فصل في حكمه صلى الله عليه وسلم فيمن طلق ثلاثاً بكلمة واحدة 1
 
قد تقدم حديثُ محمود بن لبيد رضى الله عنه: أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أُخْبرَ عن رجل طلَّق امرأته ثلاثَ تطليقات جميعاً، فقام مُغضبَاً، ثم قال: ((أَيُلْعَبُ بِكِتَابِ اللَّهِ وأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ؟!))، وإسناده على شرط مسلم، فإن ابن وهب قد رواه عن مخرمة بن بُكير بن الأشج، عن أبيه قال: سمعت محمود بن لبيد فذكره، ومخرمة ثقة بلا شك، وقد احتج مسلم فى ((صحيحه)) بحديثه عن أبيه.
والذين أعلوه قالوا: لم يسمع منه، وإنما هو كتابٌ. قال أبُو طالب: سألت أحمد بن حنبل عن مخرمة بنِ بُكير؟ فقال: هو ثقة، ولم يسمع من أبيه، إنما هو كتابُ، فنظر فيه، كُلُّ شىء يقول: بلغنى عن سُليمان بن يسار، فهو مِن كتاب مخرمة. وقال أبو بكر بن أبى خيثمة: سمعتُ يحيى بنَ معين يقول: مخرمةُ بن بُكير وقع إليه كتابُ أبيه، ولم يسمعه. وقال فى رواية عباس الدُّورى: هو ضعيفٌ، وحديثُه عن أبيه كتاب، ولم يسمعه منه، وقال أبو داود: لم يسمع من أبيه إلا حديثاً واحداً، حديثَ الوتر، وقال سعيد بن أبى مريم عن خاله موسى بن سلمة: أتيتُ مخرمة فقلت: حدثك أبُوك؟ قال: لم أُدْرِكْ أبى، ولكن هذه كتبه.
والجوابُ عن هذا من وجهين:
أحدهما: أن كِتابَ أبيه كان عنده محفوظاً مضبوطاً، فلا فرقَ فى قيامِ الحجة بالحديثِ بينَ ما حدَّثه به، أو رآه فى كتابه، بل الأخذُ عن النسخة أحوطُ إذا تيقَّن الراوى أنها نسخة الشيخ بعينها، وهذه طريقةُ الصحابة والسلف، وقد كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يبعث كتبه إلى الملوك، وتقوم عليهم بها الحجة، وكتب كتبه إلى عُماله فى بلاد الإسلام، فعلموا بها، واحتجوا بها، ودفع الصديق كتابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الزكاة إلى أنسِ بن مالك، فحمله، وعَمِلَتْ به الأمةُ، وكذلك كتابُه إلى عمرو بن حزم فى الصدقات الذى كان عند آل عمرو، ولم يزل السلفُ والخلفُ يحتجُّون بكتابِ بعضهم إلى بعض، ويقول المكتوبُ إليه: كتب إلى فلان أن فلاناً أخبره، ولو بطل الاحتجاجُ بالكُتُب، لم يبق بأيدى الأمة إلا أيسرُ اليسير، فإن الاعتماد إنما هو على النَّسْخِ لا على الحفظ، والحفظ خَوَّان، والنسخة لا تخون، ولا يحفظ فى زمن من الأزمان المتقدِّمة أن أحداً مِن أهل العِلْمِ رَدَّ الاحتجاج بالكتاب، وقال: لم يُشافهنى به الكاتبُ، فلا أقبلُه، بل كُلُّهم مجمعون على قبول الكتابِ والعمل به إذا صح عنده أنه كتابُه.
الجواب الثانى: أن قول من قال: لم يسمع من أبيه، مُعارَض بقول من قال: سمع منه، ومعه زيادةُ علم وإثبات، قال عبد الرحمن بن أبى حاتم: سئل أبى عن مخرمة بن بُكير؟ فقال: صالحُ الحديث. قال: وقال ابنُ أبى أويس: وجدت فى ظهر كتاب مالك: سألت مخرمة عما يُحدِّث به عن أبيه، سمعها مِن أبيه؟ فحلف لى: ورَبِّ هذه البَنِيَّةِ يعنى المسجدَ سمعتُ من أبى. وقال علىُ بنُ المدينى: سمعتُ معن بن عيسى يقول: مخرمةُ سمع من أبيه، وعرض عليه ربيعة أشياء مِن رأى سليمان ابن يسار، وقال على: ولا أظن مخرمَة سمع مِن أبيه كتابَ سليمان، لعلَّه سمع منه الشىءَ اليسير، ولم أجد أحداً بالمدينة يخبرنى عن مخرمة بن بكير أنه كان يقول فى شىء من حديثه: سمعت أبى، ومخرمة ثقة. انتهى. ويكفى أن مالكاً أخذ كِتابه، فنظر فيه، واحتجَّ به فى ((موطئه))، وكان يقول: حدثنى مخرمة، وكان رجلاً صالحاً. وقال أبو حاتم: سألت إسماعيل بن أبى أويس، قلت: هذا الذى يقول مالك بن أنس: حدثنى الثقة، من هو؟ قال: مخرمة بن بكير. وقيل لأحمد بن صالح المصرى: كان مخرمة من ثقات الرجال؟ قال: نعم، وقال ابنُ عدى عن ابن وهب ومعن ابن عيسى عن مخرمة: أحاديثُ حِسانٌ مستقيمة وأرجو أنه لا بأس به.
