الفصل الثانى المستفاد من قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أن المرأةَ إذا لم تلتعِنْ، فهل تُحَدُّ أو تُحبَسُ حتى تُقِرَّ، أو تُلاعن؟
 
وهذا يتَّضِحُ بالفصل الثانى المستفاد من قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أن المرأةَ إذا لم تلتعِنْ، فهل تُحَدُّ أو تُحبَسُ حتى تُقِرَّ، أو تُلاعن؟ فيه قولان للفقهاء. فقال الشافعى، وجماعة من السلف والخلف: تُحَدُّ، وهو قولُ أهلِ الحجاز. وقال أحمد: تُحبسُ حتى تُقِرَّ أو تُلاعِنَ، وهو قولُ أهل العِراق. وعنه رواية ثانية: لا تحبَسُ ويُخلَّى سبيلُها.
قال أهل العراق ومَنْ وافقهم: لو كان لِعانُ الرجل بينةً تُوجِبُ الحدَّ عليها، لم تملك إسقاطَه باللعانِ، وتكذيب البينة، كما لو شهد عليها أربعة.
قالوا: ولأنه لو شهد عليها مع ثلاثة غيرِه، لم تحد بهذه الشهادة، فلأن لا تُحدَّ بشهادته وحده أولى وأحرى. قالُوا: ولأنه أحدُ المتلاعنين، فلا يُوجِبُ حدَّ الآخر، كما لم يُوجب لِعانُها حدَّه.
قالوا: وقد قال النبى صلى الله عليه وسلم: ((البَيِّنَةُ عَلى المُدَّعى)). ولا ريب أن الزوج ها هنا مدَّع.
قالوا: ولأن موجبَ لِعانه إسقاط الحد عن نفسه لا إيجابَ الحد عليها، ولهذا قال النبى صلى الله عليه وسلم: ((البَيِّنَةُ وإلا حَدٌّ فى ظَهْرِكَ))، فإن موجِبَ قذفِ الزوج، كموجِب قذفِ الأجنبى وهو الحدُّ، فجعل الله سبحانه له طريقاً إلى التخلص منه باللعان، وجعل طريق إقامة الحد على المرأة أحدَ أمرين: إما أربعة شهود، أو اعتراف، أو الحَبَلُ عند من يَحُدُّ به مِن الصحابة، كعمر بن الخطاب ومن وافقه، وقد قال عمر بن الخطاب على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم: والرجمُ واجِبٌ على كفِّ من زَنَى مِن الرجال والنساء إذا كان محصَناً إذا قامَت بينةٌ، أو كان الحَبَلُ، أو الاعترافُ، وكذلك قال علىٌّ رضى الله عنه، فجعلا طريق الحدِّ ثلاثة لم يجعلا فيها اللعان.
قالوا: وأيضاً فهذه لم يتحقق زناها، فلا يجبُ عليها الحد، لأن تحقق زناها إما أن يكونُ بِلعان الزوج وحدَه، لأنه لو تحقق به، لم يسقُطْ بِلعانها الحدُّ، ولما وجب بعد ذلك حد على قاذفها، ولا يجوزُ أن يتحقق بنكُولها أيضاً، لأن الحدَّ لا يثبُت بالنكول، فإن الحدَّ يُدرأ بالشُّبهاتِ، فكيف يجب بالنكولِ، فإن النكولَ، يحتمل أن يكون لِشدة خَفَرِهَا، أو لعُقْلَةِ لِسانها، أو لِدهشها فى ذلك المقام الفاضح المخزى، أو لغير ذلك من الأسباب، فكيف يثبتُ الحدُّ الذى اعُبِرَ فى بينته من العدد ضعف ما اعتبر فى سائر الحدود، وفى إقراره أربع مرات بالسنة الصحيحة الصريحة، واعتُبِرَ فى كل من الإقرار والبينة أن يتضمَّن وصفَ الفعل والتصريح به مبالغة فى الستر، ودفعاً لإثبات الحدِّ بأبلغ الطرق وآكِدها، وتوسلاً إلى إسقاط الحدِّ بأدنى شُبهة، فكيف يجوزُ أن يقضى فيه بالنكولِ الذي هو فى نفسه شبهة لا يُقضي به فى شىء من الحدود والعقوبات البتة ولا فيما عد الأموال؟
قالوا: والشافعى رحمه الله تعالى لا يرى القضاء بالنكول فى درهم فما دونَه، ولا فى أدنى تعزير، فكيف يُقضَى به فى أعظم الأمور وأبعدِها ثبوتاً، وأسرعها سقوطاً، ولأنها لو أقرَّت بلسانها، ثم رجعت، لم يجب عليها الحدّ، فلأن لا يجب بمجرد امتناعها مِن اليمين على براءتها أولي، وإذا ظهر أنه لا تأثير لواحد منهما فى تحقق زناها، لم يجز أن يُقال بتحققه بهما لوجهين.
أحدهما: أن ما فى كل واحد منهما من الشبهة لا يزول بضم أحدهما إلى الآخر، كشهادة مائة فاسق، فإن احتمالَ نكولها لفرط حيائها، وهيبة ذلك المقام، والجمع، وشدة الخَفَرِ، وعجزها عن النطق، وعُقلة لسانها لا يزولُ بلعان الزوج ولا بنكولها.
الثانى: أن ما لا يقضى فيه باليمين المفردة لا يقضى فيه باليمين مع النكول كسائر الحقوق.
قالوا: وأما قوله تعالى: {ويَدْرَؤاْ عَنْهَا العَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ} [النور: 8]، فالعذاب ها هنا يجوز أن يُراد به الحدُّ، وأن يُرادَ به الحبسُ والعقوبةُ المطلوبة، فلا يتعين إرادة الحدِّ به، فإنَّ الدال على المطلق لا يدلُّ على المقيد إلا بدليل من خارج، وأدنى درجاتِ ذلك الاحتمال، فلا يثبتُ الحدُّ مع قيامه، وقد يُرجَّحُ هذا بما تقدم مِن قول عمر وعلى رضى الله عنهما: إن الحدَّ إنما يكون بالبينة أو الاعتراف أو الحبل.
ثم اختلف هؤلاء فيما يصنع بها إذا لم تُلاعِنْ، فقال أحمد: إذا أبت المرأة أن تلتعِنَ بعدًَ التعان الرجل، أجبرتُها عليه، وهِبْتُ أن أحْكُمَ عليها بالرجم، لأنها لو أقرت بلسانها، لم أرجمها إذا رجعت، فكيف إذا أبتِ اللعان؟ وعنه رحمه الله تعالى رواية ثانية: يخلى سبيلُها، اختارها أبو بكر، لأنها لا يجبُ عليها الحد، فيجب تخلية سبيلها، كما لو لم تكمل البينة.