فصل في الإستدلال بآية الإيلاء و ما فيها من أحكام
 

قال الموقعون للطلاق بمضى المدة: آية الإيلاء تدل على ذلك من ثلاثة أوجه.
أحدها: أن عبدَ الله بن مسعود قرأ:{فَإنْ فَاءوا فَإنَّ الله غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 226] فإضافة الفيئة إلى المدة تدل على استحقاق الفيئة فيها، وهذه القراءة إما أن تُجرى مجرى خبر الواحد، فتوجب العمل، وإن لم تُوجب كونها مِن القرآن، وإما أن تكون قرآناً نسخ لفظه، وبقى حكمه لا يجوز فيها غير هذا البتة.
الثانى: أن الله سبحانه جعل مدة الإيلاء أربعة أشهر، فلو كانت الفيئةُ بعدها، لزادت على مدة النص، وذلك غيرُ جائز.
الثالث: أنه لو وطئها فى مدة الإيلاء، لوقعت الفيئةُ موقِعَها، فدل على استحقاق الفيئة فيها.
قالوا: ولأن الله سبحانه وتعالى جعل لهم تربصَ أربعة أشهر، ثم قال: {فَإنْ فَاءوا فَإنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَإن عَزَمُو الطَّلاَقَ} [البقرة: 226-227]وظاهر هذا أن هذا التقسيم فى المدة التى لهم فيها التربص، كما إذا قال لغريمه: أصبر عليك بدينى أربعة أشهر، فإن وفيتنى وإلا حبستك، ولا يُفهم من هذا إلا أن وفَّيتنى فى هذه المدة، ولا يُفهم منه إن وفيتنى بعدها، وإلا كانت مدة الصبر أكثر من أربعة أشهر، وقراءة ابن مسعود صريحة فى تفسير الفيئة بأنها فى المدة، وأقلُّ مراتبها أن تكون تفسيراً. قالوا: ولأنه أجلٌ مضروب للفرقة، فتعقبه الفرقة كالعدة، وكلأجل الذى ضُرِبَ لوقوع الطلاق، كقوله: إذا مضت أربعة أشهر، فأنت طالق.
قال الجمهور: لنا مِن آية الإيلاء عشرة أدلة.
أحدها: أنه أضاف مدة الإيلاء إلى الأزواج، وجعلَها لهم، ولم يجعلها عليهم، فوجبَ ألا يستحق المطالبة فيها، بل بعدَها، كأجلِ الدَّين، ومن أوجبَ المطالبةَ فيها لم يكن عنده أجلاً لهم، ولا يُعقل كونها أجلاً لهم، ويستحق عليهم فيها المطالبة.
الدليل الثانى: قوله: {فَإنْ فَاءُوا فَإنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 226]، فذكر الفيئةَ بعد المدة بفاء التعقيب، وهذا يقتضى أن يكونَ بعدَ المدة، ونظيرُه قولُه سبحانه: {الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] وهذا بعدَ الطلاق قطعاً.
فإن قيل: فاء التعقيب تُوجب أن يكونَ بعد الإيلاء لا بعدَ المدة؟ قيل: قَد تقدَّمَ فى الآية ذكر الإيلاء، ثم تلاه ذكر المدة، ثم أعقبها بذكر الفيئة، فإذا أوجبت الفاءُ التعقيبُ بعد ما تقدم ذكرُه، لم يجز أن يعود إلى أبعدِ المذكورين، ووجب عودُها إليهما أو إلى أقربهما.
الدليل الثالث: قوله: {وإِنْ عَزَمُوا الطَّلاَقَ} [البقرة: 227]، وإنما العزم ما عزم العازمُ على فعله، كقوله تعالى: {وَلاَ تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الكِتَابُ أَجَلَهُ} [البقرة: 235] فإن قيل: فتركُ الفيئة عزم على الطلاق؟ قيل: العزمُ هو إرادة جازمة لفعل المعزوم عليه أو تركه، وأنتم تُوقعون الطلاقَ بمجرد مضىِّ المدة وإن لم يكن منه عزم لا على وطء ولا على تركه، بل لو عزم على الفيئة، ولم يُجامع طلقتم عليه بمضىِّ المدة، ولم يعزم الطلاق، فكيفما قدرتم، فالآيةُ حجة عليكم.
