فصل أدلة الموجبون للحد في اللعان
 
قال الموجبون للحدِّ: معلومٌ أن الله سبحانه وتعالى جعل التعانَ الزوج بدلاً عن الشهود، وقائماً مقامهم، بل جعل الأزواج الملتعنِينَ شهداءَ كما تقدَّم، وصرَّحَ بأن لِعانهم شهادةٌ، وأوضح ذلك بقوله: {ويَدْرَؤُاْ عَنْهَا العَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللهِ} [النور: 8]، وهذا يدلُّ على أن سببَ العذاب الدنيوى قد وُجِدَ، وأنه لا يدفعه عنها إلا لعانُها، والعذاب المدفوع عنها إلا لعانُها، والعذاب المدفوع عنها بلعنها هو المَذكُور فى قوله تعالى: {ولْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ المُؤْمِنِينَ} [النور: 2]، وهذا عذابُ الحدِّ قطعاً، فذكره مضافاً، ومعرَّفاً بلام العهد، فلا يجوزُ أن ينصرِفَ إلى عُقوبةٍ لم تُذكر فى اللفظ، ولا دلَّ عليها بوجهٍ مِن حبس أو غيره، فكيف يُخلَّى سبيلُها، ويدرأ عنها العذابُ بِغير لِعان، وهل هذا إلاَّ مخالفةٌ لِظاهر القرآن؟
قالُوا: وقد جعل اللَّهُ سبحانه لِعانَ الزوج دارئاً لحدِّ القذف عنه، وجعل لِعانَ الزوجة دارئاً لعذاب حدِّ الزِّنى عنها، فكما أن الزوج إذا لم يُلاعن يُحدُّ حَدَّ القذف، فكذلك الزوجةُ إذا لم تُلاعن يجب عليها الحدُّ.
قالُوا: وأما قولكم: إن لعانَ الزوج لو كان بيِّنة تُوجب الحدِّ عليها لم تملك هى إسقاطه باللعان، كشهادة الأجنبى.
فالجواب: أن حكم اللَّعان حُكمٌ مستقلٌ بنفسه غيرُ مردود إلى أحكام الدعاوى والبيِّنات، بل هو أصل قائم بنفسه شَرَعَه الذى شرع نظيرَه مِن الأحكام، وفصَّله الذى فصَّل الحلالَ والحرام، ولما كان لِعانُ الزوج بدلاً عن الشهود لا جَرَمَ نزل عن مرتبة البينة، فلم يستقِلَّ وحدَه بحكم البينة، وجعل للمرأة معارضته بلعان نظيره، وحينئذ فلا يظهر ترجيحُ أحد اللعانين على الآخر لنا، واللَّه يعلم أن أحدهما كاذب، فلا وجه لحد المرأة بمجردِ لِعان الزوج، فإذا مُكنت من معارضته وإتيانها بما يُبرىء ساحتها، فلم تفعل، ونكلت عن ذلك، عَمِلَ المقتضى عمَله، وانضاف إليه قرينة قوَّته وأكَّدته، وهى نكولُ المرأة وإعراضُها عما يُخلِّصها مِن العذاب، وَيَدْرَؤُه عنها. قالوا: وأما قولُكم: إنه لو شهد عليها مع ثلاثة غيره لم تُحَدَّ بهذه الشهادة، فكيف تُحدُّ بشهادته وحدَه؟ فجوابُه أنها لم تُحد بشهادة مجرَّدة، وإما حُدَّت بمجموع لِعانه خمسَ مرات، ونكولِها عن معارضته مع قدرتها عليها، فقامَ من مجموع ذلك دليل فى غاية الظهور والقوة على صحة قوله، والظنُّ المستفاد منه أقوى بكثره من الظن المستفاد من شهادة الشهود.
وأما قولُكم: إنه أحد اللعانين، فلا يُوجب حد الآخر، كما لم يُوجب لِعانُها حدَّه، فجوابه أن لِعانها إنما شرع للدفع، لا للإيجاب، كما قال تعالى:{وَيَدْرَؤُاْ عَنْهَا العَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ} [النور: 8]، فدلَّ النصُّ على أن لعانه مقتض لإيجاب الحد، ولعانها دافع ودارىء لا موجب، فقياسُ أحد اللعانينِ على الآخر جمع بين ما فرَّق الله سبحانه بينهما وهو باطل. قالُوا: وأما قولُ النبىِّ صلى الله عليه وسلم: ((البَيِّنَةُ عَلَى المُدَّعِى))، فسمعاً وطاعةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا ريبَ أن لِعان الزوجِ المذكورِ المكرر بينة، وقد انضم إليها نكولُها الجارى مجرى إقرارها عند قوم، ومجرى بينة المدعين عند آخرين، وهذا مِن أقوى البينات، ويدل عليه أن النبىَّ صلى الله عليه وسلم قال له: ((البينةُ وإلاَّ حَدٌّ فى ظهرك))، ولم يُبطل اللَّهُ سبحانه هذا، وإنما نقله عند عجزه عن بينة منفصلة تُسقط الحد عنه يعجز عن إقامتها، إلى بينة يتمكَّن مِن إقامته، ولما كانت دونها فى الرتبة مع قدرتها وتمكنها، قالوا: وأما قولُكم: إن موجب لعانه إسقاط الحد عن نفسه لا إيجابُ الحدِّ عليها إلى آخره، فإن أردتُم أن من موجبه إسقاطُ الحد عن نفسه فحق، وإن أردتُم أن سقوطَ الحدِّ عنه يسقط جميع موجبه، ولا موجب له سواه، فباطل قطعاً، فإن وقوع الفرقة، أو وجوب التفريق والتحريم المؤبَّد، أو المؤقت، ونفى الولد المصرح بنفيه، أو المكتفى فى نفيه باللعان، ووجوب العذاب على الزوجة إما عذاب الحد، أو عذاب الحبس، كُلٌّ ذلك من موجب اللعان، فلا يصح أنه يقال: إنما يوجب سقوط حد القذف عن الزوج فقط.
