فصل في قوله صلى الله عليه و سلم : لَوْ أنّ رجلاً وَجَدَ مع امرأتِهِ رجلاً يقتُلُه فتقتُلُونه به |
وقوله فى الحديث: ((لَوْ أنّ رجلاً وَجَدَ مع امرأتِهِ رجلاً يقتُلُه فتقتُلُونه به)) دليل على أن من قتل رجلاً فى داره، وادَّعى أنه وجده مع امرأتِه أو حريِمه، قتل فيه ولا يُقبل قوله، إذ لو قُبِلَ قولُه، لأُهدِرَتِ الدماءُ، وكان كل من أراد قتلَ رجل أدخله دارَه، وادعى أنه وجده مع امرأته.
ولكن هاهنا مسألتان يجب التفريقُ بينهما. إحداهما: هل يسعه فيما بينه وبين الله تعالى أن يقتُلَه، أم لا؟ والثانية: هل يُقبل قوله فى ظاهر الحكم أم لا؟ وبهذا التفريق يزولُ الإِشكالُ فيما نُقلَ عن الصحابة رضى الله عنهم فى ذلك، حتى جعلها بعض العلماء مسألَة نزاع بين الصحابة، وقالوا: مذهب عمر رضى الله عنه: أنه لا يُقتل به، ومذهب على: أنه يُقتل به، والذى غره ما رواه سعيدُ بن منصور فى ((سننه))، أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه بينا هو يوماً يتغدى، إذ جاءه رجلٌ يعدو وفى يده سيف ملطخ بدم، ووراءه قوم يعدون، فجاء حتى جلسَ مع عمر، فجاء الآخرون، فقالوا يا أميرَ المؤمنين: إن هذا قتل صاحبنا، فقال له عمر رضى الله عنه: ما تقول؟ فقال له: يا أميرَ المؤمنين، إنى ضربت بين فخذى امرأتى، فإن كان بينَهما أحد فقد قتلتُه، فقال عمر ما تقولون؟ فقالوا: يا أمير المؤمنين، إنه ضرَب بالسَّيْفِ، فوقع فى وسط الرجل وفخذى المرأة، فأخذ عمرُ رضى الله عنه سيفَه فهزّه، ثم دفعه إليه، وقال: إن عادوا، فعد. فهذا ما نُقِل عن عُمر رضى الله عنه. وأما على، فسُئِلَ عمن وَجَدَ مع امرأته رجلاً فقتله، فقال: إن لم يأتِ بأربعةِ شُهداء، فليُعْطَ بِرُمَّتِهِ، فظن أن هذا خلافُ المنقول عن عمر، فجعلها مسألةَ خلافٍ بينَ الصحابة، وأنتَ إِذا تأملتَ حُكميهما، لم تَجِدْ بينهما اختلافاً، فإن عمر إنما أسقط عنه القودَ لما اعترف الولىُّ بأنه كان مع امرأته، وقد قال أصحابنا واللفظ لصاحب ((المغنى)): فإن اعترفَ الولىُّ بذلك، فلا قِصاصَ ولا دِية، لما رُوى عن عمر، ثم ساق القِصة، وكلامه يُعطى أنه لا فرق بين أن يكون محصناً وغيرَ محصن، وكذلك حكمُ عمر فى هذا القتيل، وقولُه أيضاً: ((فإن عادوا فعد)) ولم يفرق بين المحصَن وغيره، وهذا هو الصوابُ، وإن كان صاحب ((المستوعب)) قد قال: وإن وجد مع امرأته رجلاً ينال منها ما يُوجب الرجم، فقتله، وادّعى أنه قتله لأجل ذلك، فعليه القصاصُ فى ظاهر الحكم، إلاَّ أن يأتىَ بينِّة بدعواه، فلا يلزمه القصاصُ، قال: وفى عدد البينة روايتان، إحداهما: شاهدان، اختارها أبو بكر لأن البينة على الوجود لا على الزنى، والأخرى لا يُقبل أقلُّ مِن أربعة، والصحيح أن البينة متى قامت بذلك، أو أقرَّ به الولىُّ، سقط القصاص محصناً كان أو غيره وعليه يدل كلام على، فإنه قال فيمن وجد مع امرأته رجلاً فقتله: إن لم يأت بأربعة شهداء فليُعْطَ بِرُمَّتِهِ)) وهذا لأن هذا القتل ليس بحد