فى الطهر الذى واقعها فيه.
المسألة الثانية: فى جمع الثلاث، ونحن نذكر المسألتين تحريراً وتقريراً، كما ذكرناهما تصويراً، ونذكر حُجَجَ الفَريقينِ، ومنتهى أقدام الطائفتينِ، مع العلم بأن المقلِّد المتعصِّب لا يتركُ مَنْ قَلده ولو جاءته كُلُّ آية، وإن طالبَ الدليل لا يأتمُّ بسواه، ولا يُحَكِّمُ إلا إياه، ولِكل من الناس مَوْردُ لا يتعداه، وسبيل لا يتخطاه، ولقد عُذِرَ مَنْ حَمَلَ ما انتهت إليه قواه، وسعى إلى حيث انتهت إليه خُطاه.
فأما المسألةُ الأولى، فإن الخلافَ فى وقوع الطلاق المحرَّم لم يزل ثابتاً بين السلف والخلف، وقد وَهِمَ من ادعى الإجماعَ على وقوعه، وقال بمبلغ علمه، وخفى عليه مِن الخلاف ما اطلع عليه غيرُه، وقد قال الإمامُ أحمد: من ادعى الإجماع، فهو كاذب، وما يُدريه لعلَّ الناسَ اختلفوا.
كيف والخلافُ بين الناس فى هذه المسألة معلومُ الثبوت عن المتقدمين والمتأخرين؟ قال محمد بن عبد السلام الخُشنى: حدثنا محمد بن بشار ؛ حدثنا عبد الوهَّاب بنُ عبد المجيدِ الثقفى، حدثنا عُبيد الله بن عمر، عن نافع مولى ابن عمر، عن ابن عمر رضى الله عنه أنه قال فى رجل طلق امرأته وهى حائض. قال ابن عمر: لا يعتد بذلك، ذكره أبو محمد ابن حزم فى ((المحلى)) بإسناده إليه.
وقال عبد الرزاق فى ((مصنفه)): عن ابن جريج، عن ابن طاووس، عن أبيه أنه قال: كان لا يرى طلاقاً ما خالفَ وجهَ الطَّلاقِ، ووجُهَ العِدة، وكان يقول: وجهُ الطلاقِ: أن يُطَلِّقَها طاهِراً مِن غير جماع وإذا استبان حملُها.
وقال الخُشنى: حدثنا محمد بنُ المثَّنى، حدثنا عبدُ الرحمن بن مهدى، حدثنا همَّام بن يحيى، عن قتادة، عن خِلاس بن عمرو أنه قال فى الرجل يُطلِّق امرأته وهى حائض: قال: لا يُعْتَدُّ بها قال أبو محمد ابن حزم: والعجبُ من جُرأة منِ ادَّعى الإجماعَ على خلاف هذا، وهو لا يجد فيما يُوافق قوله فى إمضاء الطلاق فى الحيض أو فى طهر جامعها فيه كلمة عن أحدٍ من الصحابة رضى الله عنهم غيرَ رواية عن ابن عمر قد عارضها ما هو أحسنُ منها عن ابن عمر، وروايتين عن عُثمان وزيدِ بن ثابت رضى الله عنهما. إحداهما: رويناها من طريق ابن وهب عن ابنِ سمعان، عن رجل أخبره أن عثمانَ بن عفان رضى الله عنه كان يقضى فى المرأة التى يُطلِّقُها زوجها وهى حائض أنها لا تعتدُّ بحيضتها تلك، وتعتدُّ بعدَها بثلاثة قروء. قلت: وابن سمعان هو عبد الله بن زياد بن سمعان الكذاب، وقد رواه عن مجهول لا يُعرف. قال أبو محمد: والأخرى من طريق عبد الرزاق، عن هشام بن حسان، عن قيس بن سعد مولى أبى علقمة، عن رجل سماه، عن زيد بن ثابت أنه قال فيمن طلَّق امرأَته وهى حائض: يلزمه الطلاقُ، وتعتد بثلاثِ حيض سوى تلك الحيضة.