الدليل الرابع: أن الله سبحانه خيَّره فى الآية بين أمرين: الفيئةِ أو الطلاقِ، والتخييرُ بين أمرين لا يكون إلا فى حالة واحدة كالكفارات، ولو كان فى حالتين، لكانتا ترتيباً لا تخييراً، وإذا تقرر هذا، فالفيئة عندكم فى نفس المدة، وعزمُ الطلاق بانقضاء المدة، فلم يقع التخييرُ فى حالة واحدة.
فإن قيل: هو مخيَّر بين أن يفىء فى المدة، وبين أن يترك الفيئة، فيكون عازماً للطلاق بمضى المدة.
قيل: ترك الفيئة لا يكون عزماً للطلاق وإنما يكون عزماً عندكم إذا انقضت المدة، فلا يتأتَّى التخييرُ بين عزم الطلاق وبين الفيئة البتة، فإنه بمضى المدة يقع الطلاق عندكم، فلا يُمكنه الفيئة، وفى المدة يمكنه الفيئة، ولم يحضر وقتُ عزم الطلاق الذى هو مضى المدة، وحينئذ فهذا دليل خامس مستقل.
الدليل السادس: أن التخيير بين أمرين يقتضى أن يكون فِعلُهما، إليه ليصح منه اختيارُ فعل كل منهما وتركه، وإلا لبطل حكمُ خياره، ومضى المدة ليس إليه.
الدليل السابع: أنه سبحانه قال:{وإِنْ عَزَمُوا الطَّلاَقَ فَإِنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 227]. فاقتضى أن يكون الطلاقُ قولاً يُسمع، ليحسن ختم الآية بصفة السمع.
الدليل الثامن: أنه لو قال لغريمه: لك أجلُ أربعة أشهر، فإن وفيتنى قبلتُ منك، وإن لم تُوفنى حبستُك، كان مقتضاه أن الوفاء والحبس بعد المدة لا فيها، ولا يَعْقِلُ المخاطبُ غيرَ هذا.
فإن قيل: ما نحن فيه نظيرُ قوله: لك الخيار ثلاثة أيام فإن فسخت البيع وإلا لزمك، ومعلومٌ أن الفسخَ إنما يقع فى الثلاث لا بعدها؟ قيل: هذا من أقوى حُججنا عليكم فإن موجبَ العقد اللزومُ، فجعل له الخيار فى مدة ثلاثة أيام، فإذا انقضت ولم يفسخ عاد العقدُ إلى حكمه وهو اللزومُ وهكذا الزوجة لها حقٌّ على الزوج فى الوطء كما له حقٌّ عليها، قال تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِى عَلَيْهِنَّ بالمعْرُوف} [البقرة: 228] فجعل له الشارعُ امتناعَ أربعة أشهر لا حقَّ لها فيهن، فإذا انقضت المدةُ، عادت على حقِّها بموجبِ العَقد، وهو المطالبة لا وقوع الطلاق، وحينئذ فهذا دليل تاسع مستقل.
الدليل العاشر: أنه سبحانه جعل للمؤلين شيئاً، وعليهم شيئين، فالذى لهم تربُّصُ المدة المذكورة، والذى عليهم إما الفيئةُ وإما الطلاقُ، وعندكم ليس عليهم إلا الفيئةُ فقط، وأما الطلاقُ، فليس عليهم، بل ولا إليهم، وإنما هو إليه سبحانه عند انقضاء المدة، فيُحكم بطلاقها عقيب انقضاء المدة شاء أو أبى، ومعلوم أن هذا ليس إلى المؤلى ولا عليه، وهو خلافُ ظاهر النص.
قالوا: ولأنها يمين باللَّه تعالى توجب الكفارةَ. فلم يقع بها الطلاق كسائر الأيمان، ولأنها مدة قدرها الشرعُ، لم تتقدمها الفرقة، فلا يقع بها بينونة، كأجل العنِّين، ولأنه لفظ لا يَصِحُّ أن يقع به الطلاق المعجَّل، فلم يقع به المؤجَّلُ كالظهار، ولأن الإيلاء كان طلاقاً فى الجاهلية، فنسخ كالظهار، فلا يجوز أن يقع به الطلاق لأنه استيفاءٌ للحكم المنسوخ، ولما كان عليه أهلُ الجاهلية.
