فصل في تفريق رسول الله صلى الله عليه و سلم بين المتلاعنين
 
وقولُ ابن عباس: ففرَّق رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بينهما، وقضي ألاَّ يُدعى ولدها لأب، ولا تُرمى، ومن رماها، أو رمى ولدها، فعليه الحدُّ، وقضى أن لا بيتَ لها عليه ولا قوت، ومن أجل أنهما يفترقان من غير طلاق ولا متوفى عنها.
وقولُ سهل: فكان ابنُها يُدعى إلى أمه، ثم جرت السنةُ أنه يرثها وترِث منه ما فرض الله لها.
وقوله: مضت السنة فى المتلاعنين أن يُفرَّقَ بينهما، ثم لا يجتمعان أبداً.
وقال الزهرى، عن سهل بن سعد: فرَّق رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بينهما، وقال: لا يجتمعان أبداً.
وقول الزوج: يا رسولَ الله، مالى؟ قال: ((لا مال لك، إن كُنْتَ صَدَقْتَ عليها، فهو بما استحللتَ مِن فرجها، وإن كنتَ كذبتَ عليها، فهو أبعدُ لك منها)).
فتضمنت هذه الجملةُ عشرةَ أحكام:
الحكم الأول: التفريقُ بين المتلاعنين، وفى ذلك خمسة مذاهب.
أحدها: أن الفرقةَ تحصلُ بمجرد القذفِ، هذا قولُ أبى عبيد، والجمهورُ خالفوه فى ذلك، ثم اختلفوا.
فقال جابر بن زيد، وعثمان البَتِّى، ومحمد بن أبى صُفرة، وطائفة من فُقهاء البصرة: لا يقع باللعان فرقةٌ البتة، وقال ابن أبى صفرة: اللعانُ لا يَقْطَعُ العِصمة، واحتجوا بأن النبىَّ صلى الله عليه وسلم لم يُنكِر عليه الطلاقَ بعد اللعانِ، بل هو أنشأ طلاقَها، ونزَّه نفسه أن يُمْسِكَ من قد اعترف بأنها زنت، أو أن يقومَ عليه دليل كذب بإمساكها، فجعل النبىُّ صلى الله عليه وسلم فِعلَه سنة، ونازع هؤلاء جمهور العلماء، وقالوا: اللعانُ يُوجِبُ الفرقة، ثم اختلفوا على ثلاثة مذاهب.
أحدها: أنها تقع بمجرد لِعان الزوج وحدَه، وإن لم تلتعِن المرأة، وهذا القولُ مما تفرَّد به الشافعى، واحتج له بأنها فُرقة حاصلة بالقول، فحصلت بقول الزوج وحدَه كالطلاق.
المذهب الثانى: أنها لا تحصلُ إلا بلعانهما جميعاً، فإذا تَمَّ لِعانهما، وقعت الفرقةُ، ولا يعتبر تفريقُ الحاكم، وهذا مذهبُ أحمد فى إحدى الروايتين عنه اختارها أبو بكر، وقولُ مالك وأهلِ الظاهر، واحتج لهذا القول بأن الشرعَ إنما ورد بالتفريق بين المتلاعنين، ولا يكونان متلاعنين بلعان الزوج وحده، وإنما فرَّق النبىُّ صلى الله عليه وسلم بينهما بعد تمامِ اللعان منهما، فالقولُ بوقوع الفرقِة قبلَه مخالفٌ لمدلولِ السنة وفعل النبى صلى الله عليه وسلم، واحتجُّوا بأن لفظ اللعان لا يقتضى فُرقة، فإنه إما أيمان على زناها، وإما شهادة به، وكلاهما لا يقتضى فُرقة، وإنما ورد الشرع بالتفريق بينهما بعد تمامِ لعانهما لِمصلحة ظاهرة، وهى أن اللَّهَ سبحانه جعل بين الزوجين مودة ورحمة، وجعل كلاً منهما سكناً للآخر، وقد زال هذا بالقذف، وأقامها مقام الخزى والعار والفضيحة، فإنه إن كان كاذباً فقد فضحها وبهتها، ورماها بالداء العُضال، ونكَّسَ رأسها ورؤوس قومها، وهتكها على رؤوس الأشهاد. وإن كانت كاذبة، فقد أفسدت فراشه، وعرَّضته للفضيحة والخزى والعار بكونه زوجَ بغى، وتعليق ولد غيره عليه، فلا يحصلُ بعد هذا بينهما مِن المودة والرحمة والسكن ما هو مطلوبٌ بالنكاح، فكان مِن محاسن شريعة الإسلام التفريقُ بينهما، والتحريمُ المؤبد على ما سنذكره، ولا يترتب هذا على بعض اللعان كما لا يترتَّبُ على بعض لعان الزوج. قالوا: ولأنه فسخ ثبت بأيمان متحالفين، فلم يثبت بأيمان أحدهما، كالفسخ لتخالف المتبايعين عند الاختلاف.