قالوا: وأما قولُكم: إن الصحابة جعلُوا حدَّ الزنى بأحد ثلاثة أشياء: إما البينة، أو الاعترافِ، أو الحَبَلِ، واللعانُ ليس منها، فجوابُه: أن منازعيكم يقولُون: إن كان إيجاب الحدِّ عليها باللعان خلافاً لأقوال هؤلاء الصحابة، فإن إسقاطَ الحدِّ بالحبل أدخلُ فى خلافهم وأظهر، فما الذى سوَّغ لكم إسقاطَ حدٍّ أوجبوه بالحبل، وصريح مخالفتهم، وحرَّم على منازعيكم مخالفتَهم فى إيجاب الحدِّ بغير هذه الثلاثة، مع أنهم أعذرُ منكم، لثلاثة أوجه.
أحدُها: أنهم لم يُخالفوا صريحَ قولهم، وإنما هو مخالفة لمفهومٍ سكتُوا عنه، فهو مخالفة لسكوتهم، وأنتم خالفتهم صريح أقوالهم.
الثانى: أن غاية ما خالفوه مفهومٌ قد خالفه صريحٌ عن جماعة منهم بإيجاب الحدِّ، فلم يُخالفوا ما أجمعَ عليه الصحابة، وأنتم خالفتُم منطوقاً، لا يُعْلَمُ لهم فيه مخالف البتة ها هنا، وهو إيجابُ الحدِّ بالحبل، فلا يُحفظ عن صحابى قطُّ مخالفة عمر وعلى رضى الله عنهما فى إيجاب الحد به.
الثالث: أنهم خالفوا هذا المفهومَ لمنطوق تلك الأدِلَّةِ التى تقدَّمت، ولمفهوم قوله:{ويَدْرَؤُاْ عَنْهَا العَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ} [النور: 8]، ولا ريْبَ أن هذا المفهومَ أقوى مِن مفهوم سقوط الحد بقولهم: إذا كانت البينةُ أو الحبلُ أو الاعترافُ، فهم تركوا مفهوماً لِما هو أقوى منه وأولى، هذا لو كانوا قد خالفوا الصحابة، فكيف وقولُهم موافق لأقوال الصحابة؟ فإنَّ اللعانَ مع نكولِ المرأة مِن أقوى البينات كما تقرر.
قالوا: وأما قولُكم: لَمْ يتحقق زِناها إلى آخره، فجوابُه إن أردتم بالتحقيق اليقينَ المقطوعَ به كالمحرمات، فهذا لا يُشترط فى إقامة الحد، ولو كان هذا شرطاً، لما أقيمَ الحدُّ بشهادةِ أربعة، إذ شهادتُهم لا تجعلُ الزِّنى محققاً بهذا الاعتبار. وإن أردتُم بعدم التحقق أنه مشكوكٌ فيه على السواء، بحيث لا يترجّح ثبوته، فباطل قطعاً، وإلا لما وجب عليها العذابُ المدرَأُ بلعانها، ولا ريبَ أن التحقُّقَ المستفادَ مِن لعانه المؤكد المكرَّْر مع إعراضها عن معارضة ممكنة منه أقوى من التحقق بأربع شهود، ولعل لهم غرضاً فى قذفها وهتكِها وإفسادها على زوجها، والزوجُ لا غرض له فى ذلك منها.
وقولكم: إنه لو تحقق، فإما أن يتحقق بلعانِ الزوج، أو بنكولها، أو بهما، فجوابُه: أنه تحقَّق بهما، ولا يلزم مِن عدم استقلال أحدِ الأمرين بالحدِّ وضعفه عنه عدمُ استقلالهما معاً، إذا هذا شأنُ كُلِّ مفرد لم يستقِلَّ بالحكم بنفسه، ويستقل به مع غيرِهِ لقوته به.