قال الشافعى: كانت الفِرَقُ الجاهلية تَحلِفُ بثلاثة أشياء: بالطَّلاق، والظِّهار، والإيلاء، فنقل الله سبحانه وتعالى الإيلاء والظِّهار عما كانا عليه فى الجاهلية من إيقاع الفرقة على الزوجة إلى ما استقَّر عليه حكمُهما فى الشرع، وبقى حكمُ الطلاق على ما كان عليه، هذا لفظه.
قالوا: ولأن الطلاقَ إنما يقع بالصريح والكناية، وليس الإيلاء واحداً منهما، إذ لو كان صريحاً، لوقع معجَّلاً إن أطلقه، أو إلى أجل مسمَّى إن قيَّده، ولو كان كنايةٍ، لرجع فيه إلى نيته، ولا يَرِدُ على هذا اللعان، فإنه يُوجب الفسخَ دونَ الطلاق، والفسخُ يقع بغير قول، والطلاقُ لا يقع إلا بالقول.
قالوا: وأما قراءةُ ابن مسعود، فغايتُها أن تدُلَّ على جواز الفيئة فى مدة التربُّص، لا على استحقاقِ المطالبة بها فى المدة، وهذا حقٌّ لا ننكِرُه.
وأما قولُكم: جوازُ الفيئة فى المدة دليلٌ على استحقاقها فيها، فهو باطل بالدَّيْنِ المؤجَّلِ.
وأما قولُكم: إنه لو كانت الفيئة بعد المدة، لزادت على أربعة أشهر، فليس بصحيح، لأن الأربعة أشهر مدة لزمن الصبرِ الذي لا يستحِقُّ فيه المطالبة، فبمجرد انقضائها يستحِقُّ عليه الحقُّ، فلها أن تعجِّل المطالبة به. وإمَّا أن تُنْظِرَه، وهذا كسائِرِ الحقوق المعلَّقة بآجال معدودة، إنما تُستحق عند انقضاء آجالها، ولا يُقال: إن ذلك يستلزِمُ الزيادةَ على الأجل، فكذا أجلُ الإيلاء سواء.
فصل
ودلت الآية على أن كلَّ مَنْ صحَّ منه الإيلاء بأىِّ يمين حلف، فهو مؤلٍ حتى يَبَرَّ، إما أن يفىءَ، وإما أن يُطلِّقَ، فكان فى هذا حجةٌ لما ذهب إليه مَن يقول مِن السلف والخلفِ: إن المؤلى باليمين بالطلاق، إما أن يفىء، وإما أن يطلِّقَ.
ومن يُلزمه الطلاق على كل حال لم يُمكنه إدخال هذه اليمين فى حكم الإيلاء، فإنه إذا قال: إن وطئتك إلى سنة، فأنت طالق ثلاثاً، فإذا مضت أربعةُ أشهر لا يقولون له: إما أن تطأ، وإما أن تُطلِّقَ، بل يقولون له: إن وطئتها طلقت، وإن لم تطأها، طلقنا عليك، وأكثرُهم لا يُمكنه من الإيلاج لوقوع النزع الذى هو جزء الوطء فى أجنبية، ولا جواب عن هذا إلا أن يقال: بأنه غير مؤل، وحينئذ فيقال: فلا تُوقفوه بعد مضى الأربعة الاشهر، وقولوا: إن له أن يمتنع مِن وطئها بيمينِ الطلاق دائماً، فإن ضربتم له الأجل، أثبتم له حكم الإيلاء مِن غير يمين، وإن جعلتموه مؤلياً ولم تجيزوه، خالفتم حكم الإيلاء، وموجب النص، فهذا بعضُ حجج هؤلاء على منازعيهم.
فإن قيل: فما حكمُ هذه المسألة، وهى إذا قال: إن وطئتُك، فأنتِ طالق ثلاثاً.