المذهب الثالث: أن الفرقةَ لا تحصُل إلا بتمام لعانهما، وتفريق الحاكم، وهذا مذهبُ أبى حنيفة، وإحدى الروايتين عن أحمد، وهى ظاهر كلام الخِرقى، فإنه قال: ومتى تلاعنا، وفرق الحاكمُ بينهما، لم يجتمعا أبداً. واحتج أصحابُ هذا القولِ بقول ابن عباس فى حديثه: ففرَّق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما. وهذا يقتضى أن الفُرقة لم تتَحصُلْ قبله، واحتجوا بأن عويمراً قال: كذبتُ عليها يا رسول الله، إن أمسكتها، فطلقها ثلاثاً قبل أن يأمُرَهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا حجةٌ مِن وجهين، أحدهما: أنه يقتضى إمكان إمساكها. والثانى: وقوع الطلاق، ولو حصلت الفرقةُ باللعان وحده، لما ثبت واحدٌ مِن الأمرين، وفى حديث سهل بن سعد: أنه طلقها ثلاثاً، فأنفذه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم. رواه أبو داود.
قال الموقعون للفُرقة بتمام اللعان بدون تفريق الحاكم: اللعان معنىً يقتضى التحريمَ المؤبَّد، كما سنذكره، فلم يقف على تفريق الحاكم كالرضاع، قالوا: ولأن الفُرقة لو وقعت على تفريقِ الحاكم، لساغ تركُ التفريق إذا كرهه الزوجان، كالتفريق بالعيب والإعسار، قالوا: وقولُه: فرَّق النبى صلى الله عليه وسلم، يحتمل أموراً ثلاثة. أحدها: إنشاء الفرقة. والثانى: الإعلامُ بها. والثالث: إلزامُه بموجبها من الفرقة الحسية.
وأما قوله: كذبت عليها إن أمسكتها، فهذا لا يدل على أن إمساكها بعد اللعان مأذون فيه شرعاً، بل هو بادر إلى فراقها، وإن كان الأمر صائراً إلى ما بادر إليه، وأما طلاقُه ثلاثةً، فما زاد الفُرقة الواقعة إلا تأكيداً، فإنها حرمت عليه تحريماً مؤبَّداً، فالطلاقُ تأكيد لهذا التحريم، وكأنه قال: لا تَحِلُّ لى بعد هذا وأما إنفاذُ الطلاقِ عليه، فتقريرٌ لموجبه من التحريم، فإنها إذا لم تَحِل له باللعان أبداً، كان الطلاقُ الثلاث تأكيداً للتحريم الواقع باللعان، فهذا معنى إنفاذه، فلما لم ينكره عليه، وأَقرَّه على التكلم به وعلى موجبه، جعل هذا إنفاذاً من النبىِّ صلى الله عليه وسلم وسهل لم يحكِ لفظَ النبىِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: وقع طلاقُك، وإنما شاهد القِصَّة، وعدمَ إنكار النبى صلى الله عليه وسلم للطلاق، فظن ذلك تنفيذاً، وهو صحيح بما ذكرنا من الاعتبار، واللَّه أعلم.
فصل
الحكم الثانى: أن فرقة اللعان فسخ، وليست بطلاقٍ، وإلى هذا ذهب الشافعىُّ وأحمد، ومن قال بقولهما، واحتجوا بأنها فرقةٌ تُوجب تحريماً مؤبَّداً، فكانت فسخاً كفُرقة الرضاع، واحتجوا بأن اللعان ليس صريحاً فى الطلاق، ولا نوى الزوجُ به الطلاَق، فلا يقع به الطلاقُ، قالوا: ولو كان اللعان صريحاً فى الطلاق، أو كناية فيه، لوقع بمجرد لعان الزوج، ولم يتوقف على لِعان المرأة، قالوا: ولأنه لو كان طلاقاً، فهو طلاق من مدخول بها بغير عوض لم ينو به الثلاث، فكأن يكون رجعياً. قالوا: ولأنَّ الطلاقَ بيد الزوج، إن شاء طلقَ، وإن شاء أمسكَ، وهذا الفسخُ حاصِل بالشرع وبغير اختياره، قالوا: وإذا ثبت بالسنة وأقوالِ الصحابة، ودلالةِ القرآن، أن فرقة الخُلع ليست بطلاقٍ، بل هى فسخ مع كونها بتراضيهما، فكيف تكونُ فرقةُ اللعانِ طلاقاً؟.
