فصل في حكمه صلى الله عليه وسلم فيمن طلق ثلاثاً بكلمة واحدة 4
 
حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فى تخيير أزواجه بين المُقام معه وبين مفارقتهن له
ثبت فى ((الصحيحين)) عن عائشة رضى الله عنها قالت: لما أُمِرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بتخيير أزواجه، بدأ بى، فقال: ((إنِّى ذَاكِرٌ لَكِ أَمْراً فَلاَ عَلَيْكِ أَلاَّ تَعْجَلى حَتَّى تَسْتأْمِرى أَبَوَيْكِ)). قالت: وقد علم أن أبوى لم يكونا ليأمرانى بفراقه، ثم قرأ:{يأَيُّهَا النَّبىُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الحَيَاةَ الدُّنْيا وزينَتَها فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً * وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الله وَرَسُولَهُ والدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ الله أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً} [الأحزاب: 28-29] فقلتُ: فى هذا استأمر أبوى؟ فإنى أريدُ الله ورسولَه والدارَ الآخرةَ. قالت عائشة: ثم فَعَل أزواجُ النبى صلى الله عليه وسلم مِثْلَ ما فعلتُ، فلم يكن ذلك طلاقاً.
قال ربيعةُ وابنُ شهاب: فاختارت واحدةٌ منهن نفسَها، فذهبت وكانت ألبتة. قال ابن شهاب: وكانت بدوية. قال عمرو بن شعيب: وهى ابنة الضحاك العامرية رجعت إلى أهلها، وقال ابنُ حبيب: قد كان دخل بها. انتهى.
وقيل: لم يدخل بها، وكانت تلتقِطُ بعد ذلك البعر، وتقول: أنا الشقيَّةُ.
واختلف الناسُ فى هذا التخيير، فى موضعين. أحدهما: فى أى شىء كان؟ والثانى: فى حكمه، فأما الأول: فالذى عليه الجمهور أنه كان بين المقام معه والفراق، وذكر عبد الرزاق فى ((مصنفه))، عن الحسن، أن الله تعالى إنما خيَّرَهُنَّ بين الدنيا والآخرة، ولم يُخيِّرْهُنَّ فى الطلاق، وسياقُ القرآن، وقولُ عائشة رضى الله عنها يَرُدُّ قوله، ولا ريب أنه سبحانه خيَّرهن بينَ الله ورسوله والدار الآخرة، وبينَ الحياة الدنيا وزينتها، وجعل مَوجِبَ اختيارهن الله ورسولَه والدارَ الآخرة المقامَ مع رسوله، وموجبَ اختيارهن الدنيا وزينتها أن يُمتِّعَهنَّ ويُسرِّحَهن سَراحاً جميلاً، وهو الطلاقُ بلا شك ولا نزاع.
وأما اختلافُهم فى حكمه، ففى موضعين. أحدهما: فى حكم اختيار الزوج، والثانى: فى حكم اختيار النفس، فأما الأول: فالذى عليه معظمُ أصحاب النبى ونساؤه كُلُّهُنَّ ومعظم الأمة أن من اختارت زوجها لم تطلق، ولا يكون التخييرُ بمجرده طلاقاً، صحَّ ذلك عن عمر، وابن مسعود، وابن عباس، وعائشة. قالت عائشة: خيَّرنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فاخترناه، فلم نعدَّه طلاقاً، وعن أمّ سلمة، وقريبة أختها، وعبد الرحمن بن أبى بكر.
وصح عن على، وزيد بن ثابت، وجماعة من الصحابة: أنها إن اختارت زوجَها، فهى طلقة رجعية، وهو قولُ الحسن، ورواية عن أحمد رواها عنه إسحاق بن منصور، قال: إن اختارت زوجَها، فواحدة يملِكُ الرجعة، وإن اختارت نفسها، فثلاثٌ، قال أبو بكر: انفرد بهذا إسحاق بن منصورِ، والعملُ على ما رواه الجماعة. قال صاحب ((المغنى)): ووجه هذه الرواية أن التخييرَ كناية نوى بها الطلاق، فوقع بمجرَّدها كسائر كناياته، وهذا هو الذى صرَّحت به عائشة رضى الله عنها، والحق معها بإنكاره وردِّه، فإن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم لما اختاره أزواجُه لم يَقُل: وقع بكن طلقة، ولم يُراجعهن، وهى أعلم الأمة بشزن التخيير، وقد صح عن عائشة رضى الله عنها أنها قالت: لم يكن ذلك طلاقاً، وفى لفظ: ((لم نعده طلاقاً)). وفى لفظ: ((خيَّرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، أفكان طلاقا ؟ً))
والذى لحظه من قال: إنها طلقة رجعية أن التخيير تمليك، ولا تملك المرأةُ نفسها إلا وقد طلقت، فالتمليكُ مستلزم لوقوع الطلاق، وهذا مبنى على مقدمتين. إحداهما: أن التخييرَ تمليك. والثانية: أن التمليك يستلزِمُ وقوعَ الطلاق، وكِلا المقدمتين ممنوعة، فليس التخييرُ بتمليك، ولو كان تمليكاً لم يستلزم وقوعَ الطلاق قبل إيقاع من ملكه، فإن غاية أمره أن تملِكَه الزوجةُ كما كان الزوج يملِكُه، فلا يقع بدون إيقاع من ملكه، ولو صحَّ ما ذكروه، لكان بائناً، لأن الرجعية لا تملِكُ نفسها.