قال أبو محمد: بل نحنُ أسعدُ بدعوى الإجماع هاهنا لو استجزنا ما يستجيزوُن ونعوذُ باللَّه من ذلك، وذلك أنه لا خلافَ بين أحدٍ من أهل العلم قاطبة، ومن جملتهم جميع المخالفين لنا فى ذلك أن الطلاق فى الحيض أو فى طهر جامعها فيه بدعة نهى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم مخالفة لأمره، فإذا كان لا شك فى هذا عندهم، فكيف يستجيزون الحكم بتجويز البدعة التى يقرون أنها بدعةٌ وضلالة، أليس بحكم المشاهدة مجيزُ البدعة مخالفاً لإجماع القائلين بأنها بدعة؟ قال أبو محمد: وحتي لو لم يبلغنا الخلافُ، لكان القاطعُ على جميع أهل الإسلام بما لا يقين عنده، ولا بلغه عن جميعهم كاذباً على جميعهم.
قال المانعون من وقوع الطلاق المحرم: لا يُزَالُ النكاحُ المتيقنُ إلا بيقين مثله من كتاب، أو سنة، أو إجماع متيقَّن. فإذا أوجدتمونا واحداً من هذه الثلاثة، رفعنا حُكْمَ النِّكاح به، ولا سَبيلَ إلى رفعه بغير ذلك. قالوا: وكيف والأدلةُ المتكاثِرةٌ تدل على عدم وقوعه، فإن هذا طلاق لم يشرعه الله تعالى ألبتة، ولا أذن فيه، فليس من شرعه، فكيف يُقال بنفوذه وصحته؟
قالوا: وإنما يقع من الطلاق المحرم ما ملَّكه الله تعالى للمطلّق، ولهذا لا يقع به الرابعةُ، لأنه لم يملِّكها إياه، ومن المعلوم أنه لم يملِّكه الطلاقَ المحرم، ولا أذن له فيه، فلا يصح، ولا يقع.
قالوا: ولو وكل وكيلاً أن يُطلِّق امرأتَه طلاقاً جائزاً، فطلّق طلاقاً محرماً، لم يقع، لأنه غيرُ مأذون له فيه، فكيف كان إذن المخلوف معتبراً فى صحة إيقاع الطلاق دون إذن الشارع، ومِن المعلوم أن المكلَّفَ إنما يتصرف بالإذن، فما لم يأذن به الله ورسولُه لا يكون محلاً للتصرف البتة.
قالوا: وأيضاً فالشارِعُ قد حجر على الزوج أن يُطَلَّق فى حال الحيض أو بعد الوطءِ فى الطهر، فلو صح طلاقُه لم يكن لحجر الشارع معنى، وكان حجرُ القاضى على من منعه التصرف أقوى من حجر الشارع حيث يُبطِلُ التصرفَ بحجره.
قالوا: وبهذا أبطلنا البيعَ وقتَ النداءِ يومَ الجمعة، لأنه بيعٌ حجر الشارعُ على بائعه هذا الوقتَ، فلا يجوز تنفيذُه وتصحيحه.
قالوا: ولأنه طلاقٌ محرم منهى عنه، فالنهىُ يقتضى فسادَ المنهى عنه، فلو صححناه، لكان لا فرق بين المنهى عنه والمأذونِ فيه من جهة الصحة والفساد.
قالوا: وأيضاً فالشارِعُ إنما نهى عنه وحرمه، لأنه يُبغِضُه، ولا يُحبُّ وقوعه، بل وقوعُه مكروه إليه، فحرَّمه لِئلا يقع ما يُبغضه ويكرهه، وفى تصحيحه وتنفيذه ضِد هذا المقصود.