قيل: اختلف الفقهاءُ فيها، هل يكون مؤلياً أم لا؟ على قولين، وهما روايتان عن أحمد، وقولان للشافعى فى الجديد: بأنه يكون مؤلياً، وهو مذهب أبى حنيفة، ومالك. وعلى القولين: فهل يُمكَّنُ مِن الإيلاجِ؟ فيه وجهان لأصحاب أحمد والشافعى.
أحدهما: أنه لا يُمكن منه، بل يحرمُ عليه، لأنها بالإيلاج تطلق عندهم ثلاثاً، فيصيرُ ما بعد الإيلاج محرماً، فيكون الإيلاج محرماً، وهذا كالصائم إذا تيقن أنه لم يبق إلى طلوع الفجر إلا قدر إيلاج الذكر دون إخراجه، حَرُمَ عليه الإيلاجُ، وإن كان فى زمن الإباحة، لوجود الإخراج فى زمن الحظر، كذلك ها هنا يحرُم عليه الإيلاجُ، وإن كان قبل الطلاق لوجود الإخراج بعده.
والثانى: أنه لا يحرم عليه الإيلاج، قال الماوردى: وهو قولُ سائر أصحابنا، لأنها زوجته، ولا يحرم عليه الإخراج، لأنه ترك. وإن طلقت بالإيلاج، ويكون المحرمُ بهذا الوطء استدامة الإيلاج لا الابتداء والنزع، وهذا ظاهر نص الشافعى، فإنه قال: لو طلع الفجرُ على الصائم وهو مجامع وأخرجه مكانَه كان على صومه، فإن مكث بغير إخراجه، أفطر، ويكفِّرُ. وقال فى كتاب الإيلاء: ولو قال: إن وطئتُك، فأنتِ طالق ثلاثاً، وقف، فإن فاء، فإذا غيَّب الحشفة، طلقت منه ثلاثاً، فإن أخرجه ثم أدخله، فعليه مهرُ مثلها. قال هؤلاء: ويدل على الجواز أن رجلاً لو قال لرجل: ادخل دارى، ولا تقم، استباح الدخول لوجوده عن إذن، ووجب عليه الخروجُ لمنعه من المقام، ويكون الخروجُ وإن كان فى زمن الحظر مباحاً، لأنه تركٌ، كذلك هذا المؤلى يستبيحُ أن يولج، ويستبيحُ أن ينزع، ويحرم عليه استدامةُ الإيلاج، والخلاف فى الإيلاج قبل الفجر والنزع بعده للصائم، كالخلاف فى المؤلى، وقيل: يحرم على الصائم الإيلاج قبل الفجر، ولا يحرم على المؤلى، والفرق أن التحريم قد يطرأ على الصائم بغير الإيلاج، فجاز أن يحرُمَ عليه الإيلاج، والمؤلى لا يطرأ عليه التحريم بغير الإيلاج، فافترقا.
وقالت طائفة ثالثة: لا يحرُمٌُ عليه الوطءُ، ولا تطلُق عليه الزوجةُ، بل يُوقف، ويقال له: ما أمر الله إما أن تفىء، وإما أن تُطلق. قالوا: وكيف يكون مؤلياً ولا يُمكن من الفيئة، بل يلزم بالطلاق، وإن مكن منها، وقع به الطلاق، فالطلاق واقع به على التقديرين مع كونه مؤلياً؟ فهذا خلافُ ظاهرِ القرآن، بل يقال لهذا: إن فاء لم يقع به الطلاقُ، وإن لم يفىء، أُلزِمَ بالطلاق،. وهذا مذهبُ من يرى اليمينَ بالطلاق لا يُوجب طلاقاً، وإنما يُجزئه بكفارة يمين، وهو قولُ أهل الظاهر، وطاووس، وعكرمة، وجماعة من أهل الحديث؟ واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه.
حُكم رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فى اللعان
قال تعالى:{والَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ ولَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إلاَّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ باللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ * والخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الكَاذِبينَ * ويَدْرَؤُاْ عَنْهَا العَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الكَاذِبِينَ * وَالخَامِسةَ أَنَّ غَضَبَ اللهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [النور: 6-9].