وقد اختلف الفقهاءُ فى التخيير: هل هو تمليك أو توكيلٌ، أو بعضُه تمليك، وبعضُه توكيل، أو هو تطليق منجَّز، أو لغوٌ لا أثر له ألبتة؟ على مذاهب خمسة. التفريقُ هو مذهب أحمد ومالك. قال أبو الخطاب فى ((رؤوس المسائل)): هو تمليكٌ يقفُ على القبول، وقال صاحب ((المغنى)) فيه: إذا قال: أمرُكِ بيدكِ، أو اختارى، فقالت: قبلتُ، لم يقع شىء، لأن ((أمرك بيدك)) توكيل، فقولُها فى جوابه: قبلتُ ينصرف إلى قبول الوكالة، فلم يقع شىء، كما لو قال لأجنبية: أمرُ امرأتى بيدكِ، فقالت: قبلت، وقوله: اختارى: فى معناه، وكذلك إن قالت: أخذت أمرى، نص عليهما أحمد فى رواية إبراهيم بن هانئ إذا قال لامرأته: أمُركِ بيدكِ، فقالت: قبلت، ليس بشىء حتى يتبيَّن، وقال: إذا قالت: أخذتُ أمرى، ليس بشىء، قال: وإذا قال لامرأته: اختارى، فقالت: قبلتُ نفسى، أو اخترت نفسى، كان أبين. انتهى. وفرق مالك بين ((اختيارى))، وبين ((أمرُكِ بيدكِ))، فجعل ((أمرُكِ بيدكِ)) تمليكاً، و ((اختيارى)) تخييراً لا تمليكاً. قال أصحابُه: وهو توكيلٌ.
وللشافعى قولان. أحدهما: أنه تمليك، وهو الصحيح عند أصحابه، والثانى: أنه توكيل وهو القديم، وقالت الحنفية: تمليك. وقال الحسنُ وجماعةٌ من الصحابة: هو تطليق تقع به واحدة منجَّزة، وله رجعتُها، هى رواية ابنِ منصور عن أحمد.
وقال أهلُ الظاهر وجماعةٌ من الصحابة: لا يقع به طلاق، سواءٌ اختارت نفسَها، أو اختارت زوجها، ولا أثر للتخيير فى وقوع الطلاق.
ونحن نذكر مآخذ هذه الأقوال على وجه الإشارة إليها.
قال أصحابُ التمليك: لما كان البُضع يعود إليها بعد ما كان للزوج، كان هذا حقيقةَ التمليك.
قالوا: وأيضاً فالتوكيل يستلزِمُ أهليةَ الوكيل لمباشرة ما وُكِّلَ فيه، والمرأةُ ليست بأهل لإيقاع الطلاق، ولهذا لو وكَّل امرأةً فى طلاق زوجته، لم يصحَّ فى أحد القولين، لأنها لا تُباشر الطلاق، والذين صححوه قالوا: كما يصح أن يُوكِّلَ رجلاً فى طلاق امرأته، يَصِحّ أن يوكِّل امرأة فى طلاقها.
قالُوا: وأيضاً فالتوكيل لا يُعقل معناه هاهنا، فإنَّ الوكيلَ هو الذى يتصرف لموكله لا لنفسه، والمرأة ها هنا إنما تتصرَّف لنفسها ولحظها، وهذا يُنافى تصرفَ الوكيل.
قال أصحابُ التوكيل، واللفظُ لصاحب ((المغنى)): وقولهم: إنه توكيل لا يَصِحُّ، فإن الطلاقَ لا يصح تمليكه، ولا ينتقِلُ عن الزواج، وإنما ينوبُ فيه غيرُه عنه، فإذا استناب غيره فيه، كان توكيلاً لا غير.
قالوا: ولو كان تمليكاً لكان مقتضاه انتقالَ الملك إليها فى بُضعها، وهو محال، فإنه لم يخرُج عنها، ولهذا لو وُطئت بشبهة كان المهر لها لا للزوج، ولو مَلَكَ البُضع، لَمَلَكَ عِوضه، كمن ملك منفعة عينٍ كان عِوَضُ تلك المنفعة له.
قالوا: وأيضاً فلو كان تمليكاً، لكانت المرأةُ مالكة للطلاق، وحينئذ يجب أن لا يبقى الزوجُ مالكاً لاستحالة كون الشىء الواحد بجميع أجزائه ملكاً لمالكين فى زمن واحد، والزوجُ مالك للطلاق بعد التخيير، فلا تكونُ هى مالكة له، بخلاف ما إذا قلنا: هو توكيل واستتابة، كان الزوجُ مالكاً، وهى نائبة ووكيلة عنه.
قالوا: وأيضاً فلو قال لها: طلِّقى نفسَك، ثم حلف أن لا يُطلِّق، فطلقت نفسَها، حَنِثَ، فدل على أنها نائبة عنه، وأنه هو المطلِّق.
قالوا: وأيضاً فقولُكم: إنه تمليك، إما إن تُريدوا به أنه ملَّكها نفسَها، أو أنه ملَّكها أن تُّطلِّق، فإن أردتم الأول، لزمكم أن يقع الطلاقُ بمجرد قولها: قبلت، لأنه أتى بما يقتضى خروجَ بُضعها عن ملكه، واتصل به القبولُ، وإن أردتم الثانى، فهو معنى التوكيل. وإن غُيِّرتِ العبارة.
