فصل في طلاق الغضبان 2
 
قال المانعون من الوقوع: الكلامُ معكم فى ثلاث مقاماتٍ بها يستبينُ الحقُّ في المسألة.
المقام الأول: بطلانُ ما زعمتم من الإجماع، وأنه لا سبيل لكم إلى إثباته ألبتة بل العلمُ بانتفائه معلوم.
المقام الثانى، أن فتوى الجمهور بالقول لا يدلُّ على صحته، وقولُ الجمهور ليس بحجة.
المقام الثالث: أن الطلاق المحرَّم لا يدخل تحتَ نصوص الطلاق المطلقة التى رتب الشارعُ عليها أحكام الطلاق، فإن ثبتت لنا هذه المقامات الثلاث، كنا أسعدَ بالصواب منكم فى المسألة.فنقول: أما المقام الأول، فقد تقدم مِن حكاية النزاع ما يُعلم معه بطلانُ دعوى الإجماع، كيف ولو لم يعلم ذلك، لم يكن لكم سبيلٌ إلى إثبات الإجماع الذى تقومُ به الحجة، وتنقطِعُ معه المعذرة، وتحرمُ معه المخالفة، فإن الإجماع الذى يُوجب ذلك هو الإجماعُ القطعى المعلوم.
وأما المقام الثانى: وهو أن الجمهورَ على هذا القول، فأَوْجِدُونا فى الأدلة الشرعية أن قولَ الجمهور حجةٌ مضافة إلى كتاب الله وسنة رسوله، وإجماع أمته.
ومن تأمَّل مذاهب العلماء قديماً وحديثاً من عهد الصحابة وإلى الآن، واستقرأ أحوالهم وجدهم مُجمعين على تسويغ خلاف الجمهور، ووجد لِكل منهم أقوالاً عديدة انفرد بها عن الجمهور، ولا يُستثنى من ذلك أحد قط، ولكن مستقِلٌّ ومستكثِر، فمن شئتم سميتموه من الأئمة تتبَّعوا ما له من الأقوال التى خالف فيها الجمهور، ولو تتبعنا ذلك وعددناه، لطال الكتابُ به جداً، ونحن نُحيلُكم على الكتب المتضمِنة لمذاهب العلماء واختلافهم، ومن له معرفة بمذاهبهم وطرائقهم يأخذُ إجماعَهم على ذلك مِن اختلافهم، ولكن هذا فى المسائل التى يسوغُ فيها الاجتهادُ ولا تدفعُها السنةُ الصحيحةُ الصريحة، وأما ما كان هذا سبيله، فإنهم كالمتفقين على إنكارِه وردِّه، وهذا هو المعلومُ مِن مذاهبهم فى الموضعين.
وأما المقامُ الثالثُ: وهو دعواكم دخول الطلاق المحرم تحت نصوص الطلاق، وشمولها للنوعين إلى آخر كلامكم، فنسألُكم: ما تقولُون فيمن ادَّعى دخولَ أنواع البيعِ المحرّم، والنكاح المحرّم تحت نصوص البيع والنكاح، وقال: شمولُ الاسم للصحيح من ذلك والفاسد سواء، بل وكذلك سائرُ العقود المحرمة إذا ادَّعى دخلوها تحت ألفاظ العقود الشرعية، وكذلك العباداتُ المحرَّمة المنهى عنها إذا ادعى دخولَها تحت الألفاظ الشرعية، وحكم لها بالصِّحة لشمولِ الاسم لها، هل تكون دعواه صحيحة أو باطلة؟ فإن قُلتُم: صحيحة ولا سبيلَ لكم إلى ذلك، كان قولاً معلومَ الفسادِ بالضرورة من الدين، وإن قلتُم: دعواه باطلة، تركتُم قولكم ورجعتم إلى ما قلناه، وإن قلتم: تُقبلُ فى موضع، وتُردُّ فى موضع، قيل لكم: ففرُّقوا بفُرقانٍ صحيح مطَّرِد منعكِسٍ، معكم به برهانُ من الله بينَ ما يدخل من العقود المحرَّمة تحتَ ألفاظ النصوص، فيَّثبتُ له حكمُ الصحة، وبينَ ما لا يدخل تحتها، فيثبتُ له حكمُ البطلان، وإن عجزتُم عن ذلك، فاعلموا أنه ليس بأيديكم سوى الدعوى التى يُحْسِنُ كُلُّ أحدٍ مقابلتها بمثلها، أو الاعتماد على من يُحْتَجُّ لِقوله لا بقوله، وإذا كُشِفَ الغطاء عما قررتموه فى هذه الطريق وُجِدَ عين محل النزاع فقد جعلتموه مقدمة فى الدليل، وذلك عينُ المصادرة على المطلوب، فهل وقع النزاعُ إلا فى دخول الطلاق المحرَّم المنهى عنه تحتَ قوله: {ولِلْمُطَلقَاتِ مَتَاعٌ} [البقرة: 241]، وتحت قوله: {والمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة:228] وأمثال ذلك، وهل سلَّم لكم منازعوكم قطُّ ذلك حتى تجعلوه مقدِّمةً لدليلكم؟
قالوا: وأما استدلالُكم بحديث ابن عمر، فهو إلى أن يكون حجةً عليكم أقربَ منه إلى أن يكون حجةً لكم مِن وجوه.