وفى ((صحيح مسلم)) قولُ ابنِ عمر للمطلِّق ثلاثاً: ((حَرُمَتْ عَلَيْكَ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَكَ، وعَصَيْتَ رَبَّكَ فِيمَا أَمَرَكَ بِهِ مِنْ طَلاقِ امْرَأَتِكَ)). وهذا تفسيرٌ منه للطلاق المأمور به، وتفسيرُ الصحابى حُجَّةٌ، وقال الحاكم: هو عندنا مرفوع.
ومن تأمَّل القرآن حقَّ التأمل، تبيَّن له ذلك، وعرف أن الطلاقَ المشروعَ بعدَ الدخول هو الطلاقُ الذى يملكُ به الرجعة، ولم يشرعِ الله سبحانه إيقاعَ الثلاث جملةٌ واحدة البتة؛ قال تعالى: {الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229] ، ولا تعقِلُ العرب فى لغتها وقوعَ المرتين إلا متعاقبتين، كما قال النبى صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ سَبَّحَ اللَّهَ دُبَرَ كُلِّ صَلاَةٍ ثلاثاً وَثَلاَثِينَ، وحمِده ثلاثاً وثلاثين، وكَبَّرهُ أَربْعَاً وثلاَثِينَ))، ونظائره فإنه لا يُعقل من ذلك إلا تسبيح وتكبيرٌ وتحميدُ متوالٍ يتلو بعضهُ بعضاً، فلو قال: سبحان الله ثلاثاً وثلاثين، والحمد للَّه ثلاثاً وثلاثين، واللَّه أكبر أربعاً وثلاثين بهذا اللفظ، لكانَ ثلاثَ مرات فقط، وأصرحُ من هذا قوله سبحانه: {والَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ ولم يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إلاَّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَاداتٍ باللَّهِ} [النور: 6] فلو قال: أشهدُ باللَّهِ أربع شهادات إنى لمن الصادقين، كانت مرَّة، وكذلك قولُه: {وَيَدْرُؤا عَنْهَا العَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمنَ الكَاذِبِينَ} [النور: 8] فلو قالت: أشهدُ باللَّهِ أربَع شهادات إنه لمن الكاذبين، كانت واحدة، وأصرحُ مِن ذلك قولُه تعالى: {سَنُعَذِّبُهم مَرَّتَيْنِ} [التوبة: 101] فهذا مرة بعد مرة، ولا ينتقض هذا بقوله تعالى: {نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ} [الأحزاب: 31]، وقولهِ صلى الله عليه وسلم: ((ثَلاَثَةٌ يُؤْتَونَ أَجْرَهُم مَرَّتَيْنِ)). فإن المرتين هنا هما الضِّعفان، وهما المِثلان، وهما مِثلان فى القدر، كقوله تعالى: {يُضَاعَفْ لَهَا العَذَاب ضِعفَين} [الأحزاب: 30]. أي: ضعفي ما يعذب به غيرها ، وضعفي ما كانت تؤتي ، ومن هذا قول أنس: انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين ، أي: شقتين وفرقتين ، كما قال في اللفظ الآخر: انشق القمر فلقتين. وهذا أمر معلوم قطعاً أنه إنما انشق القمر مرة واحدة ، والفرق معلوم بين ما يكون مرتين في الزمان ، وبين ما يكون مثلين وجزأين ومرتين في المضاعفة. فالثاني: يتصور فيه اجتماع المرتين في آن واحد ، والأول لا يتصور فيه ذلك.