قال المفرِّقون بين بعض صوره وبعض، وهُمْ أصحابُ مالك : إذا قال لها: أمرُكِ بيدكِ، أو جعلت أمرَك إليك، أو ملَّكتُك أمرك، فذاك تمليك. وإذا قال: اختارى فهو تخيير، قالُوا: والفرقُ بينهما حقيقةً وحكماً. أما الحقيقةُ، فلأن ((اختارى)) لم يتضمن أكثرَ من تخييرها، لم يُملكها نفسها، وإنما خيَّرها بين أمرين، بخلاف قوله: أمرُك بيدك، فإنه لا يكون بيدها إلا وهى مالكته، وأما الحكم، فلأنه إذا قال لها: أمرُك بيدك، وقال: أردتُ به واحدة، فالقولُ قولُه مع يمينه، وإذا قال: اختارى، فطلقت نفسَها ثلاثاً، وقعت، ولو قال: أردتُ واحدة إلا أن تكونَ غيرَ مدخول بها، فالقول قوله فى إرادته الواحدة. قالوا: لأن التخيير يقتضى أن لها أن تختارَ نفسها، ولا يحصُل لها ذلك إلا بالبينونة، فإن كانت مدخولاً بها لم تَبِنْ إلا بالثلاث، وإن لم تكن مدخولاً بها، بانت بالواحدة، وهذا بخلافِ: أمرُك بيدك، فإنه لا يقتضى تخييرها بين نفسها وبين زوجها، بل تمليكها أمرها، وهو أعمُّ مِن تمليكها الإبانة بثلاث أو بواحدة تنقضى بها عدتها، فإن أراد بها أحدَ محتمليه، قُبِلَ قولُه، وهذا بعينه يَرِد عليهم فى ((اختيارى))، فإنه أعم من أن تختار البينونة بثلاث أو بواحدة تنقضى بها عدتها، بل: ((أمرك بيدك)) أصرحُ فى تمليك الثلاث من ((اختارى))، لأنه مضاف ومضاف إليه، فيعم جميعَ أمرها. بخلاف ((اختارى)) فإنه مطلق لا عموم له، فمن أين يُستفاد منه الثلاث؟ وهذا منصوصُ الإمام أحمد، فإنه قال فى اختارى: إنه لا تمِلكُ به المرأة أكثرَ مِن طلقة واحدة إلا بنيةِ الزوج، ونص فى ((أمرك بيدك، وطلاقك بيدك ووكلتك فى الطلاق)): على أنها تملك به الثلاث. وعنه رواية أخرى: أنها لا تمِلكُها إلا بنيته.
وأما من جعله تطليقاً منجَّزاً، فقد تقدَّم وجهُ قوله وضعفه.
وأما من جعله لغواً، فلهم مأخذان:
أحدهما: أن الطلاقَ لم يجعله الله بيد النساء، إنما جعله بيد الرِّجال، ولا يتغيَّرُ شرع الله باختيار العبد، فليس له أن يختار نقلَ الطلاق إلى من لم يجعل الله إليه الطلاق البتة.
قال أبو عُبيد القاسم بن سلام: حدثنا أبو بكر بنُ عياش، حدثنا حبيبُ ابن أبى ثابت، أن رجلاً قال لامرأة له: إن أدخلتِ هذا العِدْلَ إلى هذا البيت، فأمرُ صاحبتك بيدك، فأدخلتْه، ثم قالت: هى طالق، فَرُفِعَ ذلك إلى عمر بن الخطاب رضى الله عنه، فأبانها منه، فمرُّوا بعبد الله بن مسعود، فأخبروه، فذهب بهم إلى عمر، فقال: يا أميرَ المؤمنين: إن الله تبارك وتعالى جعل الرِّجال قوامِينَ على النساء، ولم يجعل النساء قواماتٍ على الرجال، فقال له عمر: فما ترى؟ قال: أراها امرأته. قال: وأنا أرى ذلك، فجعلها واحدة.
قلت: يحتمل أنه جعلها واحدة بقول الزوج: فأمر صاحبتك بيدك، ويكون كنايةً فى الطلاق، ويحتمل أنه جعلها واحدة بقول ضرتها: هى طالق، ولم يجعل للضرة إبانتها، لئلا تكون هى القوامة على الزوج، فليس فى هذا دليل لما ذهبت إليه هذه الفرقة، بل هو حجة عليها.
وقال أبو عبيد: حدثنا عبد الغفار بن داود، عن ابنِ لهيعة، عن يزيد ابن أبى حبيب، أن رُمَيْثَةَ الفارسية كانت تحتَ محمد بن عبد الرحمن بن أبى بكر، فملكها أمرها، فقالت: أنتَ طالق ثلاث مرات، فقال عثمان بن عفان: أخطأتَ، لا طلاق لها، لأن المرأة لا تُطَلِّقُ.
وهذا أيضاً لا يدل لهذه الفرقة، لأنه إنما لم يوقع الطلاق لأنها أضافته إلى غير محله وهو الزوج، وهو لم يقل: أنا منك طالق، وهذا نظيرُ ما رواه عبد الرزاق، حدثنا ابن جريج، أخبرنى أبو الزبير، أن مجاهداً أخبره، أن رجلاً جاء إلى ابن عباس رضى الله عنهما، فقال: ملَّكتُ امرأتى أمرها، فطلَّقتْنى ثلاثاً، فقال ابنُ عباس: ((خَطَّأَ اللَّهُ فوءها، إنما الطلاق لك عليها، وليس لها عليك)).
قال الأثرم: سألتُ أبا عبد الله، عن الرجل يقول لامرأته: أمرُكِ بيدك؟ فقال: قال عثمانُ، وعلىُّ رضى الله عنهما: القضاء ما قضت، قلت: فإن قالت: قد طلقتُ نفسى ثلاثاً قال: القضاءُ ما قضت. قلت: فإن قالت: طلقتُك ثلاثاً، قال: المرأة لا تطلِّق، واحتج بحديث ابن عباس رضى الله عنهما: ((خَطَّأَ الله نوءها)). ورواه عن وكيع، عن شعبة، عن الحكم، عن ابن عباس رضى الله عنه، فى رجل جعل أمر امرأتِه فى يدها، فقالت: قد طلقتُك ثلاثاً، قال ابنُ عباس: خَطَّأَ الله نوءها، أفلا طلقت نفسها. قال أحمد: صحَّف أبو مطر، فقال: ((خطأ الله فوها)) ولكن روى عبد الرزاق، عن ابن جريج، قال: سألتُ عبد الله بن طاووس كيف كان أبوك يقول فى رجل ملَّك امرأتَه أمرَها، أتمِلكُ أن تُطلِّق نفسها، أم لا؟ قال: كان يقولُ: ليس إلى النساء طلاقٌ، فقلت له: فكيف كان أبوك يقول فى رجل ملَّك رجلاً أمرَ امرأتِه، أَيَمْلِكُ الرجلُ أن يُطلِّقَها؟ قال: لا. فهذا صريح من مذهب طاووس أنه لا يُطلق إلا الزوج، وأن تمليكَ الزوجة أمرها لغو، وكذلك توكيلُه غيره فى الطلاق. قال أبو محمد ابن حزم: وهذا قول سليمان، وجميع أصحابنا.