وثبت فى ((الصحيحين)): من حديث سهل بن سعد، أن عُوَيْمِراً العجلانىَّ قال لِعَاصم بن عدى: أَرأَيتَ لو أن رجلاً وَجَدَ مَعَ امرأتِهِ رجلاً أَيقتُلُه فتقتُلُونه، أم كيف يفعلُ؟ فسل لى رَسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فسألَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فكره رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم المَسَائِلَ وعَابَها، حتى كَبْرَ على عاصمٍ مَا سَمِعَ مِنْ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثم إن عويمراً سأل رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال: ((قَدْ نَزَلَ فيكَ وفى صاحِبَتِكَ، فاذْهَبْ، فَأْتِ بِهَا، فَتَلاَعَنَا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا فَرَغَا قال: كذبتُ عَلَيْهَا يا رسولَ اللَّهِ إن أمسكتُها، فطلَّقها ثلاثاً قَبْلَ أَن يأمُرَهُ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. قال الزهرىُّ: فكانت تِلْكَ سنةَ بالمتلاعِنْينِ. قال سهل: وكانت حَامِلاً، وكان ابنُهَا يُنْسَبُ إلى أمه، ثم جرت السُّنةُ أَن يَرِثَها وتَرِثَ مِنْهُ ما فَرَضَ اللَّهُ لها.
وفى لفظ: فتلاعنا فى المسجد، ففارقها عندَ النبىِّ صلى الله عليه وسلم، فقال النبىُّ صلى الله عليه وسلم: ((ذاكُم التَّفْرِيقُ بَيْنَ كُلِّ مُتَلاعِنَيْن)).
وقولُ سهل: وكانت حاملاً إلى آخره، هو عند البخارى مِن قول الزهرى، وللبخارى: ثم قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((انْظُرُوا فَإنْ جَاءتْ بِه أَسْحَمَ أَدْعَجَ العَيْنَيْنِ عَظيمَ الألْيَتَيْن، خَدَلَّج السَّاقَيْنِ فَلاَ أَحْسِبُ عُوَيْمِراً إلاَّ قَدْ صَدَقَ عَلَيْهَا، وإِنْ جَاءتْ بهِ أُحَيْمِرَ كَأَنَّهُ وحْرَةٌ فَلاَ أَحْسِبُ عُوَيْمِراً إلاَّ قَدْ كَذَبَ عَلَيْهَا))، فجاءت به على النَّعْتِ الذى نعتَ به رسولُ الله صلى الله عليه وسلم من تصديق عويمر.
وفى لفظ: وكانت حَامِلاً، فأنكر حملَها.
وفى صحيح مسلم: من حديث ابن عمر، أن فلانَ بنَ فلان، قال: يا رسولَ اللَّهِ، أرأيتَ لو وجد أحدُنا امرأتَه على فاحِشةٍ، كيف يصنعُ، إن تكلم، تكلَّم بأمر عظيم، وإن سكت، سَكَتَ على مِثْل ذلِكَ؟ فسكت النبىُّ صلى الله عليه وسلم، فلم يُجِبْهُ، فلما كان بعدَ ذلك، أتاه فقال: ((إنَّ الَّذِى سَأَلْتُكَ عَنْهُ قَدِ ابتُلِيتُ بِهِ))، فأنزلَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ هؤلاءِ الآيات فى سُورَةِ النُّورِ:{والَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ} [النور: 6]، فتلاهن عليه ووعظَه، وذكَّره وأخبره أن عذابَ الدنيا أهونُ مِن عذابِ الآخرة، قال: لا والَّذِى بَعَثَك بِالحَقِّ ما كذبتُ عليها، ثم دعاها فوعظَهَا، وذكرها، وأخبرها أن عذابَ الدنيا أهونُ مِن عذابِ الآخرة، قالَت: لا والَّذِى بَعَثَكَ بالحَقِّ إنه لكاذِبٌ، فبدأ بالرَّجُلِ فَشَهدَ أربعَ شهادَاتٍ باللَّهِ إنه لمن الصادقين، والخامسة أنَّ لعنةَ اللَّهِ عليه إن كان مِن الكَاذِبِينَ، ثم ثنَّى بالمرأةِ، فشَهِدَتْ أربعَ شهادَاتٍ باللَّهِ إنَّه لمن الكاذبينَ، والخا مسة أنَّ غَضَبَ اللَّهِ عليها إن كان من الصَّادِقينَ، ثم فرَّق بينهُمَا.