فصل
الحكم الثالث: أن هذه الفُرقة توجب تحريماً مؤبداً لا يجتمعان بعدها أبداً. قال الأوزاعى: حدثنا الزبيدى، حدثنا الزهرى، عن سهل بن سعد، فذكر قصة الملاعنين، وقال: ففرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما وقال: لا يجتمعان أبداً.
وذكر البيهقى من حديث سعيد بن جبير، عن ابن عمر، عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: المتلاعنان إذا تفرقا لا يجتمعان أبداً،.قال: وروينا عن على، وعبد الله بن عباس رضى الله عنهم، قالا: مضت السنة فى المتلاعنين أن لا يجتمعا أبداً. قال: وروى عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه أنه قال: يفرق بينهما ولا يجتمعان أبداً وإلى هذا ذهب أحمد، والشافعى ومالك، والثورىُّ، وأبو عُبيد، وأبو يوسف.
وعن أحمد رواية أخرى: أنه إن أكذب نفسه، حلَّت له، وعاد فِراشه بحاله، وهى رواية شاذة شذَّ بها حنبل عنه. قال أبو بكر: لا نعلَمُ أحداً رواها غيره، وقال صاحب ((المغنى)): وينبغى أن تُحمل هذه الرواية على ما إذا لم يُفّرق بينهما. فأما مع تفريقِ الحاكم بينهما، فلا وجهَ لبقاء النكاح بحاله.
قلت: الروايةُ مطلقة، ولا أثر لتفريقِ الحاكم فى دوام التحريم، فإن الفُرقة الواقعة بنفس اللعان أقوى من الفُرقة الحاصلة بتفريق الحاكم، فإذا كان إكذاب نفسه مؤثراً فى تلك الفُرقة القوية، رافعاً للتحريم الناشىء منها، فلأن يُؤثِّرَ فى الفُرقة التى هى دونها، ويرفعَ تحريمها أولى.
وإنما قُلنا: إن الفرقة بنفس اللعان أقوى مِن الفرقةِ بتفريق الحاكم، لأن فُرقة اللعان تستنِدُ إلى حكم الله ورسوله، وسواءٌ رضى الحاكمُ والمتلاعِنانِ التفريقَ أو أَبَوْهُ، فهى فُرقة من الشارع بغير رِضى أحدٍ منهم ولا اختياره، بخلافِ فُرقة الحاكم فإنه إنما يفرق باختياره.
وأيضاً فإن اللعان يكون قد اقتضى بنفسه التفريق لقوته وسلطانه عليه، بخلاف ما إذا توقَّف على تفريق الحاكم، فإنه لم يقو بنفسه على اقتضاء الفرقة، ولا كان له سلطانٌ عليها، وهذه الروايةُ هى مذهبُ سعيدِ بن المسيب، قال: فإن أكذب نفسَه، فهو خاطبٌ من الخُطَّاب، ومذهبُ أبى حنيفة ومحمد، وهذا على أصله اطرد، لأن فُرقة اللعان عنده طلاق. وقال سعيدُ بن جبير: إن أكذب نفسه، رُدَّت إليه ما دامت فى العدة.
والصحيح: القولُ الأوَّلُ الذى دلت عليه السنةُ الصحيحةُ الصريحةُ، وأقوالُ الصحابة رضى الله عنهم، وهو الذى تقتضيه حِكمةُ اللعان، ولا تقتضى سواه، فإن لعنة الله تعالى وغضَبه قد حَلَّ بأحدهما لا محالة، ولهذا قال النبى صلى الله عليه وسلم عند الخامسة: ((إنها الموجِبَةُ))، أى الموجبة لهذا الوعيد، ونحن لا نعلم عينَ مَنْ حلَّت به يقيناً، ففرق بينهما خشيةَ أن يكونَ هو الملعونَ الذى قد وجبت عليه لعنةُ الله وباءَ بها، فيعلُو امرأةً غيرَ ملعونه، وحِكمة الشرع تأبى هذا، كما أبت أن يَعْلُوَ الكافِرُ مسلمة والزانى عفيفةً.