للزنى، ولو كان حداً لما كان بالسيف ولاعتُبِرَ له شروطُ إقامة الحد وكيفيته، وإنما هو عقوبةٌ لمن تعدَّى عليه، وهتك حريمَه، وأفسد أهلَه، وكذلك فعل الزبير رضى الله عنه لما تخلف عن الجيش ومعه جارية له، فأتاه رجلان فقالا: أعطنا شيئاً، فأعطاهما طعاماً كان معه، فقالا: خلِّ عن الجارية، فضربهما بسيفه فقطعهما بضربة واحدة وكذلك من اطَّلَعَ فى بيت قومٍ من ثُقب، أو شق فى الباب بغير إذنهم، فنظر حرمة أو عورة، فلهم خذفه وطعنه فى عينه، فإن انقلعت عينُه، فلا ضَمان عليهم. قال القاضى أبو يعلى: هذا ظاهرُ كلام أحمد أنهم يدفعونه، ولا ضمان عليهم من غير تفصيل. وفصل ابن حامد فقال: يدفعه بالأسهل، فيبدأ بقوله: انصرف واذهب، وإلا نفعل بك كذا. قلت: وليس فى كلام أحمد، ولا فى السنة الصحيحة ما يقتضى هذا التفصيلَ بل الأحاديث الصحيحة تدل على خلافه، فإن فى ((الصحيحين)) عن أنس، أن رجلاً أطلع مِن جُحر في بعض حُجر النبى صلى الله عليه وسلم، فقام إليه بمِشْقًص أو بمشَاقِص، وجعل يَخْتِلُه ليطْعُنَه، فأين الدفعُ بالأسهل وهو صلى الله عليه وسلم يختِلُه، أو يختبىء له، ويختفى لِيَطْعُنَه. وفى ((الصحيحين)) أيضاً: من حديث سهل بن سعد، أن رجلاً اطلع فى جُحْر فى باب النبىّ صلى الله عليه وسلم، وفى يد النبىِّ صلى الله عليه وسلم مِدْرَىً يَحُكُّ بِهِ رَأْسَه، فلمَّا رآهُ قال: ((لَوْ أَعْلَمُ أَنَّكَ تنظُرنى لَطَعَنْتُ به فى عَيْنِك، إِنَّمَا جُعِلَ الإذْنُ مِنْ أَجْلِ البَصَر)). وفيهما أيضاً: عن أبى هُريرة رضى الله عنه، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((لَوْ أَنَّ امْرءاً اطَّلَعَ عَلَيْكَ بِغَيْرِ إِذْنٍ، فَخَذَفْتَهُ بِحَصَاةٍ، فَفَقَأْتَ عَيْنَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْكَ جُنَاحٌ)). وفيهما أيضاً: ((مَنْ اطَّلَعَ فى بَيْتِ قَوْمٍ بِغَيْرِ إِذْنِهِمْ، فَفَقؤوا عَيْنَهُ فَلاَ دِيَةَ لَهُ وَلاَ قِصَاصَ)). وهذا اختيارُ شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وقال: ليس هذا مِن بابِ دفعِ الصائل، بل مِن باب عقوبةِ المعتدى المؤذى، وعلى هذا فيجوزُ له فيما بينَه وبين الله تعالى قتلُ من اعتدى على حريمِه، سواء كان محصَناً أو غيرَ محصن، معروفاً بذلك أو غيرَ معروف، كما دل عليه كلام الأصحاب، وفتاوى الصحابة، وقد قال الشافعى وأبو ثور: يسعُه قتلُه فيما بينه وبين الله تعالى إذا كان الزانى محصناً، جعلاه من باب الحدود. وقال أحمد وإسحاق: يُهدَرُ دمُه إذا جاء بشاهدين ولم يُفصِّلا بين المحصن وغيره. واخْتلّفَ قولُ مالك في هذه المسألة، فقال ابنُ حبيب: إن كان المقتولُ محصناً، وأقام الزوجُ البينة، فلا شىء عليه، وإلا قُتِل به، وقال ابنُ القاسم: إذا قامت البينةُ فالمحصَنُ وغيرُ المحصَنِ سواء، ويُهدر دمه، واستحب ابنُ القاسم الديةَ فى غير المحصَن. فإن قيل: فما تقولون فى الحديث المتفق على صحته، عن أبى هريرة رضى الله عنه، أن