قالوا: وإذا كان النكاحُ المنهى عنه لا يَصِحُّ لأجل النهى، فما الفرقُ بينه وبين الطلاق، وكيف أبطلتم ما نهى الله عنه من النكاح، وصححتم ما حرَّمه ونهى عنه من الطلاق، والنهى يقتضى البطلان فى الموضعين؟
قالوا: ويكفينا من هذا حُكمُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم العام الذى لا تخصيص فيه برد ما خالف أمره وإبطاله وإلغاءه، كما فى ((الصحيح)) عنه، من حديث عائشة رضى الله عنها: ((كُلُّ عَمَلٍ لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنا فَهُوَ رَدٌّ)) وفى رواية: ((مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْس عَلَيْهِ أَمْرُنا فَهُوَ رَدٌّ)). وهذا صريحُ أن هذا الطلاقَ المحرَّم الذى ليس عليه أمرُه صلى الله عليه وسلم مردود باطل، فكيف يُقال: إنه صحيح لازم نافذ؟ فأين هذا مِن الحكم برده؟
قالوا: وأيضاً فإنه طلاقٌ لم يشرعه الله أبداً، وكان مردوداً باطلاً كطلاق الأجنبية، ولا ينفعُكم الفرقُ بأن الأجنبية ليست محلاً للطلاق بخلاف الزوجة، فإن هذه الزوجة ليست محلاً لِلطلاق المحرَّم، ولا هو مما ملَّكه الشَّارِعُ إيَّاه.
قالوا: وأيضاً فإن الله سبحان إنما أمر بالتسريح بإحسان، ولا أشر مِن التسريح الذى حرَّمه اللَّهُ ورسُوله، وموجب عقدِ النكاح أحدُ أمرين: إما إمساك بمعروف، أو تسريح بإحسان، والتسريح المحرَّم أمر ثالثُ غيرُهما، فلا عبرة به البتة.
قالوا: وقد قال اللَّهُ تعالى: {يأيَّها النَّبىُّ إذا طَلَّقُتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق:1] وصحَّ عن النبىَّ صلى الله عليه وسلم المبيِّنِ عن اللَّهِ مرادَه مِن كلامه، أن الطلاق المشروع المأذون فيه هو الطلاقُ فى زمن الطهر الذى لم يُجامع فيه، أو بعدَ استبانة الحمل، وما عداهُما فليس بطلاق للعدة فى حق المدخول بها، فلا يكون طلاقاً، فكيف تحرم المرأة به؟
قالوا: وقد قال تعالى: {الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ} [البقرة:229]، ومعلوم أنه إنما أرادَ الطلاق المأذونَ فيه، وهو الطلاقُ للعدة، فدل على أن ما عداه ليس من الطلاق، فإنه حصر الطلاقَ المشروع المأذونَ فيه الذى يملك به الرجعة فى مرتين، فلا يكون ما عداه طلاقاً. قالُوا: ولهذا كان الصحابةُ رضى الله عنهم يقولون: إنهم لا طاقة لهم بالفتوى فى الطلاق المحرَّم، كما روى ابنُ وهب، عن جرير بن حازم، عن الأعمش، أن ابن مسعود رضى الله عنه قال: من طلق كما أمره الله، فقد بيَّن الله له، ومن خالف، فإنا لا نُطِيقُ خِلافه، ولو وقع طلاقُ المخالف لم يكن الإفتاءُ به غير مطاق لهم، ولم يكن للتفريق معنى إذ كان النوعانِ واقعينَ نافذين.
وقال ابن مسعود رضي الله عنه أيضاً: من أتى الأمرَ على وجهه فقد بَيَّنَ الله له وإلا فواللَّهِ ما لنا طاقةٌ بكل ما تُحْدِثُون.
وقال بعض الصحابةِ قد سئل عن الطلاق الثلاث مجموعة: مَنْ طلَّق كما أمر، فقد بُيِّن له، ومن لبَّس، تركناه وتلبيسه.