وأما قولُكم: عجباً للشافعىِّ كيف لا يقضى بالنكول فى درهم، ويقضى به فى إقامة حدٍ بَالَغَ الشّرعُ فى ستره، واعتبر له أكملَ بيِّنة، فهذا موضع لا يُنتصر فيه للشافعى ولا لغيره من الأئمة، وليس لِهذا وُضعَ كِتَابُنَا هذا، ولا قصدنا به نُصرَةَ أحدٍ من العالمين، وإنما قصدنا به مجرَّد هدى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فى سيرته وأقضيته وأحكامه، وما تضمَّن سوى ذلك، فتبع مقصودٌ لغيره، فهب أن من لم يقض بالنكول تناقض، فماذ يَضُرُّ ذلك هدى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وتِلْكَ شَكَاةٌ ظَاهِرٌ عنه عَارُهَا. على أن الشَّافِعىَّ رَحمَه الله تعالى لم يتناقض، فإنه فرَّق بين نكولٍ مجرد لا قولة له، وبين نُكولٍ قد قارنَه التعان مؤكَّدٌ مكرَّرٌ أُقيم فى حق الزوج مقامَ البينة مع شهادة الحال بكراهة الزوج، لزنى امرأته، وفضيحتها، وخراب بيتها، وإقامة نفسه وحِبه فى ذلك المقام العظيم بمشهد المسلمين وخراب بيتها، وإقامة نفسه وحِبه فى ذلك المقام العظيم بمشهد المسلمين يدعو على نفسه باللعنة إن كان كاذباً بعد حلفه باللَّه جَهْدَ أيمانه أربعَ مرات إنه لمن الصادقين، والشافعى رحمه الله إنما حكم بنكول قد قارنه ما هذا شأنُه، فمن أين يلزمه أن يحكم بنكول مجرد؟
قالوا: وأما قولُكم: إنها أقرَّت بالزنى ثم رجعت، لسقط عنها الحدُّ، فكيف يجِبُ بمجرَّدِ امتناعِها من اليمين؟ فجوابه: ما تقرر آنفاً.
قالوا: وأما قولُكم: إنَّ العذاب المُدْرَأَ عنها بلعانها هو عذابُ الحبس أو غيره، فجوابُه: أن العذابَ المذكورَ، إما عذابُ الدنيا، أو عذابُ الآخرة، وحملُ الآية على عذاب الآخرة باطل قطعاً، فإن لِعانها لا يدرؤه إذا وجب عليها، وإنما هو عذابُ الدنيا وهو الحدُّ قطعاً فإنه عذابُ المحدود، وهو فِداء له من عذابِ الآخرة، ولهذا شرعه سبحانه طُهرةً وفدية من ذلك العذاب، كيف وقد صرَّح به فى أول السورة بقوله: {وَليَشْهَدْ عَذَابَهُما طَائِفَةٌ مِنَ المُؤْمِنِينَ} [النور: 2]، ثم أعاده بعينه بقوله: {ويَدْرَؤُاْ عَنْهَا العَذَابَ} [النور: 8]، فهذا هو العذابُ المشهودُ مكَّنها مِن دفعه بلعانها، فأين هنا عذابُ غيره حتَّي تُفَسَّرَ الآيةُ به؟ وإذا تبيَّن هذا، فهذا هو القولُ الصحيح الذى لا نعتقِدُ سواه، ولا نرتضي إلا إياه، وباللَّه التوفيق.
فإن قيل: فلو نكل الزوج عن اللعان بعد قذفه، فما حكمُ نكولِهِ؟ قلنا: يُحَدُّ حدَّ القذفِ عند جمهور العلماءِ مِن السلف والخلف، وهو قولُ الشافعى ومالك وأحمد وأصحابهم، وخالف فى ذلك أبو حنيفة وقال: يُحبس حتى يُلاعِنَ، أو تُقِرَّ الزوجة،. وهذا الخلاف مبنى على أن موجب قذفِ الزوج لامرأته هَل هو الحد، كقذف الأجنبى، وله إسقاطه باللعان، أو موجبه اللعان نفسه؟ فالأول: قول الجمهور. والثانى: قول أبو حنيفة، واحتجُّوا عليه بعموم قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُم ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4]، وبقوله صلى الله عليه وسلم لهلال بن أمية: ((البَيِّنَةُ أَوْحَدٌّ فى ظَهْرِكَ))، وبقوله له: ((عَذَابُ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الآخرَةَ))، وهذا قاله لِهلال بن أمية قبل شروعه فى اللعان. فلو لم يجب الحدُّ بقذفه، لم يكن لهذا معنى، وبأنه قَذف حرة عفيفة يجرى بينَه وبينها القود، فَحُدَّ بقذفها كالأجنبى، وبأنه لو لاعنها، ثم أكذَبَ نفسه بعد لعنها، لوجب عليه الحدُّ، فدل على أن قذفه سببٌ لوجوب الحد عليه، وله إسقاطُه باللعان، إذ لو لم يكن سبباً لما وجب بإكذابه نفسه بعد اللعان، وأبو حنيفة يقول: قذفه لها دعوى تُوجب أحد أمرين، إما لعانه، وإما إقرارها، فإذا لم يُلاعن، حُبِسَ حتى يلاعن، إلا أن تُقِرَّ فيزول موجبُ الدعوى، وهذا بخلاف قذف الأجنبى، فإنه لا حقّ له عند المقذوفة، فكانَ قاذفاً محضاً، والجمهور يقولون: بل قذفُه جناية منه على عرضها، فكان موجبهاً الحدُّ كقذف الأجنبى، ولما كان فيها شائبةُ الدعوى عليها بإتلافها لحقه وخيانتها فيه، ملك إسقاطَ ما يُوجبه القذفُ مِن الحدِّ بلعانه، فإذا لم يُلاعِنْ مع قدرته على اللعان، وتمكنه منه، عمل مقتضى القذِف عملَه، واستقل بإيجاب الحدِّ، إذ لا معارض له، وباللَّهِ التوفيق.