أحدُها: صريح قوله: فردها علىَّ ولم يرها شيئاً، وقد تقدَّم بيانُ صحته.
قالوا: فهذا الصريح ليسَ بأيديكم ما يُقاومه فى الموضعين، بل جميعُ تلك الألفاظ أما صحيحة غيرُ صريحة، وإما صريحةٌ غيرُ صحيحة كما ستقفون عليه.
الثانى: أنه قد صحَّ عن ابن عمر رضى الله عنه بإسناده كالشمس من رواية عبيد الله، عن نافع عنه، فى الرجل يُطلِّق امرأته وهى حائض، قال: لا يُعْتَدُّ بذلك وقد تقدم.
الثالث: أنه لو كان صريحاً فى الاعتداد به، لما عدل به إلى مجرَّد الرأى. وقوله للسائل: أرأيتَ؟
الرابع: أن الألفاظ قد اضطربت عن ابن عمر فى ذلك اضطراباً شديداً، وكلها صحيحة عنه، وهذا يدلُّ على أنه لم يكن عنده نصُّ صَريح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فى وقوع تلك الطلقة والاعتداد بها، وإذا تعارضت تلك الألفاظُ، نظرنا إلى مذهب ابن عمر، وفتواه، فوجدناه صريحاً فى عدم الوقوع، ووجدناه أحد ألفاظ حديثه صريحاً فى ذلك، فقد اجتمع صريحُ روايته وفتواه على عدم الاعتداد، وخالف فى ذلك ألفاظُ مجملة مضطربة، كما تقدم بيانه.
وأما قولُ ابن عمر رضى الله عنه: وما لى لا أعتدُّ بها، وقوله: أرأيت إن عجزَ واستحمق، فغاية هذا أن يكونَ رواية صريحة عنه بالوقوع، ويكون عنه روايتان.
وقولكم. كيف يفتى بالوقوع وهو يعلم أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قد ردَّها عليه ولم يعتدَّ عليه بها؟ فليس هذا بأوَّل حديثٍ خالفه راويه، وله بغيره مِن الأحاديث التى خالفها راويها أُسْوَةٌ حسنةٌ فى تقديم رواية الصحابى ومن بعده على رأيه.
وقد روى ابن عباس حديثَ برِيرة، وأن بيعَ الأمة ليس بطلاقها، وأفتى بخلافه، فأخذ الناس بروايته، وتركوا رأيَه، وهذا هو الصوابُ، فإن الرواية معصومةُ عن معصوم، والرأى بخلافها، كيف وأصرحُ الروايتين عنه موافقتُه لما رواه من عدم الوقوع على أن فى هذا فِقهاً دقيقاً إنما يَعرِفُه من له غور على أقوال الصحابة ومذاهبهم، وفهمِهم عن اللَّهِ ورسوله، واحتياطِهم للأمة، ولعلك تراه قريباً عند الكلامِ على حُكمه صلى الله عليه وسلم فى إيقاع الطلاق الثلاث جملة.
وأما قوله فى حديث ابن وهب عن ابن أبى ذئب فى آخره: وهى واحدة، فلعمرُ الله لو كانت هذه اللفظة من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قدَّمنا عليها شيئاً، ولصِرنا إليها بأوَّلِ وهلة، ولكن لا ندرى أقالها ابن وهب من عنده، أم ابن أبى ذئب، أم نافع، فلا يجوزُ أن يُضَافَ إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ما لا يُتيقّنُ أنه من كلامه، ويشهد به عليه، وترتب عليه الأحكامُ، ويقال: هذا من عند الله بِالوهم والاحتمال، والظاهر أنها من قولِ مَنْ دون ابن عمر رضى الله عنه، ومراده بها أن ابن عمر إنما طلَّقها واحدة، ولم يكن ذلك منه ثلاثاً ؛ أى طلق ابن عمر رضى الله عنه امرأته واحدة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره.