الحجة الثانية لهؤلاء: أن الله سبحانه إنما جعل أمرَ الطلاق إلى الزوج دونَ النساء، لأنهن ناقصاتُ عقل ودين، والغالبُ عليهن السفه، وتذهب بهن الشهوة والميل إلى الرجال كُلَّ مذهب، فلو جُعِلَ أمرُ الطلاق إليهن، لم يستقِمْ للرجال معهن أمر، وكان فى ذلك ضرر عظيم بأزواجهن، فاقتضت حِكمتُه ورحمتُه أَنه لم يجعل بأيديهن شيئاً مِن أمر الفراق، وجعله إلى الأزواج. فلو جاز للأزواج نقلُ ذلك إليهن، لناقض حكمةَ الله ورحمتَه، ونظره للأزواج. قالوا: والحديث إنما دَلَّ على التخيير فقط، فإن اخترن الله ورسولَه والدارَ الآخرَة كما وقع كُنَّ أزواجه بحالهن، وإن اخترنَ أنفُسَهُنَّ، متعهن، وطلقهن هو بنفسه، وهو السَّراحُ الجميل، لا أن اختيارَهن لأنفسهن يكونُ هو نفسَ الطلاق، وهذا فى غاية الظهور كما ترى.
قال هؤلاء: والآثارُ عن الصحابة فى ذلك مختلفة اختلافاً شديداً فصح عن عمر وابن مسعود، وزيد بن ثابت فى رجل جعل أمرَ امرأته بيدها فطلقت نفسها ثلاثاً، أنها طلقةٌ واحدة رجعية، وصح عن عثمان رضى الله عنه. أن القضاء ما قضت، ورواه سعيد بن منصور، عن ابن عمر، وغيره عن ابن الزبير. وصح وعن على، وزيد، وجماعة من الصحابة رضى الله عنهم: أنها إن اختارت نفسها، فواحدة بائنة، وإن اختارت زوجها فواحدة رجعية.
وصح عن بعض الصحابة: أنها اختارت نفسها، فثلاث بكل حال: وروى عن ابن مسعود فيمن جعل أمر امرأته بيد آخر فطلقها، فليس بشىء.
قال أبو محمد ابن حزم: وقد تقصَّينا مَن روينا عنه مِن الصحابة أنه يقع به الطلاقُ، فلم يكونوا بين من صحَّ عنه، ومن لم يَصِحَّ عنه إلا سبعة، ثم اختلفوا، وليس قولُ بعضهم أولى مِن قول بعض ولا أثر فى شىء منها، إلا ما رويناه من طريق النسائى، أخبرنا نصر بن على الجهضمى، حدثنا سليمانُ بن حرب، حدثنا حماد بن زيد، قال: قلت لأيوب السختيانى: هل علمتَ أحداً قال فى ((أمرك بيدك)): إنها ثلاثٌ غير الحسن؟ قال: لا، اللهم غُفراً إلا ما حدثنى به قتادة، عن كثير مولى ابن سمرة، عن أبى سلمة، عن أبى هريرة، عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: ثلاث. قال أيوب: فلقيت كثيراً مولى ابن سمرة، فسألتُه، فلم يعرفه، فرجعتُ إلى قتادة، فأخبرتُه، فقال: ننسى. قال أبو محمد: كثير مولى ابن سمرة مجهول، ولو كان مشهوراً بالثقة والحفظ، لما خالفنا هذا الخبرَ، وقد أوقفه بعضُ رواته على أبى هريرة. انتهى.
وقال المروذى: سألت أبا عبد الله، ما تقول فى امرأة خُيِّرت، فاختارت نفسَها؟ قال: قال فيها خمسةٌ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنها واحدة ولها الرجعة: عمر، وابن مسعود، وابن عمر، وعائشة. وذكر آخر، قال غير المروذى: هو زيد ابن ثابت.
قال أبو محمد، ومن خيَّر امرأته، فاختارت نفسَها، أو اختارت الطلاقَ، أو اختارت زوجَها، أو لم تختر شيئاً، فكل ذلك لا شىء، وكُلُّ ذلك سواء، ولا تطلق بذلك، ولا تحرُم عليه، ولا لشىءٍ مِن ذلك حكم، ولو كرَّر التخييرَ، وكررت هى اختيارَ نفسها، أو اختيارَ الطلاق ألف مرة، وكذلك إن ملَّكها نفسها، أو جعل أمرها بيدها. ولا فرق.
ولا حُجة فى أحد دونَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وإذ لم يأتِ فى القرآن، ولا عن رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أن قولَ الرجل لامرأته: أمرُك بيدك، أو قد مَلَّكتكِ أمركِ، أو اختارى يُوجب أن يكون طلاقاً، أو أن لها أن تطلِّق نفسها، أو تختارَ طلاقاً، فلا يجوزُ أن يُحَرَّمَ على الرجل فرجٌ أباحه اللَّهُ تعالى له ورسولُه صلى الله عليه وسلم بأقوالٍ لم يُوجبها الله، ولا رسولُه صلى الله عليه وسلم، وهذا فى غاية البيان. انتهى كلامه.