فصل
ومنها: أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم إنما كان يقضى بالوحي، وبما أراه اللَّهُ، لا بما رآه هو، فإنه صلى الله عليه وسلم لم يَقْضِ بين المتلاعِنَيْن حتَّى جاءه الوحىُ، ونزل القرآن، فقال لِعويمر حينئذ: ((قد نزل فيك وفى صاحبتك، فاذهب فأْتِ بها))، وقد قال صلى الله عليه وسلم: ((لاَ يَسْأَلُنى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْ سُنَّةٍ أَحْدَثْتُهَا فِيكُم لَمْ أُومَرْ بِهَا)) وهذا فى الأقضية، والأحكام، والسنن الكلية، وأما الأمور الجزئية التى لا تَرْجِعُ إلى أحكام، كالنزول فى منزل معيَّن، وتأمير رجل معيَّن، ونحو ذلك مما هو متعلق بالمشاورةِ المأمورِ بها بقوله: {وشَاوِرْهُم فى الأَمْرِ} [آل عمران: 159] فتلك للرأى فيها مدخل، ومن هذا قولُه صلى الله عليه وسلم فى شأن تلقيح النخل: ((إِنَّمَا هُوَ رَأْىٌ رَأَيْتُه)). فهذا القِسم شىء، والأحكامُ والسننُ الكلية شىء آخر.
فصل
ومنها: أن النبىَّ صلى الله عليه وسلم أمره بأن يأتىَ بها، فتلاعنا بحضرته، فكان فى هذا بيانُ أن اللعان إنما يكونُ بحضرةِ الإمام أو نائبة، وأنه ليس لآحادِ الرعية أن يُلاعِنَ بينهما، كما أنه ليس له إقامة الحد، بل هو للإمام أو نائبه.
فصل
ومنها: أنُه يسن التلاعن بمحضر جماعةٍ من الناس يشهدُونه، فإن ابن عباس، وابن عمر، وسهل بن سعد، حضروه مع حداثة أسنانهم، فدلَّ ذلك على أنه حضره جمع كثير، فإن الصبيان إنما يحضرون مثلَ هذا الأمر تبعاً للرجال. قال سهل ابنُ سعد: فتلاعنا وأنا مع الناس عند النبى صلى الله عليه وسلم. وحكمة هذا واللَّه أعلم ، أن اللعان بنى على التغليظ مبالغةً فى الردع والزجر، وفعلُه فى الجماعة أبلغُ فى ذلك.
فصل
ومنها: أنهما يتلاعنان قياماً، وفى قصة هلال بن أمية أن النبىَّ صلى الله عليه وسلم قال له: ((قم فاشهد أربع شهادات باللَّه)).
وفى ((الصحيحين)): فى قصة المرأة، ثم قامت فشهدت، ولأنه إذا قام شاهده الحاضِرُون، فكان أبلغَ فى شهرته، وأوقعَ فى النفوس، وفيه سِر آخر، وهو أن الدعوة التى تُطلب إصابتُها إذا صادفت المدعوَّ عليه قائماً نفذت فيه، ولهذا لما دعا خُبيبٌ على المشركين حين صلبوه، أخذ أبو سفيان معاوية فأضجعَه، وكانوا يرون أن الرجل إذا لطىء بالأرض، زلَّت عنه الدعوة.
فصل
ومنها: البداءة بالرجل فى اللعان، كما بدأ اللَّهُ عز وجل ورسولُه به، فلو بدأت هى، لم يُعتدَّ بلعانها عند الجمهور، واعتدَّ به أبو حنيفة. وقد بدأ الله سبحانه فى الحدِّ بذكر المرأة فقال: {الزَّانِيَةُ والزَّانى فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2]، وفى اللعان بذكر الزوج، وهذا فى غاية المناسبة، لأن الزِنى من المرأة أقبحُ منه بالرجل، لأنها تزيد على هتكِ حقِّ الله إفسادَ فراشِ بعلها، وتعليقَ نسبٍ من غيره عليه، وفضيحةَ أهلها وأقاربها، وتعييره بإمساك البغى، وغير ذلك من مفاسد زناها، فكانت البداءة بها فى الحدّث أهمَّ، وأما اللعانُ: فالزوجُ هو الذى قذفها وعرضها للِّعان، وهتك عرضها، ورماها بالعظيمة، وفضحها عند قومها وأهلها، ولهذا يجب عليه الحدُّ إذا لم يُلاعن، فكانت البُداءة به فى اللعان أولى من البداءة بها.
فصل
( ومنها: وعظُ كلِّ واحد من المتلاعنين عند إرادة الشروع فى اللعان، فيُوعظُ ويُذكَّر، ويقال له: عذاب الدنيا أهونُ مِن عذاب الآخرة، فإذا كان عند الخامسة، أُعِيدَ ذلك عليهما، كما صحت السنة بهذا وهذا.
فصل
ومنها: أنه لا يُقبل من الرجل أقلُّ من خمس مرات، ولا من المرأة، ولا يُقبل منه إبدالُ اللعنة بالغضب والإبعاد والسُّخط، ولا منها إبدالُ الغضب باللعنة والإبعاد والسخط، بل يأتى كُلٌّ منهما بما قسم الله له من ذلك شرعاً وقدراً، وهذا أصحُّ القولين فى مذهب أحمد ومالك وغيرهما.