فإن قيل: فهذا يوجب ألا يتزوج غيرَها لما ذكرتم بعينه؟
قيل: لا يُوجب ذلك، لأنا لم نتحقق أنه هو الملعون، وإنما تحققنا أن أحدهما كذلك، وشككنا فى عينه، فإذا اجتمعا، لزمه أحدُ الأمرين ولابد، إما هذا وإما إمساكُه ملعونةً مغضوباً عليها قد وجب عليها غضبُ الله، وباءت به، فأما إذا تزوَّجت بغيره، أو تزوَّج بغيرها، لم تتحقق هذه المفسدة فيهما.
وأيضاً فإن النفرة الحاصلة من إساءة كُلِّ واحدٍ منهما إلى صاحبه لا تزولُ أبداً، فإن الرجل إن كان صادقاً عليها، فقد أشاعَ فاحِشتها، وفضحَها على رؤوس الأشهاد، وأقامها مقام الخزى، وحقق عليها الخزى والغضب، وقطع نسب ولدها، وإن كان كاذباً، فقد أضافَ إلى ذلك بهتَها بهذه الفرية العظيمة، وإحراق قلبها بها والمرأة إن كانت صادقة فقد أكذبته على رؤوس الاشهاد، وأوجبت عليه لعنة الله. وإن كانت كاذبة، فقد أفسدت فراشه وخانته فى نفسها، وألزمته العارَ والفضيحة وأحوجتُه إلى هذا المقام المُخزى، فحصل لِكُلِّ واحدٍ منهما من صاحبه من النُّفرة والوحشة، وسوء الظن ما لا يكاد يلتئم معه شملُهما أبداً، فاقتضت حِكمة مَنْ شَرْعُهُ كُلُّه حِكْمَةٌ ومصلحةٌ وعَدْلٌ ورحمةٌ تحتُّم الفرقة بينهما، وقطع الصحبة المتمحِّضةِ مفسدة.
وأيضاً فإنه إذا كان كاذباً عليها، فلا ينبغى أن يُسلَّطَ على إمساكها مع ما صَنَعَ مِن القبيح إليها، وإن كان صادقاً، فلا ينبغى أن يُمسِكَهَا مع علمه بحالها، ويرضى لنفسه أن يكون زوجَ بغى.
فإن قيل: فما تقولون: لو كانت أمة ثم اشتراها، هل يَحِلُّ له وطؤها بملك اليمين؟ قلنا: لا تَحِلُّ له لأنه تحريم مؤبَّد، فحرمت على مشتريها كالرضاع، ولأن المطلِّق ثلاثاً إذا اشترى مطلقته لم تَحِلَّ له قبل زوج وإصابة، فهاهنا أولى، لأن هذا التحريمَ مؤبد، وتحريم الطلاق غير مؤبد.
فصل
الحكم الرابع: أنها لا يَسْقُطُ صداقُها بعد الدخول، فلا يَرجعُ به عليها، فإنه إن كان صادقاً، فقد استحلَّ من فرجها عوضَ الصداق، وإن كان كاذباً فأولى وأحرى.
فإن قيل: فما تقولون: لو وقع اللعانُ قبلَ الدخول، هل تحكمون عليه بنصف المهر، أو تقولون: يسقط جملة؟
قيل: فى ذلك قولانِ للعلماء، وهما روايتان عن أحمد مأخذهُما: أن الفُرقة إذا كانت بسبب من الزوجين كلعانهما أو منهما ومن أجنبى، كشرائها لزوجها قبل الدخول، فهل يسقط الصداقُ تغليباً لجانبها كما لو كانت مستقِلّضة بسبب الفُرقة أو نِصفُه تغليباً لجانبه، وأنه هو المشاركُ فى سبب الإسقاط، والسيد الذى باعه متسبب إلى إسقاطه ببيعه إياها؟ فهذا الأصل فيه قولان. وكُلُّ فُرقة جاءت مِن قبل الزوج نصَّفَتِ الصداق كطلاقه، إلا فسخه لِعيبها، أو فواتِ شرطٍ شَرَطَه، فإنه يسقطُ كُلُّه، وإن كان هو الذى فسخ، لأن سبب الفسخ منها وهى الحاملة له عليه. ولو كانت الفرقُة بإسلامه، فهل يسقط عنه، أو تُنصفه؟ على روايتين فوجهُ إسقاطه، أنه فعل الواجب عليه، وهى الممتنعة من فعل ما يجبُ عليها، فهى المتسببة إلى إسقاط صداقها بامتناعها من الإسلام، ووجهُ التنصيفِ أن سبب الفسخ من جهته.
