فصل في قضاؤه صلى الله عليه و سلم بالولد لأمه ما لم تنكح
 
وقضاؤه صلى الله عليه وسلم بالولد لأمه، وقوله((أنْتِ أحَقُ بِهِ ما لَم تَنْكِحي))، لا يُستفاد منه عمومُ القضاء لكل أمٍّ حتّى يقضِي به للأم. وإن كانت كافرة، أو رقيقة، أو فاسقة، أو مسافِرة، فلا يَصحُّ الاحتجاج به على ذلك، ولا نفيُه، فإذا دلّ دليلٌ منفصِلٌ على اعتبار الإِسلام والحرية والديانة والإِقامة، لم يكن ذلك تخصيصاً ولا مخالفة لِظاهر الحديث.
وقد اشترط في الحاضن ستة شروط:
اتفاقهما في الدِّين، فلا حضانة لكافر على مسلم لوجهين.
أحدهما: أن الحاضن حريصٌ على تربيةِ الطفل على دينه، وأن ينشأَ عليه، ويتربَّى عليه، فيصعبُ بعد كِبره وعقله انتقاله عنه، وقد يُغيره عن فطرة اللّه التي فطر عليها عبادَه، فلا يُراجعها أبداً، كما قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم ((كُلُّ مَوْلُود يولَدُ عَلى الفِطرَةِ فَأَبَواه يَهَوِّدَانِهِ أو يُنَصِّرَانِهِ، أو يُمَجِّسَانِه)) فلا يُؤمن تهويدُ الحاضن وتنصيرُه للطفل المسلم.
فإن قيل: الحديثُ إنما جاء في الأبوين خاصة. قيل:الحديث خرجَ مخرج الغالِب إذ الغالب المعتادُ نشوء الطفل بين أبويه، فإن فُقِدَ الأبوانِ أو أحدُهما قامَ ولي الطفل مِن أقاربه مقامهما.
الوجه الثاني:أن اللّهَ سبحانه قطعَ الموالاة بين المسلمين والكفار، وجعلَ المسلمين بعضهم أولياءَ بعض، والكفارَ بعضَهم مِن بعض، والحضانةُ مِن أقوى أسباب الموالاة التي قطعها اللّه بين الفريقين. وقال أهلُ الرأي، وابنُ القاسم، وأبو ثور: تثبتُ الحضانة لها مع كُفرها وإسلام الولد، واحتجُّوا بما روى النسائي في سننه، من حديث عبد الحميد بن جعفر عن أبيه، عن جدِّه رافع بن سنان، أنه أسلم وأبت امرأتُه أن تُسلم، فأتت النبيَّ صلى الله عليه وسلم،فقالت: ابنتي وهي فطيمٌ أو يشبهُه، وقال رافع: ابنتي، فقال النبيُ صلى الله عليه وسلم ((اقْعُدْ ناحِيَةً))، وقال لها:((اقْعُدِي نَاحِيَةً))،وقال لهما((ادْعُواها))، فمالت الصبيةُ إلى أمها، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم،((اللهم إهدها)) فمالت إلى أبيها فأخذها
قالوا: ولأن الحضانة لأمرين: الرضاعِ، وخدمةِ الطفل، وكلاهما يجوزُ من الكافرة.
قال الآخرون: هذا الحديثُ مِن رواية عبد الحميد بن جعفر بن عبد اللّه بن الحكم بن رافع بن سنان الأنصاري الأوسي، وقد ضعفه إمامُ العلل يحيى بن سعيد القطان، وكان سفيان الثوري يَحمِلُ عليه، وضعف ابنُ المنذر الحديث، وضعفه غيرُه، وقد اضطرب في القصة، فروَى أن المخيَّر كان بنتاً، وروَى أنه كان ابناً. وقال الشيخ في ((المغنى))وأما الحديث، فقد روي على غير هذا الوجه، ولا يثبته أهل النقل. وفي إسناده مقال، قاله ابن المنذر..
ثم إن الحديث قد يحتج به على صحة مذهب من اشترط الإِسلام، فإن الصبيَّة لما مالت إلى أمها دعا النبي صلى الله عليه وسلم لها بالهداية، فمالت إلى أبيها، وهذا يدل على أن كونَها مع الكافر خلافُ هُدى اللّه الذي أرادهُ مِن عبادِه، ولو استنكر جعلها مع أمها، لكان فيه حجة، بل أبطله اللّه سبحانه بدعوة رسوله.