ومنها: أنه لا يفتقِرُ أن يزيد على الألفاظ المذكورة فى القرآن والسنة شيئاً، بل لا يُستحب ذلك، فلا يحتاج أن يقول: أشهدُ باللَّه الذى لا إله إلا هُو عالم الغيب والشهادة الذى يعلم من السر ما يعلم من العلانية، ونحو ذلك، بل يكفيه أن يقول: أشهد باللَّهِ إنى لمن الصادقين، وهى تقول: أشهد باللَّه إنَّه لمن الكاذبين، ولا يحتاجُ أن يقول: فيما رميتها به من الزنى، ولا أن تقول هى: إنه لمن الكاذبين فيما رمانى به من الزنى، ولا يُشترط أن يقول إذا ادَّعى الرؤية: رأيتُها تزنى كالمِروَدِ فى المُكْحُلَةِ، ولا أصلَ لذلك فى كتاب الله، ولا سنة رسوله، فإن الله سبحانه بعلمه وحكمته كفانا بما شرعه لنا وأمرنا به عن تكلُّف زيادة عليه.
قال صاحب ((الإفصاح)) وهو يَحْيَى بن محمد بن هبيرة فى ((إفصاحه)): مِن الفقهاء من اشترط أن يزاد بعد قوله من الصادقين: فيما رميتها به من الزنى، واشترط فى نفيها عن نفسها أن تقول: فيما رمانى به من الزنى. قال: ولا أراه يحتاج إليه، لأن الله تعالى أنزل ذلك وبينه، ولم يذكر هذا الاشتراط.
وظاهر كلام أحمد، أنه لا يشترط ذكر الزنى فى اللعان، فإن إسحاق بن منصور قال: قلت لأحمد: كيف يُلاعِنُ؟ قال: على ما فى كتاب الله يقول أربعَ مراتٍ: أشهد باللَّه إنى فيما رميتُها به لمن الصادقين، ثم يقف عند الخامسة فيقول: لعنةُ اللَّهِ عليه إن كان من الكاذبين، والمرأة مثلُ ذلك.
ففى هذا النص أنه لا يُشترط أن يقول: من الزنى، ولا تقولُه هى، ولا يُشترط أن يقولَ عند الخامسة: فيما رميتُها به، وتقول هى: فيما رمانى به، والذين اشترطوا ذلك حجتهم أن قالوا: ربما نوى: إنى لمن الصادقين فى شهادة التوحيد أو غيره مِن الخبر الصادق، ونوت: إنه لمن الكاذبين فى شأن آخر، فإذا ذكرا ما رُميت به من الزنى، انتفى هذا التأويل.
قال الآخرون: هب أنهما نويا ذلك، فإنهما لا ينتفعان بنيتهما، فإن الظالم لا ينفعُه تأويلُه، ويمينه على نية خصمه، ويمينُه بما أمر الله به إذا كان مجاهراً فيها بالباطل، والكذب موجبه عليه اللعنة أو الغضب، نوى ما ذكرتم، أو لم ينوه، فإنه لا يموّه على من يعلم السر وأخفى بمثل هذا.
فصل
ومنها: أن الحمل ينتفى بلعانه، ولا يحتاجُ أن يقول: وما هذا الحملُ منى، ولا يحتاج أن يقول: وقد استبرأتُها، هذا قول أبى بكر عبد العزيز من أصحاب أحمد، وقولُ بعضِ أصحاب مالك، وأهل الظاهر، وقال الشافعىُّ: يحتاجُ إلى ذِكر الولد، ولا تحتاجُ المرأة إلى ذِكره، وقال الخِرقى وغيرُه: يحتاجان إلى ذِكره، وقال القاضى: يشترط أن يقول: هذا الولد من زنى وليس هوَ مِنِّى. وهو قولُ الشافعى، وقول أبى بكر أصح الأقوال، وعليه تدل السنة الثابتة.
فإن قيل: فقد روى مالك، عن نافع، عن ابن عمر رضى الله عنهما، أن النبى صلى الله عليه وسلم لاعن بَيْنَ رجل وامرأته، وانتفى من ولدها، ففرَّق بينهما، وألحقَ الولدَ بالمرأةِ.
وفى حديث سهل بن سعد: وكانت حاملاً فأنكر حملَها.
وقد حكم صلى الله عليه وسلم: ((بأن الولد للفراش)) وهذه كانت فِراشاً له حال كونها حاملاً، فالولُد له، فلا ينتفى عنه إلا بنفيه.
قيل: هذا موضعُ تفصيل لا بُدَّ منه، وهو أن الحملَ إن كان سابقاً على ما رماها به، وعلم أنها زنت وهى حامل منه، فالولد له قطعاً، ولا ينتفى عنه بلعانه، ولا يَحِلُّ له أن ينفيَه عنه فى اللعان، فإنها لما علقت به، كانت فراشاً له، وكان الحملُ لاحقاً به، فزناها لا يُزيل حكم لحوقه به، وإن لم يعلم حملَها حالَ زناها الذى قد قذفها به، فهذا ينظر فيه، فإن جاءت به لأقلَّ مِن ستة أشهر من الزنى الذى رماها به، فالولُد له، ولا ينتفى عنه بلعانه، وإن ولدته لأكثر من ستة أشهر من الزنى الذى رماها به، نظر، فإما أن يكون استبرأها قبل زناها، أو لم يستبرئها، فإن كان استبرأها، انتفى الولد عنه بمجرد اللعان، سواء نفاه، أو لم ينفه، ولا بُدَّ من ذِكره عند من يشترط ذِكره، وإن لم يستبرئها، فها هنا أمكن أن يكون الولُد منه، وأن يكون من الزانى، فإن نفاه فى اللعان، انتفى، وإلا لحق به، لأنه أمكن كونُه منه ولم ينفه.