فإن قيل: فما تقولون فى الخلع: هل يُنصفه أو يُسقطه؟
قيل: إن قلنا: هو طلاق نَصَّفه، وإن قلنا: هو فسخ، فقال أصحابنا: فيه وجهان. أحدهما: كذلك تغليباً لجانبه. والثانى: يسقطه لأنه لم يستقل بسبب الفسخ، وعندى، أنه إن كان مع أجنبى نصفه وجهاً واحداً، وإن كان معها، ففيه وجهان.
فإن قيل: فما تقولون: لو كانت الفُرقة بشرائه لِزوجته من سيدها: هل يُسقطه أو يُنصفه؟
قيل: فيه وجهان: أحدهما: يسقطه، لأن مستحق مهرها تسبَّب إلى إسقاطه ببيعها، والثانى: ينصِّفه لأن الزوج تسبب إليه بالشراء، وكُلُّ فرقة جاءت من قبلها كردتها، وإرضاعها من يفسَخُ إرضاعُه نِكَاحَها، وفسخها لإعسارِه أو عيبه فإنه يسقط مهرُها.
فإن قيل: فقد قلتم: إن المرأة إذا فسخت لعيب فى الزوج سقط مهرها، إذ الفُرقة من جهتها، وقلتم: إن الزوجَ إذا فسخ لِعيب فى المرأة سقط أيضاً ولم تجعلوا الفسخَ من جهته فتنصفوه، كما جعلتموه لِفسخها لعيبه من جهتها، فأسقطتموه، فما الفرق؟ قيل: الفرقُ بينهما أنه إنما بذل المهر فى مقابلة بُضع سليم من العيوب، فإذا لم يتبين كذلك، وفسخ، عاد إليها كما خرج منها، ولم يستوفه، ولا شيئاً منه، فلا يلزمه شىء من الصداق، كما أنها إذا فسخت لِعيبه لم تُسلم إليه المعقود عليه، ولا شيئاً منه، فلا تستحِقُّ عليه شيئاً من الصداق.
فصل
الحكم الخامس: أنها لا نفقةَ لها عليه ولا سكنى، كما قضى به رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وهذا موافق لحكمه فى المبتوتة التى لا رجعةَ لزوجها عليها، كما سيأتى بيانُ حكمه فى ذلك، وأنه موافقٌ لكتاب الله، لا مخالف له، بل سقوطُ النفقة والسكنى للملاعنة أولى مِن سقوطها للمبتوتة، لأن المبتوتَة له سبيلُ إلى أن ينكِحهَا فى عِدتها، وهذهِ لا سبيل له إلى نكاحها لا فى العدة ولا بعدَها، فلا وجه أصلاً لوجوب نفقتها وسُكناها، وقد انقطعت العصمةُ انقطاعاً كلياً.
فأقضيتُه صلى الله عليه وسلم يُوافِقُ بعضُها بعضاً، وكلها تُوافق كتابَ الله والميزانَ الذى أنزل ليقومَ الناسُ بالقسط، وهو القياسُ الصحيحُ، كما ستقر عينُك إن شاء الله تعالى بالوقوف عليه عن قريب
وقال مالك، والشافعي: لها السكنى. وأنكر القاضى إسماعيل بن إسحاق هذا القول إنكاراً شديداً.
وقوله: ((من أحل أنهما يتفرقان من غير طلاق، ولا متوفى عنها)) لا يدل مفهومه على أن كل مطلقة، ومتوفى عنها لها النفقةُ والسكنى، وإنما يدل على أن هاتين الفُرقتين قد يجبُ معهما نفقة وسكنى، وذلك إذا كانت المرأة حاملاً، فلها ذلك فى فرقة الطلاق اتفاقاً، وفى فرقة الموت ثلاثة أقوال، أحدها: أنه لا نفقة لها ولا سكنى، كما لو كانت حائلاً، وهذا مذهبُ أبى حنيفة وأحمد فى إحدى روايتيه، والشافعى فى أحد قوله، لزوال سبب النفقة بالموت على وجه لا يُرجى عودهُ، فلم يبق إلا نفقةُ قريب، فهى فى مال الطفل إن كان له مال، وإلا فعلى من تلزمه نفقته من أقاربه.