وأما حديث ابن جريج عن عطاء عن نافع، أن تطليقة عبد الله حُسِبَتْ عليه، فهذا غايتُه أن يكون من كلام نافع، ولا يعرف من الذى حسبها، أهو عبد الله نفسه، أو أبوه عمر، أو رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ولا يجوز أن يشهد على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالوهم والحسبان، وكيف يعارض صريح قوله: ولم يرها شيئاً بهذا المجمل؟ واللَّه يشهد وكفى باللَّه شهيداً أنا لو تيقنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذى حسبها عليه لم نتعد ذلك، ولم نذهب إلى سواه.
وأما حديث أنس: ((مَنْ طَلَّقَ فى بِدْعَةٍ أَلْزَمْنَاه بِدْعَتَهُ))، فحديث باطل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن نشهد باللَّهِ أنه حديث باطل عليه، ولم يروه أحدُ من الثقات من أصحاب حماد بن زيد، وإنما هو من حديث إسماعيل ابن أمية الذارع الكذاب الذى يذرَع ويفصل، ثم الراوى له عنه عبد الباقى بن قانع، وقد ضعفه البرقانىُّ وغيرُه، وكان قد اختُلِطَ فى آخر عمره، وقال الدارقطنى: يخطىء كثيراً، ومثلُ هذا إذا تفرد بحديث لم يكن حديثُه حجةً.
وأما إفتاء عثمانَ بن عفان، وزيدِ بن ثابت رضى الله عنهما بالوقوع، فلو صحَّ ذلك ولا يصِحُّ أبداً، فإن أثر عثمان، فيه كذَّاب عن مجهول لا يعرف عينه ولا حاله، فإنه من رواية ابن سمعان، عن رجل، وأثر زيد: فيه مجهول عن مجهول: قيس بن سعد، عن رجل سماه عن زيد، فياللَّهِ العجب، أين هاتانِ الروايتان مِن رواية عبد الوهَّاب بن عبد المجيد الثقفى، عن عُبيد الله حافظ الأمة، عن نافع، عن ابنِ عمر أنه قال: لا يُعْتَدُّ بهَا. فلو كان هذا الأثرُ من قبلكم، لصُلتم به وجُلتم.
وأما قولكم: إن تحريمه لا يمنع ترتُّب أثره عليه، كالظهار، فيقال أولاً: هذا قياسُ يدفعه ما ذكرناه من النص، وسائر تلك الأدلة التى هى أرجح منه، ثم يقال ثانياً: هذا معارَض بمثله سواء معارضة القلب بأن يقال: تحريمُه يمنع ترتب أثره عليه كالنكاح، ويقال ثالثاً: ليس للظهار جهتانِ: جهة حل وجهة حرمة، بل كُلُّه حرام فإنه منكر من القول وزور، فلا يُمْكِنُ أن ينقسِمَ إلى حلال جائز، وحرام باطل، بل هو بمنزلة القذف مِن الأجنبى والردة، فإذا وجد لم يُوجد إلا مع مفسدته، فلا يتُصوَّر أن يقال: منه حلال صحيح، وحرام باطل، بخلاف النكاح والطلاق والبيع فالظهار نظيرُ الأفعال المحرمة التى إذا وقعت، قارنتها مفاسدُها فترتبت عليها أحكامُها، وإلحاقُ الطلاق بالنكاح، والبيع والإجارة والعقود المنقسمة إلى حلالٍ وحرامٍ، وصحيحٍ وباطلٍ، أولى.
وأما قولكم: إن النكاح عقدٌ يُملك به البُضع، والطلاقُ عقدٌ يخرج به، فنعم. مِن أين لكم برهان من اللَّهِ ورسولِه بالفرق بين العقدين فى اعتبار حُكم أحدهما، والإلزام به وتنفيذه، وإلغاء الآخر وإبطاله؟
وأما زوالُ ملكه عن العين بالإتلاف المحرَّم، فذلك ملك قَد زال حساً، ولم يبق له محل. وأما زوالُه بالإقرار الكاذب، فأبعد وأبعد، فإنَّا صدقناه ظاهراً فى إقراره وألزمنا مُلْكَه بالإقرار المصدَّق فيه وإن كان كاذباً.
وأما زوال الإيمان بالكلامِ الذى هو كفر، فقد تقدم جوابُه، وأنه ليس فى الكفر حلال وحرام.