فإن قيل: فالنبىُّ صلى الله عليه وسلم قد حكم بعدَ اللعان، ونفى الولد بأنه إن جاء يُشْبِهُ الزوجَ صاحبَ الفراش فهو له، وإن جاء يُشبه الذى رميت به، فهو له، فما قولُكم فى مثل هذه الواقعة إذا لاعن امرأته وانتفى من ولدها، ثم جاء الولدُ يُشبه، هل تُلِحقُونه به بالشبه عملاً بالقافة، أو تحكمون بانقطاع نسبه منه عملاً بموجب لعانه؟ قيل: هذا مجال ضَنْكٌ، وموضع ضيِّق تجاذب أعِنَّتَه اللعانُ المقتضى لانقطاع النسب، وانتفاء الولد، وأنه يُدعى لأمه ولا يدعى لأب، والشبه الدال على ثبوت نسبه من الزواج، وأنه ابنُه، مع شهادة النبىِّ صلى الله عليه وسلم بأنها إن جاءت به على شبهه، فالولدُ له، وأنه كذب عليها، فهذا مضيق لا يتخَلَّصُ منه إلا المستبصرُ البصير بأدلة الشرع وأسراره، والخبيرُ بجمعه وفرقه الذي سافرت به هِمَّتُه إلى مطلع الأحكام، والمشكاة التى منها ظهر الحلالُ والحرامُ، والذى يظهر فى هذا، واللَّه المستعان وعليه التكلان، أن حكم اللعان قطع حكم الشبه، وصار معه بمنزلة أقوى الدليلين مع أضعفهما، فلا عبرة للشبه بعد مضى حكم اللعان فى تغيير أحكامه، والنبىُّ صلى الله عليه وسلم لم يُخِبرْ عن شأن الولد وشبهه ليغير بذلك حكم اللعان، وإنما أخبر عنه، ليتبين الصادقُ منهما من الكاذب الذي قد استوجبَ اللعنة والغضب، فهو إخبار عن أمر قدرى كونى يتبين به الصادقُ مِن الكاذب بعد تقرر الحكم الدينى، وأن الله سبحانه سيجعل فى الولد دليلاً على ذلك، ويدل عليه أنه صلى الله عليه وسلم قال ذلك بعد انتفائِه من الود، وقال: ((إن جاءت به كذا وكذا، فلا أراه إلا صدق عليها، وإن جاءت به كذا وكذا، فلا أراه إلا كذب عليها))، فجاءت به على النعتِ المكروه، فعلم أنه صَدَقَ عليها، ولم يَعْرِضْ لها، ولم يفسخ حكم اللعان، فيحكم عليها بحكم الزانية مع العلم بأنه صدق عليها، فكذلك لو جاءت به على شبه الزوج يعلم أنه كَذَبَ عليها، ولا يُغير ذلك حكم اللعان، فيحد الزوج ويلحق به الولد، فليس قوله: إن جاءت به كذا وكذا فهو الهلال بن أمية إلحاقاً له به فى الحكم، كيف وقد نفاه باللعان، وانقطع نسبُه به، كما أن قوله: وإن جاءت به كذا وكذا، فهو للذى رميت به. ليس إلحاقاً به، وجعله ابنه، وإنما هو إخبارٌ عن الواقع، وهذا كما لو حكم بأيمان القَسَامَةِ ثمَ أظهر الله سبحانه آيةً تدل على كذب الحالفين، لم ينتقض حُكْمُها بذلك، وكذا لو حكم بالبراءة مِن الدعوى بيمين، ثم أظهر الله سبحانه آية تدل على أنها يمينٌ فاجرة، لم يبطل الحكم بذلك.
فصل
ومنها: أن الرجلَ إذا قذف امرأَته بالزنى برجل بعينه، ثم لا عنها، سقطَ الحدُّ عنه لهما، ولا يحتاجُ إلى ذِكر الرجل فى لعانه، وإن لم يُلاعن، فعليه لكل واحد منهما حَدُّه، وهذا موضعٌ اختُلِفَ فيه، فقال أبو حنيفة ومالك: يُلاعن للزوجة، ويحد للأجنبى، وقال الشافعى فى أحد قوليه: يجب عليه حدٌّ واحد، ويسقط عنه الحَدُّ لهما بلعانه، وهو قولُ أحمد، والقول الثانى للشافعى: أنه يحد لِكل واحد حداً، فإن ذكر المقذوفَ فى لِعانه، سقط الحدُّ، وإن لم يذكره فعلى قولين، أحدهما: يستأنِفُ اللعان، ويذكره فيه، فإن لم يذكره، حُدَّ له. والثانى: أنه يسقط حدُّه بلعانه، كما يسقط حدُّ الزوجة.