والثانى: أن لها النفقة والسكنى فى تركته تُقدم بها على الميراث، وهذا إحدى الروايتين عن أحمد، لأن انقطاع العصمة بالموت لا يزيد على انقطاعها بالطلاق البائن، بل انقطاعها بالطلاق أشد، ولهذا تغسلُ المرأةُ زوجَها بعد موته عند جمهور العلماء حتى المطلقة الرجعية عند أحمد ومالك فى إحدى الروايتين عنه، فإذا وجبت النفقةُ والسُّكنى للبائن الحامل، فوجوبُها للمتوفى عنها زوجها أولى وأحرى.
والثالث: أن لها السكنى دون النفقة حاملاً كانت أو حائلاً، وهذا قولُ مالك وأحدُ قولى الشافعى إجراء لها مجرى المبتوتة فى الصحة، وليس هذا موضعَ بسطِ هذه المسائل وذكر أدلتها، والتمييز بين راجحها ومرجوحها إذ المقصود أن قوله: ((من أجل أنهما يفترقان من غير طلاق ولا متوفى عنها زوجها)) إنما يدل على أن المطلقة والمتوفى عنها قد يجب لهما القوتُ والبيتُ فى الجملة، فهذا إن كان هذا الكلام مِن كلام الصحابى، والظاهر واللَّه أعلم أنهُ مُدْرَجٌ مِن قول الزهرى.
فصل
الحكم السادس: انقطاعُ نسب الولد من جهة الأب، لأن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قضى ألا يدعى ولدُها لأب، وهذا هو الحقُّ، وهو قولُ الجمهور، وهو أجلُّ فوائد اللعان، وشذ بعضُ أهل العلم، وقال: المولود للفراش لا ينفيه اللعانُ البتة، لأن النبىَّ صلى الله عليه وسلم قضى أن الولد لِلفراش، وإنما ينفى اللعانُ الحمل، فإن لم يُلاعنها حتى ولدت، لاعن لإسقاط الحد فقط، ولا ينتفى ولدُها منه، وهذا مذهبُ أبى محمد بن حزم، واحتج عليه بأن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قضى أن الولد لصاحب الفراش، قال: فصح أن كل مَنْ وُلِدَ على فراشه ولد، فهو ولدُه إلا حيثُ نفاه الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، أو حيث يوقن بلا شك أنه ليس ولده، ولم ينفه صلى الله عليه وسلم إلا وهى حامل باللعان فقط، فبقى ما عدا ذلك على لحاق النسب، قال: ولذلك قلنا: إن صدقته فى أن الحمل ليس منه، فإن تصديقها له لا يُلتفت إليه لأن الله تعالى يقول: {وَلاَ تَكْسِب كُلُّ نَفْسٍ إلاَّ عَلَيْهَا} [الأنعام: 164] فوجب أن إقرار الأبوين يصدُق على نفى الولد، فيكون كسباً على غيرهما، وإنما نفى اللَّهُ الولدَ إذا أكذبته الأمُّ، والتعنت هى والزوج فقط، فلا ينتفى فى غير هذا الموضع، انتهى كلامه.
وهذا ضد مذهبِ من يقول: إنه لا يصح اللعان على الحمل حتى تضع، كما يقول أحمد وأبو حنيفة، والصحيح: صحتُه على الحمل، وعلى الولد بعد وضعه، كما قاله مالك والشافعى، فالأقوال ثلاثة.
ولا تنافى بين هذا الحكم وبين الحكم بكون الولد للفراش بوجه ما، فإن الفراش قد زال باللعان، وإنما حكم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بأن الولدَ للفراش عند تعارض الفراش، ودعوى الزانى، فأبطل دعوى الزانى للولد وحكم به لصاحب الفراش، وهاهنا صاحبُ الفراش قد نفى الولَد عنه.
فإن قيل: فما تقولون: لو لاعن لمجرد نفى الولد مع قيام الفراش، فقال: لم تزن، ولكن ليس هذا الولدُ ولدى؟
قيل: فى ذلك قولان للشافعى، وهما روايتان منصوصتان عن أحمد.
إحداهما: أنه لا لِعان بينهما، ويلزمه الولدُ، وهى اختيار الخرقى.
والثانية: أن له أن يُلاعِنَ لنفى الولد، فينتفى عنه بلعانه وحده، وهى اختيارُ أبى البركات ابن تيمية، وهى الصحيحة.