قالوا: ويكفى من ذلك كله ما رواه أبو داود بالسند الصحيح الثابت: حدثنا أحمد بن صالح، حدثنا عبد الرزاق، حدثنا ابن جريج، قال: أخبرنى أبو الزبير أنه سمع عبد الرحمن بن أيمن مولى عروة يسأل ابنَ عمر قال أبو الزبير وأنا أسمع: كيف ترى في رجل طلَّق امرأته حائضاً؟ فقال: طلَّق ابنُ عمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأل عُمَرُ عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إن عبد الله بن عمر طلق امرأته وهى حائض، قال عبد الله: فردَّها علي ولم يَرَهَا شيئاً، وقال: إذا طهرت فليُطَلِّقْ أو لِيُمسِكْ، قال ابن عُمر: وقرأ رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: {يأَيُّهَا النَّبىُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ} [الطلاق: 1] فى قبلِ عِدَّتِهِنَّ. قالوا: وهذا إسناد فى غاية الصحة، فإن أبا الزبير غيرُ مدفوع عن الحفظ والثقة، وإنما يُخشى مِن تدليسه، فإذا قال: سمعتُ، أو حدثنى، زال محذورُ التدليس، وزالت العلةُ المتوهَّمة، وأكثرُ أهلِ الحديث يحتجُّون به إذا قال: ((عن)) ولم يُصِّرحْ بالسماع، ومسلم يُصحِّح ذلك من حديثه، فأما إذا صرَّحَ بالسماع، فقد زال الإشكالُ، وصحَّ الحديثُ وقامت الحجة.
قالوا: ولا نعلم فى خبر أبى الزبير هذا ما يُوجب ردَّه، وإنما رَدَّه مَنْ ردَّه استبعاداً واعتقاداً أنه خلافُ الأحاديث الصحيحة، ونحن نحكى كلام من رده، ونبين أنه ليس فيه ما يُوجب الرَّد.
قال أبو داود: والأحاديثُ كُلُّها على خلاف ما قال أبو الزبير.
وقال الشافعىُّ: ونافعٌ أثبتُ عن ابن عمر مِن أبى الزبير، والأثبتُ مِن الحديثين أولى أن يُقال به إذا خالفه.
وقال الخطابىُّ: حديثُ يونس بن جبير أثبتُ مِن هذا، يعنى قوله:((مرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا))، وقوله: ((أرأيتَ إن عجز واستحمق))؟ قال: فمه.
قال ابنُ عبدِ البر: وهذا لم ينقله عنه أحدُ غير أبى الزبير، وقد رواه عنه جماعةٌ أَجِلَّةٌ، فلم يقل ذلك أحدٌ منهم، وأبو الزبير ليس بحجة فيما خالفه فيه مثلُه، فكيف بخلاف مَن هو أثبتٌ منه.
وقال بعضُ أهلِ الحديث: لم يروِ أبو الزبير حديثاً أنكرَ من هذا.
فهذا جملة ما رُد به خبرُ أبى الزبير، وهو عند التأمل لا يوجب رده ولا بطلانه.
أما قولُ أبى داود: الأحاديثُ كلها على خلافه، فليس بأيديكم سوى تقليدِ أبى داود، وأنتم لا ترضَوْنَ ذلك، وتزعمون أن الحجةَ مِن جانبكم، فدعوا التقليدَ، وأخبرونا أين فى الأحاديث الصحيحة ما يُخالف حديثَ أبى الزُّبير؟ فهل فيها حديثٌ واحد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم احتسب عليه تلك الطلقة، وأمره أن يعتدَّ بها، فإن كان ذلك، فنعم واللَّهِ هذا خلاف صريح لحديثِ أبى الزبير، ولا تَجِدُون إلى ذلك سبيلاً، وغايةُ ما بأيديكم ((مُرْهُ فليراجعها))، والرجعة تستلزِمُ وقوع الطلاق. وقول ابن عمر. وقد سئل: أتعتد بتلك التطليقة؟ فقال: ((أرأيت إن عجز واستحمق)) وقول نافع أو مَنْ دونه: ((فحسبت من طلاقها)) وليس وراءَ ذلك حرفٌ واحد يدُلُّ على وقوعها، والاعتداد بها، ولا ريبَ فى صحة هذه الألفاظ، ولا مطعن فيها، وإنما الشأنُ كُلُّ فى معارضتها، لقوله: ((فردَّها علىَّ ولم يرها شيئاً))، وتقديمها عليه، ومعارضتها لتلك الأدلة المتقدمة التى سقناها، وعند الموازنة يظهرُ التفاوتُ، وعدمُ المقاومة، ونحن نذكرُ ما فى كلِمةٍ كلمةٍ منها.
أما قوله: ((مره فليراجعها))، فالمراجعة قد وقعت فى كلام الله ورسولهِ على ثلاث معان.