وأما طلاقُ الهازِلِ، فإنما وقع، لأنه صادف محلاً، وهو طهر لم يُجامع فيه فنفذ وكونُه هزل به إرادة منه أو لا يترتب أثرُه عليه، وذلك ليس إليه، بل إلى الشارع، فهو قد أتى بالسبب التام، وأراد ألا يكونَ سببه، فلم ينفعْه ذلك، بخلاف من طلَّق فى غير زمن الطلاق، فإنه لم يأت بالسَّببِ الَّذى نصَبه اللَّهُ سبحانه مفضياً إلى وقوع الطلاق، وإنما أتي بسبب مِن عنده، وجعله هو مفضياً إلى حكمه، وذلك ليس إليه.
وأما قولُكم: إن النكاح نِعمة، فلا يكون سببُه إلا طاعةً بخلاف الطلاق، فإنه من باب إزالة النعم، فيجوزُ أن يكونَ سبَبَهُ معصيةً، فيقال: قد يكون الطلاق من أكبر النعم التى يفك بها المطلق الغُل من عنقه، والقيد من رِجله، فليس كُلُّ طلاقٍ نِقمة، بل مِن تمام نعمة اللَّهِ على عباده أن مكَّنهم مِن المفارقة بالطلاق إذا أراد أحدُهم استبدالَ زوج مكانَ زوج، والتخلُّصَ ممن لا يُحبها ولا يُلائمها، فلم يُر للمتحابَّيْنِ مثلُ النكاح، ولا للمتباغضينِ مثلُ الطلاق، ثم كيف يكون نِقمةُ واللَّهُ تعالى يقول:{لاَ جُنَاحَ عَلَيْكُم إنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ} [البقرة: 236]، ويقول: {يَأَيُّها النَّبىُّ إذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلُّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1]؟.
وأما قولُكم: إن الفروجَ يُحتاط لها، فنعم، وهكذا قلنا سواء، فإنا احتطنا، وأبقينا الزوجينِ على يقينِ النكاح حتى يأتى ما يُزيلُه بيقين فإذا أخطأنا، فخطؤُنا فى جهة واحدة، وإن أصبنا، فصوابُنا فى جهتين، جهةِ الزوج الأولِ، وجهةِ الثانى، وأنتم ترتكبُون أمرينِ: تحريمَ الفرج على من كان حلالاً له بيقين، وإحلالَه لِغيره. فإن كان خطأ، فهو خطأ مِن جهتين، فتبيَّن أنَّا أولى بالاحتياط منكم، وقد قال الإمامُ أحمد فى رواية أبى طالب: فى طلاق السكران نظير هذا الاحتياط سواء، فقال: الذى لا يأمُرُ بالطلاق: إنما أتى خصلةً واحدةً، والَّذى يأمر بالطلاق أتى خصلتينِ حرَّمها عليه، وأحلَّها لِغيره، فهذا خيرٌ مِن هذا.
وأما قولُكم: إن النِّكاحَ يدخل فيه بالعزيمة والاحتياط، ويُخرج منه بأدنى شىء قلنا: ولكن لا يُخرج منه إلا بما نصبَه الله سبباً يُخرج به منه، وأذن فيه: وأما ما ينصِبُه المؤمِنُ عنده، ويجعله هو سبباً للخروج منه، فكلاَّ. فهذا منتهى أقدام الطائفتين فى هذه المسألة الضيقةِ المعتركِ، الوعرةِ المسلك التى يتجاذب أَعِنَّةَ أدلتها الفرسانُ، وتتضاءلُ لدى صولتها شجاعةُ الشجعانِ، وإنما نبهنا على مأخذِها وأدلَّتِها ليعلم الغِرُّ الذى بِضاعتُه مِن العلم مزجاة، أن هناك شيئاً آخر وراءَ ما عنده، وأنه إذا كان ممن قَصُرَ فى العلم باعُه، فضعف خلف الدليل، وتقاصَرَ عن جنى ثماره ذِراعُه، فَلْيَعْذُرْ مَنْ شمَّرَ عن ساق عَزْمِه، وحامَ حولَ آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحكيمِها، والتحاكم إليها بكُلِّ همة، وإن كانَ غيرَ عاذر لمنازعه فى قصورِه ورغبته عن هذا الشأن البعيد، فليعذِرْ مُنازِعَه فى رغبته عما ارتضاه لنفسه مِن محض التقليد، ولينظر مع نفسه أيُّهما هو المعذورُ، وأىُّ السعيين أحقُّ بأن يكون هو السعى المشكور، واللَّهُ المستعان وعليه التُّكلان، وهو الموفِّقُ للصواب، الفاتِحُ لمن أمَّ بابَه طالباً لمرضاته من الخير كلَّ باب.