قالوا: واضطرابُ أقوال الموقعين، وتناقُضها، ومعارضةُ بعضها لبعض يدل على فسادِ أصلها، ولو كان الأصل صحيحاً لاطردت فروعُه، ولم تتناقض، ولم تختلف، ونحن نُشير إلى طرف من اختلافهم.
فاختلفوا: هل يقع الطلاقُ بمجرد التخيير، أو لا يقعُ حتى تختار نفسها؟ على قولين: تقدم حكايتُهما، ثم اختلف الذين لا يُوقعونه بمجردِ قوله: أمرك بيدك: هل يختص اختيارُها بالمجلس، أو يكون فى يدها ما لم يفسح، أو يطأ؟ على قولين.أحدهما، أنه يتقيَّد بالمجلس، وهذا قولُ أبى حنيفة، والشافعى، ومالك فى إحدى الروايتين عنه. الثانى: أنه فى يدها أبداً حتى يفسخَ أو يطأ، وهذا قولُ أحمد، وابن المنذر، وأبى ثور. والرواية الثانية عن مالك. ثم قال بعضُ أصحابه: وذلك ما لم تَطُلْ حتى يتبين أنها تركته، وذلك بأن يتعدَّى شهرين، ثم اختلفوا، هل عليها يمين: أنها تركت، أم لا؟ على قولين.
ثم اختلفوا إذا رجع الزوج فيما جعل إليها، فقال أحمد وإسحاق والأوزاعى، والشعبى، ومجاهد، وعطاء: له ذلك، ويبطلُ خيارها. وقال مالك، وأبو حنيفة والثورى، والزهرى: ليس له الرجوعُ، وللشافعية خلافٌ مبنى على أنه توكيل، فيمِلكُ الموكل الرجوع، أو تمليك، فلا يملِكُه، قال بعضُ أصحاب التمليك: ولا يمتِنعُ الرجوعُ. وإن قلنا إنه تمليك، لأنه لم يتصل به القبول، فجاز الرجوعُ فيه كالهبة والبيع.
واختلفوا: فيما يلزَم من اختيارها نفسها. فقال أحمد والشافعى واحدة رجعية وهو قولُ ابن عمر، وابن مسعود، وابن عباس، واختاره أبو عبيد، وإسحاق. وعن على: واحدة بائنة، وهو قول أبى حنيفة وعن زيد بن ثابت، ثلاث، وهو قول الليث، وقال مالك: إن كانت مدخولاً بها، فثلاث، وإن كانت غير مدخول بها، قُبِل منه دعوى الواحدة.
واختلفوا: هل يفتِقُر قوله: أمرك بيدك إلى نية أم لا؟ فقال أحمد والشافعى وأبو حنيفة: يفتقِرُ إلى نية، وقال مالك، لا يفتقِرُ إلى نية، واختلفوا: هل يفتقِرُ وقوعُ الطلاق إلى نية المرأة إذا قالت: اخترت نفسى، أو فسخت نِكاحَك؟ فقال أبو حنيفة: لا يفتقِرُ وقوع الطلاق إلى نيتها إذا نوى الزوج. وقال أحمد والشافعى: لابد من نيتها إذا اختارت بالكناية، ثم قال أصحابُ مالك: إن قالت: اخترتُ نفسى، أو قبلتُ نفسى، لزم الطلاقُ، ولو قالت: لم أُرده. وإن قالت. قبلت أمرى، سئلت عما أرادت؟ فإن أرادت الطلاق كان طلاقاً، وإن لم تُرِدْهُ لم يكن طلاقاً ثم قال مالك: إذا قال لها: أمُرك بيدك، وقال: قصدتُ طلقة واحدة، فالقولُ قوله مع يمينه، وإن لم تكن له نية، فله أن يُوقع ما شاء. وإذا قال: اختارى، وقال: أردت واحدة، فاختارت نفسها، طلقت ثلاثاً، ولا يقبل قوله.
ثم هاهنا فروعٌ كثيرة مضطربة غايةَ الاضطرابِ لا دليل عليها من كتابٍ ولا سنة ولا إجماع، والزوجة زوجته حتى يقومَ دليل على زوال عصمته عنها.
قالوا: ولم يجعل اللَّهُ إلى النساء شيئاً من النكاحِ، ولا من الطلاق، وإنما جعل ذلك إلى الرجل، وقد جعل اللَّهُ سبحانه الرجال قوَّامينَ على النساء، إن شاءوا أمسكوا، وإن شاءوا طلقوا، فلا يجوز للرجل أن يجعل المرأة قوَّامة عليه، إن شاءت أمسكت، وإن شاءت طلقت. قالوا: ولو أجمع أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم على شىء لم نتعد إجماعَهم، ولكن اختلفوا، فطلبنا الحُجة لأقوالهم مِن غيرها، فلم نجد الحجةَ تقومُ إلا على هذا القول. وإن كان من روى عنه قد روى عنه خلافه أيضاً، وقد أبطل من ادعى الإجماع فى ذلك، فالنزاع ثابت بين الصحابة والتابعين كما حكيناه، والحجةُ لا تقوم بالخلاف، فهذا ابنُ عباس، وعثمان ابن عفان، قد قالا: إن تمليك الرجل لامرأته أمرها ليس بشىء، وابنُ مسعود يقول فيمن جعل أمر امرأته بيد آخر فطلقها: ليس بشىء، وطاووس يقول فيمن ملك امرأته أمرها: ليس إلى النساء طلاق، ويقول فيمن ملك رجلاً أمر امرأته، أيملك الرجل أن يطلقها؟ قال: لا.
قلت: أما المنقولُ عن طاووس، فصحيح صريح لا مطعن فيه سنداً وصراحة. وأما المنقول عن ابن مسعود، فمختلفٌ، فنقل عنه موافقة على وزيد فى الوقوع، كما رواه ابن أبى ليلى عن الشعبى: أن أمرك بيدك، واختارى سواء فى قول على وابن مسعود وزيد، ونقل عنه فيمن قال لامرأته: أمُر فلانة بيدك إن أدخلت هذا العدل البيت، ففعلت، أنها امرأته، ولم يطلقها عليه.