فإن قيل: فخالفتم حكمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ((أن الولد للفراش)) قلنا: معاذ الله، بل وافقنا أحكامَه حيث وقع غيرُنا فى خلاف بعضها تأويلاً، فإنه إنما حكم بالولد للفراش حيث ادعاه صاحبُ الفراش، فرجح دعواه بالفراش، وجعله له، وحكم بنفيه عن صاحب الفراش حيث نفاه عن نفسه، وقطع نسبه منه، وقضى ألاَّ يُدعى لأب، فوافقنا الحكمين، وقلنا بالأمرين، ولم نفرق تفريقاً بارداً جداً سمجاً لا أثر لَهُ فى نفى الولد حملاً ونفيه مولوداً، فإن الشريعة لا تأتى على هذا الفرق الصُّورى الذى لا معنى تحته البتة، وإنما يرتضى هذا مَنْ قَلَّ نصيبه مِن ذوق الفقه وأسرارِ الشريعةِ وحِكمِهَا ومعانِيها، واللَّه المستعان، وبه التوفيق.
( فصل
الحكم السابع: إلحاقُ الولد بأمِّه عند انقطاع نسبه مِن جهة أبيه، وهذا الإلحاق يُفيد حكماً زائداً على إلحاقه بها مع ثبوت نسبه من الأب، وإلا كان عديمَ الفائدة فإن خروجَ الولدِ منها أمر محقق، فلابد فى الإلحاق من أمر زائد عليه، وعلى ما كان حاصلاً مع ثبوتِ النسب من الأب، وقد اختُلفَ فى ذلك.
فقالت طائفة: أفادَ هذا الإلحاق قطعَ توهمِ انقطاعِ نسبِ الولد من الأم، كما انقطعَ مِن الأب، وأنه لا يُنسب إلى أمِّ، ولا إلى أبٍ، فقطع النبىُّ صلى الله عليه وسلم هذا الوَهم وألحق بالأم، وأكَّدَ هذا بإِيجابه الحدَّ على من قذفه أو قذفَ أمه، وهذا قول الشافعى ومالك، وأبى حنيفة، وكُل من لا يرى أن أمه وعصباتها له.
وقالت طائفة ثانية: بل أفادنا هذا الإلحاق فائدةً زائدة، وهى تحويلُ النسب الذى كان إلى أبيه إلى أمه، وجعل أمَّه قائمةً مقام أبيه فى ذلك، فهى عصبتُه وعصباتُها أيضاً عصبته، فإذا مات، حازَت ميراثَهُ، وهذا قولُ ابن مسعود، ويُروى عن على، وهذا القولُ هو الصواب، لما روى أهل السنن الأربعة، من حديث واثلة بن الأسقع، عن النبىِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((تَحُوزُ المَرْأَةُ ثَلاثَةَ مَوَارِيثَ: عَتِيقها، ولَقِيطَها، وَوَلَدَها الَّذى لاَعَنَتْ عَلَيْهِ))، ورواه الإمام أحمد وذهب إليه.
وروى أبو داود فى ((سننه)): من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده عن النبىِّ صلى الله عليه وسلم، أنه جعل مِيرَاثَ ابن المُلاَعَنَةِ لأمَّه ولِورثِتهَا مِنْ بَعْدِهَا.
وفى السنن أيضاً مرسلاً: من حديث مكحول، قال: جعلَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ميراثَ ابنِ المُلاَعَنَةِ لأُمِّه ولوِرثِتها مِنْ بَعْدِهَا.
وهذه الآثارُ موافقة لمحضِ القياس، فإن النسَب فى الأصل للأب، فإذا انقطع مِن جهته صار للأم، كما أن الولاء فى الأصل لمعتق الأب، فإذا كان الأب رقيقاً كان لمعتق الأم. فلو أعتق الأبُ بعد هذا، انجز الولاءُ مِن موالى الأم إليه، ورجع إلى أصله، وهو نظيرُ ما إذا كذب الملاعن نفسه، واستلحق الولد، رجع النسبُ والتعصيب من الأم وعصبتها إليه. فهذا محضُ القياس، وموجبُ الأحاديث والآثار، وهو مذهبُ حَبْرِ الأمة وعالمِها عبد اللَّهِ بن مسعود، ومذهبُ إمامى أهل الأرض فى زمانهما، أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه، وعليه يَدُلُّ القرآن بألطف إِيماء وأحسنه، فإن الله سبحانه جعل عيسى مِن ذرية إبراهيم بواسطة مريم أمِّه، وهَى مِن صَميم ذرية إبراهيم، وسيأتى مزيدُ تقرير لهذا عند ذكر أقضيةِ النبىِّ صلى الله عليه وسلم وأحكامه فى الفرائض إن شاء الله تعالى.