( وفى ((الصحيحين)) عنه، قال رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم للمتُلاعنين: ((حِسَابُكُما عَلى اللَّهِ أَحَدُكُمَا كَاذِبٌ، لا سَبِيلَ لَكَ عَلَيْهَا))، قال: يا رسولَ اللَّهِ، مالى؟ قال: لاَ مَالَ لَكَ، إِنْ كُنْتَ صَدَقْتَ عَلَيْهَا، فَهُوَ بِمَا اسْتَحْلَلْتَ مِن فَرْجِهَا، وَإِنْ كُنْتَ كَذَبْتَ عَلَيْهَا، فَهُوَ أَبْعَدُ لَكَ مِنْهَا)).
وفى لفظ لهما: فرَّق رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ المُتَلاعِنَيْنِ، وقال: واللَّهِ إِن أَحَدَكُمَا كَاذِبٌ، فَهَلْ مِنْكُمَا تائِبٌ))؟.
وفيهما عنه: أن رجلاً لاعَنَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ففرَّقَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَهُمَا، وألحق الولد بأمِّه.
وفى صحيح مسلم: من حديث ابن مسعود رضى الله عنه فى قِصةِ المتلاعنين، فشهد الرجلُ أربعَ شهادات باللَّه إنَّهُ لَمِنَ الصادقين، ثم لعن الخامسةَ أنَّ لعنةَ اللَّهِ عليه إن كانَ مِنَ الكَاذِبينَ، فذهبتْ لتلعنَ، فقال لها رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ((مَهْ)) فَأَبَتْ، فَلَعَنَتْ، فلما أدبرا، قال: لَعَلَّهَا أَنْ تَجِىءَ بهِ أَسْوَدَ جَعْدَاً))، فجاءتْ بهِ أسْوَدَ جَعْداً.
وفى ((صحيح مسلم)) من حديث أنس بن مالك، أن هِلالَ بن أمية قذف امرأته بِشَرِيك بْنِ سَحْمَاء، وكان أخا البرَاءِ بنِ مالك لأمِّه، وكان أوَّلَ رجلٍ لاعن فى الإسلام، فقال النبىُّ صلى الله عليه وسلم: ((أَبْصِرُوهَا فإنْ جَاءتْ بِهِ أَبْيَضَ سَبطاً قضىءَ العَيْنَيْنِ، فَهُوَ لهلال بْن أُمَيَّة، وَإنْ جَاءتْ بِهِ أَكْحَلَ جَعْداً حَمْشَ السَّاقَيْنِ، فَهُوَ لِشَرِيكِ ابن سَحْمَاء، قال: فأُنبئتُ أَنها جاءت به أكحلَ جعداً حَمْش السَّاقين.
وفى ((الصحيحين)): من حديث ابن عباس نحوُ هذه القصة، فقال له، رجل: أهى المرأةُ التى قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((لَوْ رَجَمْتُ أَحَداً بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ لَرَجَمْتُ هذِهِ))، فقال ابنُ عباس: لا، تِلْكَ امرأَة كانت تُظْهِرُ فى الإسْلامِ السُّوءَ.
ولأبى داود فى هذا الحديث عن ابن عباس: ففرَّق رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَهُما وقضى أن لا يُدعى ولدُها لأب، ولا تُرمى، ولا يُرمى ولدُها ومَنْ رماها، أو رمى ولدها، فعليه الحدُّ، وقضَى ألاَّ بَيْتَ لها عليه، ولا قوت من أجل أنهما يتفرَّقان مِن غير طلاق، ولا متوفى عنها. وفى القصة قال عكرمة: فكان بعد ذلك أميراً على مصر وما يُدعى لأب.