وأما المنقول عن ابن عباس، وعثمان، فإنما هو فيما إذا أضافت المرأةُ الطلاقَ إلى الزوج، وقالت: أنت طالق. وأحمد ومالك يقولان ذلك مع قولهما بوقوع الطلاق إذا اختارت نفسها، أو طلقت نَفسها، فلا يُعرف عن أحد من الصحابة إلغاء التخيير والتمليك ألبتة، إلا هذِهِ الرواية عن ابن مسعود، وقد رُوِىَ عنه خلافُها، والثابتُ عن الصحابة، اعتبارُ ذلك، ووقوع الطلاق به، وإن اختلفوا فيما تَمْلِكُ به المرأة كما تقدم، والقولُ بأن ذلك لا أثر له لا يُعرف عن أحد من الصحابة ألبتة، وإنما وهم أبو محمد فى المنقول عن ابن عباس وعثمان، ولكن هذا مذهب طاووس، وقد نقل عن عطاء ما يدل على ذلك، فروى عبد الرزاق، عن ابن جريج، قلت لعطاء: رجل قال لامرأته: أمرك بيدك بعد يوم أو يومين، قال: ليس هذا بشىء. قلت: فأرسل إليها رجلاً أن أمرها بيدها يوماً أو ساعة، قال: ما أدرى ما هذا؟ ما أظن هذا شيئاً. قلت لعطاء: أملَّكت عائشة حفصة حين ملَّكها المنذر أمرها، قال عطاء: لا، إنما عرضت عليها أتطلقها أم لا، ولم تُملِّكها أمرها.
ولولا هيبةُ أصحابِ رسول الله صلى الله عليه وسلم لما عَدَلْنَا عن هذا القول، ولكن أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم هم القدوةُ وإن اختلفوا فى حكم التخيير، ففى ضمن اختلافهم اتفاقُهم على اعتبار التخيير، وعدم إلغائه، ولا مفسدة فى ذلك، والمفسدةُ التى ذكرتمُوها فى كون الطلاق بيد المرأة إنما تكونُ لو كان ذلك بيدها استقلالاتً، فأما إذا كان الزوج هو المستقل بها، فقد تكونُ المصلحة له فى تفويضها إلى المرأة ليصير حاله معها على بينة إن أخبته، أقامت معه، وإن كرهته، فارقتُه، فهذا مصلحة له ولها، وليس فى هذا ما يقتضى تغيير شرع الله وحكمته، ولا فرقَ بين توكيل المرأة فى طلاق نفسها وتوكيل الأجنبى، ولا معنى لمنع توكيل الأجنبى فى الطلاق، كما يَصِحُّ توكليه فى النكاح والخلع.
وقد جعل اللَّهُ سبحانَه للحكمين النظرَ فى حال الزوجين عند الشقاق إن رأيا التفريقَ فرَّقا، وإن رأيا الجمع، جمعا، وهو طلاق أو فسخ من غير الزوج، إما برضاه إن قيل: هما وكيلانِ، أو بغير رضاه إن قيل: هما حكمان، وقد جُعلَ للحاكم أن يطلِّق على الزوج فى مواضع بطريق النيابة عنه، فإذا وكَّلَ الزوجُ من يُطلِّق عنه، أو يُخالع، لم يكن فى هذا تغيير لحكم الله مخالفةٌ لدينه، فإن الزوجَ هو الذى يُطلِّق إما بنفسه، أو بوكيله، وقد يكون أتمَّ نظراً للرجل من نفسه، وأعلم بمصلحته، فيفوض إليه ما هو أعلمُ بوجه المصلحة فيه منه، وإذا جاز التوكيلُ فى العتقِ والنكاح، والخلع والإبراء، وسائر الحقوق من المطالبة بها وإثباتها واستيفائها، والمخاصمة فيها، فما الذى حرَّم التوكيلَ فى الطلاق؟ نعم الوكيلُ يقوم مقام الموكِّل فيما يملكه من الطلاق، ومالا يملِكُه، وما يَحلُّ له منه، وما يحرم عليه، ففى الحقيقة لم يُطلِّق إلا الزوج إما بنفسه أو بوكيله.
حُكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بيَّنه عن ربه تبارك وتعالى فيمن حرَّم أمته أو زوجته أو متاعه
قال تعالى: {يَأَيُّهَا النَّبِىُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ الله لَكَ تَبْتَغِى مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ واللهُ غَفُورٌ رحيمٌ * قَدْ فَرَضَ الله لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُم} [التحريم: 1-2]، ثبت فى ((الصحيحين))، أنه صلى الله عليه وسلم شَرِبَ عسلاً فى بيت زينب بنت جحش، فاحتالت عليه عائشةُ وحفصةُ، حتى قال: ((لَنْ أَعُودَ لَهُ)). وفى لفظ: وقد حلفت.
وفى ((سنن النسائى)): عن أنس رضى الله عنه، أن رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كانت له أمة يطؤُها، فلم تزل به عائشةُ وحفصةُ حتى حرَّمَها، فأنزل الله عز وجل: {يَأَيُّهَا النبىُّ لِمَ تُحرِّمُ مَا أَحلَّ الله لَكَ} [التحريم:1].
وفى ((صحيح مسلم)): عن ابنِ عباس رضى الله عنهما، قال: إذا حَرَّمَ الرَّجُلُ امرأَته، فهي يَمينٌ يُكَفِّرُهَا، وقال: لقد كان لكُم فى رسولِ الله أسوة حسنة.