وقال بعضُ أصحاب أحمد: القذفُ للزوجة وحدها، ولا يتعلَّق بغيرها حق المطالبة ولا الحد. وقال بعضُ أصحاب الشافعى: يجبُ الحدُّ لهما، وهل يجب حدٌّ أو حدَّانِ؟ على وجهينِ، وقال بعض أصحابه: لا يجب إلا حداً واحداً قولاً واحداً، ولا خلاف بين أصحابه أنه إذا لاعن الأجنبى فى لعانه: أنه يسقط عنه حُكمُه، وإن لم يذكره، فعلى قولين: الصحيح عندهم: أنه لا يسقط.
والذين أسقطوا حكم قذفِ الأجنبى باللعان، حجتُّهم ظاهرة وقوية جداً، فإنه صلى الله عليه وسلم لم يحد الزوج بشريك بن سحماء، وقد سماه صريحاً، وأجاب الآخرون عن هذا بجوابين: أحدهما: أن المقذوفَ كان يهودياً، ولا يجب الحدُّ بقذف الكافر. والثانى: أنه لم يُطالب به، وحدُّ القذف إنما يُقام بعد المطالبة.
وأجاب الآخرون عن هذين الجوابين، وقالوا: قولُ من قال: إنه يهودى باطل، فإنه شريك بن عبدة وأمه سحماء، وهو حليفُ الأنصار، وهو أخو البراء بن مالك لأمه. قال عبد العزيز بن بزيزة فى شرحه لأحكام عبد الحق: قد اختلفَ أهلُ العلم فى شريك بن سحماء المقذوف، فقيل: إنه كان يهودياً وهو باطل، والصحيح: أنه شريك بن عدة حليف الأنصار، وهو أخو البراء بن مالك لأمه. وأما الجواب الثانى، فهو ينقلب حُجَّةَ عليكم، لأنه لما استقرَّ عنده أنه لا حق له فى هذا القذف لم يطالِب به، ولم يتعرَّض له، وإلا كيف يسكت عن براءة عرضه، وله طريق إلى إظهارها بحدِّ قاذفة، والقوم كانُوا أشدَّ حميَّةً وأنَفَةً مِن ذلك؟ وقد تقدَّم أن اللعان أقيمَ مقام البينة للحاجة، وجعل بدلاً مِن الشهود الأربعة، ولهذا كان الصحيح أنه يُوجِبُ الحدَّ عليها إذا نكلت، فإذا كان بمنزلة الشهادة فى أحد الطرفين كان بمنزلتها فى الطرف الآخر، ومِن المحال أن تحدَّ المرأة باللعان إذا نَكَلَت، ثم يُحد القاذف حدَّ القذف وقد أقام البينة على صدق قوله، وكذلك إن جعلناه يميناً فإنها كما درأت عنه الحدَّ مِن طرف الزوجة، درأت عنه مِن طرف المقذوف، ولا فرق، لأن به حاجة إلى قذف الزانى لما أفسد عليه مِن فراشه، وربما يحتاجٌ إلى ذِكره ليستدل بشبه الولد له على صدق قاذفه، كما استدل النبىُّ صلى الله عليه وسلم على صِدق هلال بشبه الولد بشريك بن سحماء، فوجب أن يسقط حكم قذفه ما أسقط حكم قذفها، وقد قال النبى صلى الله عليه وسلم للزوج: ((البينة وإلا حدّ فى ظهرك))، ولم يقل: وإلا حَدَّانِ، هذا والمرأةُ لم تُطالِبْ بحدِّ القذف، فإن المطالبة شرطٌ فى إقامة الحدِّ، لا فى وجوبه، وهذا جواب آخر عن قولهم: إن شريكاً لم يُطالب بالحدِّ، فإن المرأةَ أيضاً لم تُطالب به، وقد قال له النبىُّ صلى الله عليه وسلم: ((البينةُ وإلا حَدُّ فى ظهرك)).
فإن قيل: فما تقولون: لو قذف أجنبية بالزنى برجل سماه؟ فقال: زنى بكِ فلان، أو زنيتِ به؟ قيل: هاهنا يجب عليه حدانِ، لأنه قاذف لكل واحد منهما، ولم يأتِ بما يُسقط موجبَ قذفه، فوجبَ عليه حكمه، إذ ليس هنا بينة بالنسبة إلى أحدهما، ولا ما يقومُ مقامَها.