ومما يدل على أن الله لم يشرع الثلاث جملة ، أنه قال تعالى: {وَالْمُطَلّقَاتُ يَتَرَبّصْنَ بِأَنْفُسِهِنّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ} [البقرة: 228] إلى أن قال: {وَبُعُولَتُهُنّ أَحَقّ بِرَدّهِنّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوَاْ إِصْلاَحاً} [البقرة: 228] ، فهذا يدل على أن كل طلاق بعد الدخول ، فالمطلق أحق فيه بالرجعة سوى الثالثة المذكورة بعد هذا ، وكذلك قوله تعالى: {يَأَيُّها النَّبىُّ إذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلُّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق:1] إلى قوله: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنّ فَأَمْسِكُوهُنّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 2]، فهذا هو الطلاق المشروع ، وقد ذكر الله سبحانه وتعالى أقسام الطلاق كلها في القرآن ، وذكر أحكامها ، فذكر الطلاق قبل الدخول ، وأنه لا عدة فيه ، وذكر الطلقة الثالثة ، وأنها تحرم الزوجة على المطلق حتى تنكح زوجاً غيره ، وذكر طلاق الفداء الذي هو الخلع ، وسماه فدية ، ولم يحسبه من الثلاث كما تقدم ، وذكر الطلاق الرجعي الذي المُطلق أحق فيه بالرجعة ، وهو ما عدا هذه الأقسام الثلاثة.
وبهذا احتج أحمد والشافعي وغيرهما على أنه ليس في الشرع طلقة واحدة بعد الدخول بغير عوض بائنة ، وأنه إذا قال لها: أنت طالق طلقة بائنة كانت رجعية ، ويلغو وصفُها بالبينونة ، وأنه لا ملك إبانتها إلا بعوض. وأما أبو حنيفة ، فقال: تبين بذلك ، لأن الرجعة حق له ، وقد أسقطها ، والجمهور يقولون: وإن كانت الرجعة حقاً لكن نفقة الرجعية وكسوتها حق عليه ، لا يملك إسقاطه إلا باختيارها ، وبذلها العوض ، أو سؤالها أن تفتدي نفسها منه بغير عوض في أحد القولين ، وهو جواز الخلع بغير عوض.
وأما إسقاط حقها من الكسوة والنفقة بغير سؤالها ولا بذلها العوض ، فخلاف النص والقياس.
قالوا: وأيضاً فالله سبحانه شرع الطلاق على أكمل الوجوه وأنفعها للرجل والمرأة ، فإنهم كانوا يطلقون في الجاهلية بغير عدد ، فيطلق أحدهم المرأة كلما شاء ، ويراجعها ، وهذا وإن كان فيه رفق بالرجل ، ففيه إضرار بالمرأة ، فنسخ سبحانه ذلك بثلاث ، وقصر الزوج عليها ، وجعله أحق بالرجعة ما لم تنقض عدتها ، فإذا استوفى العدد الذي ملكه ، حرمت عليه ، فكان في هذا رفق بالرجل إذ لم تحرم عليه بأول طلقة ، وبالمرأة حيث لم يجعل إليه أكثر من ثلاث ، فهذا شرعه وحكمته ، وحدوده التي حدها لعباده ، فلو حرمت عليه بأول طلقة يطلقها كان خلاف شرعه وحكمته ، وهو لم يملك إيقاع الثلاث جملة ، بل إنما ملك واحدة ، فالزائد عليها غير مأذون له فيه.
قالوا: وهذا كما أنه لم يملك إبانتها بطلقة واحدة ، إذ هو خلاف ما شرعه ، لم يملك إبانتها بثلاث مجموعة ، إذ هو خلاف شرعه.
ونكتة المسألة أن الله لم يجعل للأمة طلاقاً بائناً قط إلا في موضعين. أحدهما: طلاق غير المدخول بها. والثاني: الطلقة الثالثة ، وما عداه من الطلاق ، فقد جعل للزوج فيه الرجعة ، هذا مقتضى الكتاب كما تقدم تقريره ، وهذا قول الجمهور ، منهم: الإمام أحمد ، والشافعي ، وأهل الظاهر ، قالوا: لا يملك إبانتها بدون الثلاث إلا في الخلع.
ولأصحاب مالك ثلاثة أقوال فيما إذا قال: أنت طالق طلقة لا رجعة فيها. أحدها: أنها ثلاث ، قاله ابن الماجشون لأنه قطع حقه من الرجعة ، وهي لا تنقطع إلا بثلاث ، فجاءت الثلاث ضرورة. الثاني: أنها واحدة بائنة ، كما قال ، وهذا قول ابن القاسم ، لأنه يملك إبانتها بطلقة بعوض ، فملكها بدونه ، والخلع عنده طلاق. الثالث: أنها واحدة رجعية ، وهذا قول ابن وهب ، وهو الذي يقتضيه الكتاب والسنة والقياس ، وعليه الأكثرون.