فإن قيل: فما تصنعون بقوله فى حديث سهل الذى رواه مسلم فى ((صحيحه)) فى قصة اللعان: وفى آخره: ثم جرت السنةُ أن يِرَثَ مِنْهَا وتَرِثَ منه ما فرضَ الله لها؟ قيل: نتلقاه بالقبول والتسليم والقول بموجبه، وإن أمكن أن يكون مدرجاً من كلام ابن شهاب وهو الظاهِرُ، فإن تعصيبَ الأم لا يُسقط ما فرض الله لها من ولدها فى كتابه، وغايتُها أن تكونَ كالأب حيث يجتمع له الفرض والتعصيب، فهى تأخذ فرضها ولابُدَّ فإن فصل شىءٌ أخذته بالتعصيب، وإلا فازت بفرضها، فنحن قائلون بالآثار كُلِّها فى هذا الباب بحمد الله وتوفيقه.
فصل
الحكمُ الثامن: ((أنها لا تُرمى ولا يُرمى ولدُها، ومَنْ رماها أو رَمَى ولَدَها، فعليه الحَدُّ)) وهذا لأن لِعانها نفى عنها تحقيقَ ما رُمِيَتْ به، فيُحدُّ قاذِفُها وقاذِفُ ولدها، هذا الذى دلَّت عليهِ السّنةُ الصحيحةُ الصريحةُ، وهو قولُ جمهور الأمة، وقال أبو حنيفة: إن لم يكن هناك ولد نُفِىَ نسبُه، حُدَّ قاذفها، وإن كان هناك ولد نُفى نسبه، لم يُحَدَّ قاذفها، والحديثُ إنما هو فيمن لها ولد نفاه الزوجُ، والذى أوجب له هذا الفرقَ أنه متى نَفَى نسب ولدها، فقد حكم بزناها بالنسبة إلى الولد فأثر ذلك شبهةً فى سقُوط حدِّ القذف.
فصل
الحكم التاسع: أن هذه الأحكام إنما ترتبت على لِعانهما معاً، وبعد أن تَمَّ اللعانانِ، فلا يترتب شىء منها على لِعان الزوج وحده، وقد خرَّج أبو البركات ابن تيمية على هذا المذهب انتفاء الولد بلعان الزوج وحدَه، وهو تخريجٌ صحيح، فإن لِعانه كما أفاد سقوطَ الحد وعارَ القذف عنه مِن غير اعتبار لعانها، أفاد سقوطَ النسب الفاسد عنه، وإن لم تُلاعن هى، بطريق الأولى، فإنَّ تضرره بدخول النسب الفاسِد عليه أعظمُ مِن تضرره بحدِّ القذف، وحاجته إلى نفيه عنه أشدُّ مِن حاجته إلى دفعِ الحد، فلِعانه كما استقلَّ بدفعِ الحد استقلَّ بنفى الولد، واللَّه أعلم.
فصل
الحكم العاشِرُ: وجوبُ النفقة والسكنى للمطلقة والمتوفَّى عنها إذا كانتا حامِلَين فإنه قال: ((من أجل أنهما يفترقان عن غير طلاق ولا متوفى عنها))، فأفاد ذلك أمريْنِ، أحدهما: سقوطُ نفقة البائن وسكناها إذا لم تكن حامِلاً مِن الزوج. والثانى: وجوبهُما لها، وللمتوفَّى عنها إِذا كانتا حاملَين من الزوج.
فصل
وقولُه صلى الله عليه وسلم: ((أَبْصِروُها فَإِنْ جَاءَت بِهِ كَذا وكذا، فَهُوَ لِهِلالِ بن أُميَّة، وإِنْ جَاءَتْ بِهِ كَذا وكَذا فهُو لِشَرِيكِ بن سَحْمَاء))، إِرشادٌ منه صلى الله عليه وسلم إلى اعتبارِ الحُكْم بالقَافَةِ، وأَنّ لِلشَّبَهِ مدخلاً فى معرفة النسب، وإلحاقِ الولد بمنزلة الشبه، وإنما لم يُلحق بالملاعن لو قُدِّر أن الشبهَ له، لمعارضة اللعان الذى هو أقوى مِن الشبه له كما تقدم.