ومن العجب أنهم يقولون:لا حضانةَ للفاسقِ، فأيَُّ فِسق أكبر مِن الكفر؟ وأينَ الضّررُ المتوقع من الفاسق بنشوء الطفل على طريقته إلى الضرر المتوقَّع من الكافر، مع أن الصوابَ أنه لا تشترط العدالة في الحاضن قطعاً، وإن شرطها أصحاب أحمد والشافعي وغيرهم، واشتراطها في غاية البعد.

ولو اشترط في الحاضن العدالة لضاع أطفال العالم، ولعظمت المشقة على الأمة، واشتد العنتُ، ولم يزل من حين قام الإِسلام إلى أن تقومَ الساعة أطفال الفساق بينهم لا يتعرض لهم أحدٌ في الدنيا، مع كونهم الأكثرين. ومتى وقع في الإِسلام انتزاع الطفل من أبويه أو أحدهما بفسقه؟ وهذا في الحرج والعسر -واستمرارُ العمل المتصل في سائر الأمصار والأعصار على خلافه بمنزلة اشتراط العدالة في ولاية النكاح، فإنه دائمُ الوقوع في الأمصار والأعصار، والقرى والبوادي، مع أن أكثر الأولياء الذين يلون ذلك، فساق، ولم يزل الفسقُ في الناس، ولم يمنع النبيِ صلى الله عليه وسلم، ولا أحدٌ من الصحابة فاسقاً من تربية ابنه وحضانته له، ولا مِن تزويجه مولِّيته، والعادةُ شاهدة بأن الرجل ولو كان من الفساق، فإنه يحتاط لابنته، ولا يُضيعها، ويحرص على الخير لها بجهده، وإن قُدِّرَ خلاف ذلك، فهو قليل بالنسبة إلى المعتاد، والشارع يكتفي في ذلك بالباعث الطبيعي، ولو كان الفاسق مسلوبَ الحضانة، وولاية النكاح، لكان بيانُ هذا للأمة من أهم الأمور، واعتناء الأمة بنقله، وتوارث العملِ به مقدّماً على كثير مما نقلوه، وتوارثوا العمل به، فكيف يجوز عليهم تضييعُه واتصالُ العمل بخلافه. ولو كان الفِسق !ينافي الحضانة، لكان من زنى أو شرب خمراً، أو أتى كبيرةً، فرق بينه وبين أولاده الصغار، والتمِسَ لهم غيره واللّه أعلم.
نعم، العقل مشترط في الحضانة، فلا حضَانة لمجنون ولا معتوه ولا طفل، لأن هؤلاء يحتاجون إلى من يحضنُهم ويكفُلُهم، فكيف يكونون كافلين لغيرِهم.
وأما اشتراطُ الحرية، فلا ينتهِضُ عليه دليلٌ يَركَنُ القلب إليه، وقد اشترطه أصحابُ الأئمه الثلاثة. وقال مالك في حُرٍّ له ولد مِن أمة:إن الأم أحقُ به إلا أن تباع، فتنتقل، فيكون الأب أحق بها، وهذا هو الصحيح، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال ((لا تُوَلَّهُ والدَةٌ عن وَلِدِهَا)) ,وقال ((مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الوالدة وَوَلَدِهَا، فَرقَ اللّهُ بَيْنَهُ وبَيْنَ أحِبَّتِهِ يَوْمَ القِيامَةِ)) وقد قالوا: لا يجوزُ التفريقُ في البيع بين الأمِّ وولدها الصغير فكيف يُفرِّقون بينهما في الحضانة؟ وعمومُ الأحاديث تمنعُ مِن التفريق مطلقاً في الحضانة والبيع، واستدلاَلُهم بكون منافِعها مملوكةً للسيد، فهي مستغرِقَة في خدمته، فلا تَفرُغُ لِحَضانةِ الولد ممنوع، بل حَقُّ الحَضانةِ لها، تُقدَّم به في أوقات حاجة الولد على حقِّ السيد، كما في البيع سواء. وأما اشتراطُ خلوها من النكاح، فقد تقدم.