وذكر البخارى: أن هلالَ بن أمية قذف امرأتهُ عند رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بشريكِ بن سَحْمَاء، فقال النبىُّ صلى الله عليه وسلم: ((البَيِّنَةُ أَوْ حَدٌّ فى ظَهْرِكَ))، فقال: يا رسولَ اللَّهِ: إذا رأى أحدُنا على امرأتِه رجلاً ينطلِقُ يلتمِسُ البينة؟ فجعل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((البَيِّنَةُ وإلاَّ حَدٌّ فى ظَهْرِكَ))، فقال: والذى بعثك بالحق إنى لصَادِق، وليُنْزِلَنَّ اللَّهُ ما يُبرِّىءُ ظَهْرِى مِن الحَدِّ، فنزلَ جبريلُ عليه السلام، وأنزل عليه:{والَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُم الآية} [النور: 6]، فانصرفَ النبىُّ صلى الله عليه وسلم إليها، فجاء هِلال، فشهِدَ والنبىُّ صلى الله عليه وسلم يقول: ((إنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَكُمَا كَاذِبٌ فَهَلْ مِنْكُمَا تَائبٌ))؟ فَشَهِدَت، فلما كانت عند الخامِسة وقَّفُوهَا، وقالوا: إنها مُوجِبَة، قال ابنُ عباس رضى الله عنهما: فتلكَّأَت ونَكَصَتْ حتَّى ظَننَّا أنها تَرْجعُ، ثم قالت: لا أَفْضحُ قَوْمِى سَائِرَ اليومِ، فَمَضَتْ، فقال النبىُّ صلى الله عليه وسلم: ((أَبْصِرُوهَا فَإنْ جَاءتْ بِهِ أَكْحَلَ العَيْنَيْنِ، سَابغَ الأَلْيَتَيْنِ، خَدَلَّج السَّاقَيْن، فَهُوَ لَشَرِيكِ بن سَحْمَاء، فجاءت به كذلكَ، فقال النبى صلى الله عليه وسلم: ((لَوْلاَ مَا مَضَى مِنْ كِتَابِ الله كَانَ لى وَلَهَا شَأْنٌ)).
وفى ((الصحيحين)): أن سعدَ بنَ عُبادة، قال: يا رسولَ اللَّهِ، أرأيتَ الرَّجُلَ يَجِدُ مع امرأتِهِ رجلاً أيقتلُه؟ فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((لا))، فقال سَعْدٌ: بلَى والَّذِى بعثك بالحقِّ، فقال رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ((اسْمَعُوا إلى مَا يَقُولُ سَيِّدُكُم)): وفى لفظٍ آخَرَ: يا رسولَ اللَّهِ، إن وجدتُ مع امرأتى رجلاً أُمْهِلُه حتى آتىَ بأربعة شهداء؟ قال: ((نعم)). وفى لفظ آخر: لو وجَدْتُ مع أَهْلى رجلاً لم أهجْهُ حَتَّى آتىَ بأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ؟ قال رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ((نعم))، قال: كلاَّ والَّذِى بَعَثَكَ بالحَقِّ نَبياًّ إِنْ كُنْتُ لأُعاجلُهُ بالسَّيْفِ قَبْلِ ذلِكَ، قالَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ((اسْمَعوا إلى ما يقُولُ سَيِّدُكُم إِنَّه لَغَيُورٌ وأَنَا أغْيَرُ مِنْهُ، واللَّهُ أَغْيَرُ مِنِّى)).
وفى لَفْظٍ: ((لو رأيتُ مَعَ امرأتى رجلاً لضربتُه بالسَّيْفِ غَيْرَ مُصْفَحٍ، فقال النبىُّ صلى الله عليه وسلم: أَتَعْجَبُونَ مِنْ غَيْرَةِ سَعْدٍ، فَوَاللَّهِ لأَنَا أَغْيَرُ مِنْهُ، واللَّهُ أَغْيَرُ مِنِّى، ومِنْ أَجْلِ ذلِكَ حَرَّمَ الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا ومَا بَطَنَ، ولا شَخْصَ أَغٌيَرُ مِنَ اللَّه، ولا شَخْصَ أَحَبُّ إِلَيْهِ العُذْرُ مِنَ اللَّهِ، مِنْ أَجْلِ ذلِكَ بَعَثَ اللَّهُ المُرْسَلِينَ مُبَشِّرِينَ ومُنْذَرِينَ، ولا شخص أحَبُّ إلَيْهِ المِدْحَةُ مِنَ اللَّهِ، مِنْ أَجْلِ ذلِكَ وَعَدَ اللَّهُ الجَنَّةَ)).