فصل
ومنها: أنه إذا لاعنها وهى حامل، وانتفى مِن حملها، انتفى عنه، ولم يَحْتَجْ إلى أن يلاعن بعد وضعه كما دلت عليه السنةُ الصحيحةُ الصريحةُ، وهذا موضع اختلف فيه. فقال أبو حنيفة رحمه الله: لا يُلاعن لِنفيه حتى تَضَعَ لاحتمال أن يكون رِيحاً فَتَنْفَشَّ، ولا يكون لِلعان حينئذ معنى، وهذا هو الذى ذكره الخِرقى فى ((مختصره))، فقال: وإن نفى الحمل فى التعانه لم يَنْتَفِ عنه حتى بنفِيَه عند وضعها له ويُلاعن، وتبعه الأصحابُ على ذلك، وخالفهم أبو محمد المقدسى كما يأتى كلامُه. وقال جمهورُ أهل العلم: له أن يُلاعِنَ فى حال الحمل اعتماداً على قصة هلال بن أمية، فإنها صريحةٌ صحيحه فى اللعان حال الحمل، ونفى الولدِ فى تلك الحال، وقد قال النبى: ((إن جاءت به على صِفَةِ كذا وكَذَا، فلا أراه إلا قد صدق عليها )) الحديثَ. قال الشيخ فى ((المغنى)): وقال مالك، والشافعى، وجماعة من أهل الحجاز: يَصِحُّ نفى الحمل، وينتفى عنه، محتجين بحديثِ هلال، وأنه نفى حملها، فنفاه عنه النبىُّ صلى الله عليه وسلم، وألحقه بالأمِّ، ولا خَفَاءَ أنه كان حملاً، ولهذا قال النبىُّ صلى الله عليه وسلم: ((انظروها، فإن جَاءَتْ به كذا وكذا))، قال: ولأن الحمل مظنون بأمارات تدل عليه، ولهذا تثبت للحامل أحكامٌ تُخالف فيها الحائلَ من النفقة والفِطر فى الصيام، وتركِ إقامة الحدِّ عليها، وتأخيرِ القِصاص عنها، وغيرِ ذلك مما يطولُ ذِكُره، ويَصِحُّ استلحاقُ الحمل، فكان كالولد بعد وضعه قال: وهذا القولُ هو الصحيح، لموافقته ظواهر الأحاديث، وما خالف الحديثَ لا يُعبأ به كائناتً ما كان. وقال أبو بكر: ينتفى الولد يزوالِ الفراش، ولا يحتاجُ إلى ذِكره فى اللعان احتجاجاً بظاهر الأحاديث، حيثَ لم ينقل نفىُ الحمل، ولا تعرض لنفيه.
وأما مذهب أبى حنيفة رحمه الله، فإنه لا يَصِحُّ نفىُ الحمل واللعان عليه، فإن لاعنها حاملاً، ثم أتت بالولد، لزمه عنده، ولم يتمكن من نفيه أصلاً، لأن اللعان لا يكون إلا بين الزوجين، وهذه قد بانت بلعانها فى حال حملها.
قال المنازعون له: هذا فيه إلزامُه ولداً ليس منه، وسدُّ باب الانتفاء مِن أولاد الزنى، واللَّهُ سبحانه قد جعل له إلى ذلك طريقاً، فلا يجوز سَدُّها، قالوا: وإنما تعتبر الزوجية فى الحال التى أضاف الزنى إليها فيها، لأن الولد الذى تأتى به يلحقُه، إذا لم ينفه، فيحتاج إلى نفيه، وهذِهِ كانت زوجتَه فى تلك الحال، فملك نفىَ ولدها. وقال أبو يوسف. ومحمد: له أن ينفىَ الحمل بين الولادة إلى تمامِ أربعينَ ليلة منها. وقال عبد الملك بن الماجشُون: لا يُلاعن لنفى الحمل إلا أن ينفيَهُ ثانية بعد الولادة. وقال الشافعىُّ: إذا عَلِمَ بالحمل فأمكنه الحاكم مِن اللعان، فلم يلاعن، لم يكن له أن ينفيَهُ بعدُ.
فإن قيل: فما تقولون: لو استحلق الحملَ، وقذفها بالزنى، فقال: هذا الولدُ منى وقد زنت، ما حُكمُ هذه المسألة؟ قيل: قد اختلف العلماء فى هذه المسألة على ثلاث أقوال:
أحدها: أنه يُحَدُّ ويُلحق به الولدُ، ولا يُمكَّن من اللعان.
والثانى: أنه يُلاعن، وينتفى الولد.
والثالث: أنه يُلاعن للقذف، ويلحقه الولدُ، والثلاثة روايات عن مالِك، والمنصوص عن أحمد: أنه لا يَصِحُّ استلحاقُ الولد كما لا يصح نفيه،.قال أبو محمد: وإن استلحق الحمل، فمن قال: لا يَصِحُّ نفيه، قال: لا يصح استلحاقُه، وهو المنصوصُ عن أحمد. ومن أجاز نفيه، قال: يَصِحُّ استلحقاقُه، وهو مذهبُ الشافعى، لأنه محكومٌ بوجوده بدليل وجوب النفقة ووقف الميراث، فصح الإقرار به كالمولود، وإذا استلحقه، لم يملك نفيَه بعد ذلك، كما لو استلحقه بعد الوضع. ومن قال: لا يَصِحُّ استلحاقُه، قال: لو صح استلحاقُه، للزمه بترك نفيه كالمولود، ولا يلزمُه ذلك بالإجماع، وليس لِلشَّبَه أثرٌ فى الإلحاق، بدليل حديثِ المُلاعنة، وذلك مختص بما بعدَ الوضع، فاختص صحة الإلحاق به، فعلى هذا لو استلحقه، ثم نفاه بعد وضعه كان له ذلك، فأما إن سكت عنه، فلم ينفه، ولم يستلحقه، لم يلزمه عند أحد علمنا قولَه، لأن تركه محتمل، لأنه لا يتحقَّقُ وجودُه إلا أن يُلاعنها، فإن أبا حنيفة ألزمه الولَد على ما أسلفناه.