وهاهنا مسألة ينبغي التنبيهُ عليها وهي أنا إذا أسقطنا حقَّها مِن الحضانة بالنكاح، ونقلناها إلى غيرها فاتُّفِق أنه لم يكن له سِواها، لم يَسقُطْ حقُها من الحضانة، وهي أحقُّ به من الأجنبي الذي يدفعه القاضي إليه، وتربيته في حجر أمه ورأيه أصلحُ مِن تربيته في بيتِ أجنبي محض لا قرابة بينهما توجِب شفقته ورحمته وحنُوّه، ومنَ المحالِ أن تأتيَ الشريعة بدفع مفسدة بمفسدة أعظمَ منها بكثير، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم لم يحكم حكماً عاماً كلياً: أن كل امرأة تزوجت سقطت حضانتُها في جمِيع الأحوال حتى يكونَ إثباتُ الحضانة للأم في هذه الحالة مخالفة للنص.
وأما اتحاد الدار، فإن كان سفرُ أحدهما لحاجة، ثم يعود والآخر مقيم، فهو أحقُّ به، لأن السفر بالولد الطفل ولا سيما إن كان رضيعاً إضرارٌ به وتضييعٌ له، هكذا أطلقوه، ولم يستثنوا سفرَ الحج من غيره، وإن كان أحدهما منتقلاً عن بلد الآخر للإِقامة، والبلدُ وطريقُه مخوفان، أو أحدهُما، فالمقيمُ أحقُّ، وإن كان هو وطريقُه آمنين، ففيه قولانِ، وهما روايتان عن أحمد، إحداهما أن الحضانةَ للأب ليتمكن من تربية الولد وتأديبه وتعليمِه، وهو قولُ مالك والشافعي، وقضى به شريح. والثانية: أن الأم أحقُّ. وفيها قول ثالث: أن المنتقل إن كان هو الأب، فالأمُّ أحقُّ به، وإن كان الأم، فإن انتقلت إلى البلد الذي كان فيه أصلُ النكاح فهي أحقُّ به، وإن انتقلت إلى غيره، فالأبُ أحق، وهو قول الحنفية.وحكوا عن أبي حنيفة رواية أخرى أن نقلها إن كان من بلد إلى قرية، فالأبُ أحق، وإن كان من بلدٍ إلى بلد، فهي أحق، وهذه أقوالٌ كُلها كما ترى لا يقوم عليها دليلٌ يسكن القلبُ إليه، فالصوابُ النظر والاحتياط للطفل في الأصلح له والأنفع مِن الإِقامة أو النقلة، فأيُّهما كان أنفعَ له وأصونَ وأحفظَ، روعي، ولا تأثيرَ لإِقامة ولا نقلة، هذا كلُّهُ ما لم يُرِدْ أحدُهما بالنقلة مضارةَ الآَخر، وانتزاعَ الولد منه. فإن أراد ذلك، لم يُجب إليه، واللّه الموفق.
فصل
وقوله ((أنتِ أحق به ما لم تَنكحي))، قيل: فيه إضمارٌ تقديره: ما لم تنكحي، ويدخلْ بك الزوج، ويحكم الحاكم بسقوط الحضانة. وهذا تعسف بعيد لا يُشعرُ به اللفظ، ولا يدل عليه بوجه، ولا هو من دلالة الاقتضاء التي تتوقف صحةُ المعنى عليها، والدخولُ داخل في قوله((تنكحي))، عند من اعتبره، فهو كقوله((حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهً))، ومن لم يعتبره، فالمراد بالنكاح عنده العقد.
وأما حكمُ الحاكم بسقوط الحضانة، فذاك إنما يحتاجُ إليه عند التنازع والخصومة بين المتنازعين، فيكون منفذاً لِحكم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، لا أن رسولَ اللّه صلى الله عليه وسلم أوقفَ سقوطَ الحضانة على حكمه، بل قد حكم هو بسقوطها، حَكَمَ به الحُكَّام بعده أو لم يحكمُوا. والذي دل عليه هذا الحكمُ النبوي، أن الأمَّ أحقُّ بالطفل ما لم يُوجد منها النكاحُ، فإذا نكحت، زال ذلك الاستحقاقُ، وانتقل الحقُّ إلى غيرها. فأما إذا طلبه من له الحق، وجب على خصمه أن يبذله له، فإن امتنع، أجبره الحاكمُ عليه، وإن أسقط حقَّه، أو لم يطالب به، بقي على ما كان عليه أولاً، فهذه قاعدة عامة مستفادَة من غير هذا الحديث.