( أحدُها: ابتداءُ النكاح، كقوله تعالى:{فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} [البقرة: 230]، ولا خلافَ بينَ أحدٍ من أهلِ العلم بالقرآن أن المطلِّق هاهنا: هو الزوج الثانى، وأن التراجُعَ بينها وبين الزوج الأول، وذلك نكاح مبتدأ.
وثانيهما: الرد الحسى إلى الحالة التى كان عليها أولاً، كقوله لأبى النعمان بن بشير لما نَحَلَ ابنه غلاماً خصَّه به دون ولده: ((رُدَّه))، فهذا رد ما لم تصح فيه الهبةُ الجائزة التى سماها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم جوراً، وأخبر أنها لا تصلُح، وأنها خلاف العدل، كما سيأتى تقريرُه إن شاء الله تعالى.
ومِن هذا قوله لمن فرَّق بين جارية وولدها فى البيع، فنهاه عن ذلك، ورد البيع وليس هذا الرد مستلزماً لصحة البيع، فإنه بيعٌ باطل، بل هو رد شيئين إلى حالة اجتماعهما كما كانا، وهكذا الأمر بمراجعة ابن عمر امرأته ارتجاع ورد إلى حالة الاجتماع كما كانا قبل الطلاق، وليس فى ذلك ما يقتضى وقوع الطلاق فى الحيض البتة.
وأما قوله: ((أرأيتَ إن عجز واستحمق))، فيا سبحانَ الله أين البيان فى هذا اللفظ بأن تلك الطلقة حَسبَها عليه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، والأحكام لا تُؤخذ بمثل هذا ولو كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قد حسبها عليه، واعتدَّ عليه بها لم يَعْدِلْ عن الجواب بفعله وشرعه إلى: أرأيتَ، وكان ابنُ عمر أكره ما إليه ((أرأيت))، فكيف يَعْدِلُ للسائل عن صريح السنة إلى لفظة ((أرأيت)) الدالة على نوع من الرأى سببُه عجز وحمقُه عن إيقاع الطلاق على الوجه الذى أذن الله له فيه، والأظهر فيما هذه صفتُه أنه لا يُعتدى به، وأنه ساقط من فعل فاعله، لأنه ليس فى دين الله تعالى حكم نافذ سببُه العجزُ والحمقُ عن امتثال الأمر، إلا أن يكون فعلاً لا يمكن ردُّه بخلاف العقود المحرَّمة التى مَنْ عقدها على الوجه المحرَّم، فقد عجز واستحمق، وحينئذ، فيُقال هذا أدلُّ على الردِّ منه على الصحة واللزوم، فإنه عقدُ عاجز أحمق على خلافِ أمر الله ورسوله، فيكون مردوداً باطلاً، فهذا الرأىُ والقياس أدلُّ على بطلان طلاق مَن عجز واستحمق منه على صحته واعتباره.
وأما قولُه: فحُسِبَتْ مِن طلاقها. ففعل مبنى لما لم يسم فاعله، فإذا سُمِّىَ فاعله، ظهر، وتبين، هل فى حُسبانه حجة أو لا؟ وليس فى حُسبان الفاعلِ المجهولِ دليلٌ ألبتة. وسواء كان القائلُ: ((فحسبت)) ابن عمر أو نافعاً أو من دونه، وليس فيه بيان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذى حسبها حتى تلتزمَ الحجةُ به، وتحرم مخالفته، فقد تبين أن سائرَ الأحاديث لا تُخَالِفُ حديث أبى الزبير، وأنه صريح فى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يرها شيئاً، وسائر الأحاديث مجملة لا بيان فيها.
قال الموقعون: لقد ارتقيتُم أيها المانعون مرتقىً صعباً، وأبطلتُم أكثرَ طلاق المُطَلِّقين، فإن غالِبه طلاق بدعى، وجاهرتُم بخلاف الأئمة، ولم تتحاشَوْا خِلافَ الجمهور، وشذذتُم بهذا القولِ الذى أفتى جمهورُ الصحابة ومَنْ بعدهم بخلافه، والقرآنُ والسنن تدل على بطلانه. قال تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَها فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} [البقرة:230]، وهذا يعم كُلَّ طلاق، وكذلك قوله: {والمُطَلَّقَاتُ يَتَربَّصْنَ بأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228]، ولم يفرِّق، وكذلك قوله تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة:229] ، وقوله: {ولِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ} [البقرة:241]، وهذه مطلّقة وهى عمومات لا يجوز تَخصيصُها إلا بنص أو إجماع.