سعد بن عبادة رضى الله عنه قال: يا رسولَ الله: أرأيتَ الرجلَ يَجِدُ مع امرأته رجلاً أيقتُلُه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا))، فقال سَعْدٌ: بَلَى والَّذِى بَعَثَكَ بالحَقِّ، فقال رسولِ الله صلى الله عليه وسلم: ((اسْمَعُوا إلى مَا يَقُولُ سًيِّدُكُم)). وفى اللفظ الآخر: ((إِنْ وَجَدْتُ مَعَ امرأتِى رَجُلاً أُمْهِلُهُ حَتَّى آتى بأَرْبَعَةِ شُهَدَاء؟ قال: ((نعم)) قال: والَّذى بَعَثَكَ بالحَقِّ إِنْ كُنْتُ لأُعَاجِلُهُ بالسَّيْفِ قَبْلَ ذلِكَ، قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((اسْمَعُوا إِلى مَا يَقُولُ سَيِّدُكُم إِنَّهُ لَغَيُورٌ وأَنَا أَغْيَرُ مِنْهُ، واللَّهُ أَغْيَرُ مِنِّى؟)). قلنا:نتلقاه بالقبول والتسليم، والقول بموجبه، وآخِرُ الحديث دليل على أنه لو قتله لم يُقد به، لأنه قال: بلى والذى أكرمَكَ بالحق، ولو وجب عليه القصاصُ بقتله، لما أقره على هذا الحلف، ولما أثنى على غَيْرَته، ولقال: لو قتلَته قُتِلتَ به وحديث أبى هريرة صريحٌ فى هذا، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أَتَعْجَبُونَ مِنْ غَيْرَة سَعْدٍ فَوَاللَّهِ لأَنَا أَغْيَرُ مِنْهُ واللَّهُ أَغْيَرُ مِنِّى))، ولم ينكر عليه، ولا نهاه عن قِتله لأن قولَه صلى الله عليه وسلم حُكم ملزم، وكذلكَ فتواه حكم عام للأمة، فلو أذن له فى قتله، لكان ذلك حكماً منه بأن دمه هدرٌ فى ظاهر الشرع وباطنه، ووقعت المفسدةُ التى درأها اللَّهُ بالقِصاص، وتهالك الناس فى قتل من يريدون قتله فى دورهم، ويدَّعونَ أنهم كانُوا يَرَوْنَهُم على حريمهم، فسدَّ الذَّرِيعَةَ، وحَمى المفسدَة، وصان الدماء، وفى ذلك دليل على أنه يُقبل القاتل، ويُقاد به فى ظاهر الشرع، فلما حلف سعد أنه يقتلُه ولا ينتظر به الشهود، عَجِبَ النبىُّ صلى الله عليه وسلم من غَيْرَتِه، وأخبر أنه غَيُورٌ، وأنه صلى الله عليه وسلم أغيرُ منه، واللَّهُ أشدُّ غَيرةً، وهذا يحتمِلُ معنيين. أحدهما: إقراره وسكوُته على ما حلف عليه سعدٌ أنه جائز له فيما بينَه وبَيْنَ اللَّهِ، ونهيه عن قتله فى ظاهر الشرع، ولا يناقض أولُ الحديث آخِرَه. والثانى: أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال ذلك كالمنكِرِ على سعد، فقال: ((أَلاَ تَسْمَعُونَ إلى مَا يَقُولُ سَيِّدُكُم)) يعنى: أنا أنهاه عن قتلِه وهو يقُول: بلى، والذى أكرمك بالحق، ثم أخبر عن الحامل له على هذه المخالفة، وأنه شِدَّةُ غَيْرَتِه، ثم قال: أنا أغيرُ مِنْهُ، واللَّه أغيرُ منى. وقد شرع إِقامة الشهداء الأربعة مع شِدَّةِ غيرته سبحانه، فهى مقرونةٌ بحكمة ومصلحة، ورحمة وإحسان، فاللَّه سبحانه مع شدّة غَيرته أعلم بمصالح عباده، وما شرعه لهم من إقامة الشهود الأربعة دون المبادرة إلى القتل، وأنا أغيرُ من سعد، وقد نهيته عن قتله، وقد يُريد رسولُ الله صلى الله عليه وسلم كلا الأمرين، وهو الأليقُ بكلامه وسياق القصة. |