وفى جامع الترمذى: عن عائشة رضى الله عنها، قالت: آلى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مِن نسائه وحرَّم فَجَعَلَ الحَرَامَ حَلاَلاً، وجَعَلَ فى اليمينِ كفارةً. هكذا رواه مسلمة بن علقمة، عن داود، عن الشعبى، عن مسروق، عن عائشة، ورواه على بن مُسهر، وغيره، عن الشعبى، عن النبى صلى الله عليه وسلم مرسلاً وهو أصح، انتهى كلام أبى عيسى.
وقولُها: جعل الحرامَ حلالاً، أى: جعل الشىء الذى حرَّمه وهو العسلُ، أو الجاريةُ، حلالاً بعد تحريمه إياه.
وقال الليثُ بن سعد: عن يزيد بن أبى حبيب، عن عبد الله بن هُبيرة عن قَبيصة بن ذُؤيب، قال: سألت زيد بن ثابت، وابن عمر رضى الله عنهم، عمن قال لامرأته: أنت علىَّ حرام، فقالا جميعاً: كفارة يمين. وقال عبد الرزاق، عن ابن عُيينة، عن ابن أبى نجيح، عن مجاهد، عن ابن مسعود رضى الله عنه، قال فى التحريم: هى يمينٌ يكفِّرها.
قال ابنُ حزم: وروى ذلك عن أبى بكر الصديق، وعائشة أمِّ المؤمنين. وقال الحجاج بن منهال: حدثنا جريرُ بن حازم، قال: سألت نافعاً مولى ابن عمر رضى الله عنه عن الحرام، أطلاق هو؟ قال: لا، أوليس قد حرَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم جاريته فأمره الله عز وجل أن يُكفِّر عن يمينه، ولم يحرِّمها عليه.
وقال عبد الرزاق: عن معمر، عن يحيى بن أبى كثير، وأيوب السختيانى، كلاهما عن عكرمة أن عمر بن الخطاب قال: هى يمين، يعنى التحريم.
وقال إسماعيل بن إسحاق: حدثنا المُقَدَّمىُّ: حدثنا حماد بن زيد، عن صخر بن جُويرية، عن نافع، عن ابن عمر رضى الله عنهما، قال: الحرام يمين.
وفى ((صحيح البخارى)): عن سعيد بن جبير، أنه سمع ابن عباس رضى الله عنهما يقول: إذا حرَّم امرأته، ليس بشىء، وقال: لقد كان لكم فى رسول الله أسوة حسنة فقيل: هذا رواية أخرى عن ابن عباس. وقيل: إنما أراد أنه ليس بطلاق وفيه كفارة يمين، ولهذا احتجَّ بفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الثانى أظهر، وهذه المسألة فيها عشرون مذهباً للناس، ونحن نذكرها، ونذكر وجوهها ومآخذها، والراجح منها بعون الله تعالى وتوفيقه.
أحدها: أن التحريمَ لغو لا شىء فيه، لا فى الزوجة، ولا فى غيرها، لا طلاقَ ولا إيلاءَ، ولا يمينَ ولا ظِهَار، روى وكيع، عن إسماعيل بن أبى خالد، عن الشعبى، عن مسروق: ما أبالى حرَّمتُ امرأتى أو قصعةً من ثريد. وذكر عبد الرزاق، عن الثورى، عن صالح بن مسلم، عن الشعبى، أنه قال فى تحريم المرأة: لهن أهونُ على من نعلى وذُكِرَ عن ابن جريج، أخبرنى عبد الكريم، عن أبى سلمة بن عبد الرحمن، أنه قال: ما أبالى حرَّمُتها يعنى امرأته، أو حرَّمتُ ماء النهر. وقال قتادة: سأل رجلٌ حميدَ بن عبد الرحمن الحميرى، عن ذلك؟ فقال: قال الله تعالى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وإلى رَبَّكَ فَارْغَبْ} [الشرح: 7-8] وأنت رجل تلعب، فاذهب فالعب، هذا قول أهلِ الظاهر كلِّهم.
المذهب الثانى: أن التحريم فى الزوجة طلاق ثلاث. قال ابن حزم: قاله على بن أبى طالب، وزيدُ بن ثَابت، وابنُ عمر، وهو قول الحسن، ومحمد بن عبد الرحمن ابن أبى ليلى، وروى عن الحكم بن عتيبة. قلت: الثابت عن زيد بن ثابت، وابن عمر، ما رواه هو من طريق الليث ابن سعد، عن يزيد بن أبى حبيب، عن أبى هُبيرة، عن قَبيصة، أنه سأل زيدَ بن ثابت وابنَ عمر عمن قال لامرأته. أنت علىّ حرام، فقالا جميعاً: كفارة يمين، ولم يصح عنهما خلاف ذلك، وأما على، فقد روى أبو محمد بن حزم، من طريق يحيى القطان، حدثنا إسماعيل بن أبى خالد، عن الشعبى، قال: يقول رجال فى الحرام: هى حرام حتى تنكِح زوجاً غيره. ولا واللَّه ما قال ذلك على، وإنما قال على: ما أنا بمحلِّها ولا بمحرِّمها عليك، إن شئت فتقدَّم، وإن شئت فتأخر. وأما الحسن، فقد روى أبو محمد من طريق قتادة عنه، أنه قال: كُلُّ حلال على حرام، فهو يمين. ولعل أبا محمد غلط على على وزيد وابن عمر من مسألة الخلية والبرية والبتة، فإن أحمد حكى عنهم أنها ثلاث. وقال هو عن على وابن عمر صحيح، فوهم أبو محمد، وحكاه فى: أنت على حرام، وهو وهم ظاهر، فإنهم فرَّقوا بين التحريم، فأفتوا فيه بأنه يمين، وبين الخلية فأفتوا فيها بالثلاث، ولا أعلم أحداً قال: إنه ثلاث بكل حال.