قالوا: وحديثُ ابنِ عمر دليل على وقوع الطلاق المحرَّم من وجوه.
أحدها: الأمرُ بالمراجعة، وهى لَمُّ شعثِ النكاح، وإنما شعثه وقوعُ الطلاق.
الثانى: قولُ ابن عمر، فراجعتُها، وحسبت لها التطليقة التي طلَّقها، وكيف يُظن بابن عمر أنه يخالف رسول الله صلى الله عليه وسلم فيحسبها مِن طلاقها ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم لم يرها شيئاً.
الثالث: قولُ ابنِ عمر لما قيل له: أيحتسب بتلك التطليقة؟ قال: أرأيتَ إن عجز واستحمق، أى: عجزُه وحمقُه لا يكون عذراً له فى عدم احتسابه بها.
الرابع: أن ابن عمر قال: وما يمنعُنى أن أعتدَّ بها، وهذا إنكارٌ منه لعدم الاعتداد بها، وهذا يُبْطِلُ تلك اللفظة التى رواها عنه أبو الزبير، إذ كيف يقولُ ابن عمر: وما يمنعُنى أن أعتد بها؟ وهو يرى رسولَ الله قد ردَّها عليه، ولم يرها شيئاً.
الخامس: أن مذهبَ ابن عمر الاعتداد بالطلاقِ فى الحيض، وهو صاحبُ القصة وأعلمُ الناس بها، وأشدُّهم اتباعاً للسنن، وتحرُّجاً من مخالفتها. قالوا: وقد روى ابن وهب فى ((جامعه))، حدثنا ابن أبى ذئب، أن نافعاً أخبرهم عن ابن عمر، أنه طلق امرأته وهى حائض، فسأل عُمَرُ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال: ((مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا ثُمَّ لِيُمْسِكْها حَتَّى تَطْهُرَ ثُمَّ تَحيضَ ثُمَّ تَطْهُرَ، ثُمَّ إنْ شاءَ أمْسَكَ بَعْدَ ذَلِكَ وإنْ شَاءَ طَلَّقَ قَبْلَ أَنْ يَمَسَّ، فَتِلْكَ العِدَّةَ التى أمَرَ اللَّهُ أنْ تُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ)) وهى واحدة هذا لفظ حديثه.
قالوا: وروى عبد الرزاق، عن ابن جريج قال: أرسلنا إلى نافع وهو يترجَّلُ فى دار الندوة ذاهباً إلى المدينة، ونحنُ مع عطاء: هل حسبت تطليقة عبد الله بن عمر امرأته حائضاً علي عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم.
قالوا: وروى حمادُ بن زيد، عن عبد العزيز بن صهيب، عن أنس رضى الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ طَلَّقَ فى بدْعَةٍ أَلْزْمَنْاهُ بِدْعَتَهُ))، رواه عبد الباقى بن قانع، عن زكريا الساجى حدثنا إسماعيل بن أمية الذارع حدثنا حماد فذكره.
قالوا: وقد تقدَّم مذهبُ عثمان بن عفان، وزيد بن ثابت فى فتواهما بالوقوع.
قالوا: وتحريمُه لا يمنع ترتب أثره، وحكمه عليه كالظِّهار، فإنه منكر من القول وزور، وهو محرّم بلا شك، وترتب أثره عليه وهو تحريمُ الزوجة إلى أن يكفِّرَ، فهكذا الطلاقُ البدعى محرّم، ويترتب عليه أثره إلى أن يُراجع، ولا فرق بينهما.
قالوا: وهذا ابنُ عمر يقولُ للمطلق ثلاثاً: حَرُمَتْ عليكَ حتي تنكِحَ زوجاً غيرَك وعصيتَ ربك فيما أمرك به من طلاق امرأتك. فأوقع عليه الطلاق الذى عصى به المطلق ربه عز وجل.