المذهب الثالث: أنه ثلاث فى حق المدخول بها لا يُقبل منه غيرُ ذلك، وإن كانت غيرَ مدخول بها، وقع ما نواه من واحدة واثنتين وثلاث، فإن أطلق، فواحدة، وإن قال: لم أرد طلاقاً، فإن كان قد تقدَّم كلام يجوز صرفه إليه قبل منه، وإن كان ابتداءً لم يقبل، وإن حِرَّم أمته أو طعامه أو متاعه، فليس بشىء، وهذا مذهب مالك.
المذهب الرابع: أنه إن نوى الطلاق كان طلاقاً، ثم إن نوى به الثلاث فثلاث، وإن نوى دونها فواحدة بائنة، وإن نوى يميناً فهو يمين فيها كفارة، وإن لم ينو شيئاً فهو إيلاء فيه حكمُ الإيلاء. فإن نوى الكذبَ، صُدِّق فى الفتيا ولم يكن شيئاً، ويكون فى القضاء إيلاء، وإن صادف غير الزوجة الأمةِ والطعام وغيره، فهو يمين فيه كفارتها، وهذا مذهب أبى حنيفة.
المذهب الخامس: أنه إن نوى به الطلاقَ، كان طلاقاً، ويقعُ ما نواه، فإن أطلق وقعت واحدةً، وإن نوى الظهارَ، كان ظهاراً، وإن نَوَى اليمينَ، كان يميناً، وإن نوى تحريمَ عينها مِن غير طلاق ولا ظِهار، فعليه كفارةُ يمين، وإن لم ينوِ شيئاً، ففيه قولان. أحدهما: لا يلزمُه شىء. والثانى: يلزمه كفارة يمين. وإن صادف جارية، فنوى عتقها وقع العتق، وإن نوى تحريمها لزمه بنفس اللفظ كفارةُ يمين، وإن نوى الظهارَ منها، لم يصح، ولم يلزمه شىء، وقيل: بل يلزمه كفارةُ يمين، وإن ينو شيئاً، ففيه قولان، أحدهما: لا يلزمُه شىء والثانى: عليه كفارةُ يمين. وإن صادفَ غيرَ الزوجة والأمة لم يحرم، ولم يلزمه به شىء، وهذا مذهبُ الشافعى.
المذهب السادس: أنه ظِهار بإطلاقه، نواه أو لم ينوِه، إلا أن يَصرفَه بالنية إلى الطلاق، أو اليمين، فينصرِف إلى ما نواه، هذا ظاهر مذهبِ أحمد. وعنه رواية ثانية: أنه بإطلاقه يمين إلا أن يَصْرِفَه بالنية إلى الظهار أو الطَّلاق، فينصَرِفُ إلى ما نواهُ، وعنه رواية أخرى ثالثة: أنه ظهار بكل حال ولو نوى غيرَه، وفيه رواية رابعة حكاها أبو الحسين فى ((فروعه))، أنه طلاق بائن.،ولو وصله بقوله: أعنى به الطلاق. فعنه فيه روايتان. إحداهما: أنه طلاق، فعلى هذا هل تلزمُه الثلاث، أو واحدة؟ على روايتين، والثانية: أنه ظهار أيضاً كما لو قال: أنتِ علىَّ كظهر أمى أعنى به الطلاق، هذا تلخيصُ مذهبه.
المذهب السابع: أنه إن نوى به ثلاثاً، فهى ثلاثٌ، وإن نوى به واحدة، فهى واحدة بائنة، وإن نوى به يميناً، فهى يمين، وإن لم ينوِ شيئاً، فهى كذبة لا شىءَ فيها، وهذا مذهبُ سفيان الثورى، حكاه عنه أبو محمد ابن حزم.
المذهب الثامن: أنه طلقةٌ واحدة بائنة بكل حال، وهذا مذهبُ حماد بن أبى سليمان.
المذهب التاسع: أنه إن نوى ثلاثاً فثلاث، وإن نوى واحدة، أو لم ينوِ شيئاً، فواحدة بائنة، وهذا مذهبُ إبراهيم النخعى، حكاه عنه أبو محمد بن حزم.
المذهب العاشر: أنه طلقة رجعية، حكاه ابن الصباغ وصاحبُه أبو بكر الشاشى عن الزهرى، عن عمر بن الخطاب.
المذهب الحادى عشر: أنها حرمت عليه بذلك فقط، ولم يذكر هؤلاء ظهاراً ولا طلاقاً ولا يميناً، بل ألزموه موجب تحريمه. قال ابن حزم: صح هذا عن على بن أبى طالب، ورجالٍ من الصحابة لم يُسمَّوْا، وعن أبى هريرة. وصح عن الحسن، وخِلاس بن عمرو، وجابر بن زيد، وقتادة، أنهم أمروه باجتنابها فقط.
المذهب الثانى عشر: التوقفُ فى ذلك لا يُحرِّمها المفتى على الزوج، ولا يحلِّلها له، كما رواه الشعبى عن على أنه قال: ما أنا بمحلها ولا محرِّمها عليك إن شئتَ فتقدَّم، وإن شئت فتأخر.
المذهب الثالث عشر: الفرقُ بين أن يُوقع التحريم منجزاً أو معلقاً تعليقاً مقصوداً وبين أن يُخرجه مخرجَ اليمين، فالأول: ظهار بكل حال ولو نوى به الطلاقَ، ولو وصله بقوله: أعنى به الطلاقَ. والثانى: يمين يلزمه به كفارةُ يمين، فإذا قال: أنت علىَّ حرام، أو إذا دخل رمضان، فأنتِ علىَّ حرام، فظهار. وإذا قال: إن سافرتُ، أو إن أكلتُ هذا الطعامَ أو كلمتُ فلانا، فامرأتى علىَّ حرام، فيمين مكفرة، وهذا اختيارُ شيخ الإسلام ابن تيمية، فهذه أصولُ المذاهب فى هذه المسألة وتتفرَّعُ إلى أكثر من عشرين مذهباً.