قالوا: وكذلك القذفُ محرّم، وترتب عليه أثرهُ من الحدِّ، وردِّ الشهادة وغيرهما.
قالوا: والفرقُ بين النكاح المحرم، والطلاق المحرّم، أن النكاحَ عقد يتضمَّن حِلَّ الزوجة ومُلك بُضعها، فلا يكون إلا على الوجهِ المأذون فيه شرعاً، فإن الأبضَاع فى الأصل على التحريم، ولا يُباح منها إلا ما أباحه الشارع، بخلاف الطلاق، فإنه إسقاطٌ لحقه، وإزالةٌ لملكه، وذلك لا يتوقَّفُ على كون السبب المزيل مأذوناً فيه شرعاً، كما يزولُ ملكه عن العين بالإتلاف المحرَّم، وبالإقرار الكاذب، وبالتبرع المحرَّم، كهبتها لمن يعلم أنه يستعين بها على المعاصى والآثام.
قالوا: والإيمانُ أصلُ العقود وأجلُّها وأشرفُها، يزول بالكلام المحرَّم إذا كان كفراً فكيف لا يزولُ عقدُ النكاح بالطلاق المحرَّم الذى وضع لإزالته.
قالوا: ولو لَم يكن معنا فى المسألة طلاقُ الهازل، فإنه يقع مع تحريمه لأنه لا يَحِلُّ له الهزل بآيات الله، وقد قال النبى صلى الله عليه وسلم: ((ما بالُ أقوامٍ يتَّخِذُون آيات الله هزواً: طلقتُك راجعتُك، طلقتُك راجعتُك)) فإذا وقع طلاقُ الهازل مع تحريمه، فطلاقُ الجادِّ أولى أن يقع مع تحريمه.
قالوا: وفرق آخر بين النكاح المحرَّم، والطلاق المحرم، أن النكاحَ نعمة، فلا تُستباح بالمحرمات، وإزالتُه وخروجُ البُضع عن ملكه نِقمة، فيجوزُ أن يكون سببها محرماً.
قالوا: وأيضاً فإن الفروجَ يُحتاط لها، والاحتياطُ يقتضى وقوعَ الطلاق، وتجديد الرجعة والعقد.
قالوا: وقد عَهِدْنا النكاحَ لا يُدخل فيه إلا بالتشديدِ والتأكيدِ من الإيجابِ والقبول، والولى والشاهدين، ورِضى الزوجة المعتبرِ رضاها، ويُخْرَجُ منه بأيسر شىء، فلا يحتاجُ الخروج مِنه إلى شىء من ذلك، بل يُدخل فيه بالعزيمة، ويُخرج منه بالشبهة، فأين أحدُهما من الآخر حتى يُقاسَ عليه.
قالوا: ولو لم يكن بأيدينا إلا قولُ حملةِ الشرعِ كُلِّهم قديماً وحديثاً: طلق امرأتَه وهى حائض، والطلاق نوعان: طلاق سنة، وطلاق بدعة، وقول ابن عباس رضى الله عنه: الطلاقُ على أربعة أوجه: وجهانِ حلالٌ، ووجهانِ حرام، فهذا الاطلاق والتقسيمُ دليل على أنه عندهم طلاق حقيقة، وشمولُ اسمِ الطلاق له كشموله للطلاق الحلالِ، ولو كان لفظاً مجرداً لغواً لم يكن له حقيقة، ولا قيل: طلق امرأته، فإن هذا اللفظ إذا كان لغواً كان وجودُه كعدمه، ومثلُ هذا لا يقال فيه: طلق، ولا يقسم الطلاق وهو غيرُ واقع إليه وإلى الواقع، فإن الألفاظ اللاغية التى ليس لها معانٍ ثابتة لا تكونُ هى ومعانيها قسماً من الحقيقة الثابتة لفظاً، فهذا أقصى ما تمسَّك به الموقعون، وربما ادعى بعضهم الإجماع لعدم علمه بالنزاع.


الموضوع التالي


فصل في طلاق الغضبان 2

الموضوع السابق


فصل في طلاق السكران