فصل بيان بطلان المطاعن المتعلقة بحديث فاطمة بنت قيس رضي الله عنها
 
ونحن نبين ما في كل واحد من هذه الأمور الأربعة بحول اللّه وقوته، هذا مع أن في بعضها مِن الانقطاع، وفي بعضها مِن الضعف، وفي بعضها من البُطلان ما سَنُنَبهُ عليه، وبعضُها صحيح عمن نسب إليه بلا شك.
فأما المطعنُ الأول: وهو كونُ الراوي امرأة، فمطعن باطلٌ بلا شك، والعلماء قاطبة على خلافة، والمحتجُّ بهذا من أتباع الأئمة أوَّلُ مبطل له ومخالف له، فإنهم لا يختلفون في أن السننَ تُؤخذ عن المرأة كما تُؤخذ عن الرجل، هذا وكم مِن سنة تلقاها الأئمة بالقبولِ عن امرأة واحدة من الصحابة، وهذه مسانيد نساءِ الصحابة بأيدي الناس لا تشاءُ أن ترى فيها سنةً تفرَّدت بها امرأةّ منهن إلا رأيتَها، فما ذنبُ فاطمةَ بنتِ قيس دون نساء العالمين، وقد أخذ الناس بحديث فُريعة بنت مالِك بن سنان أختِ أبي سعيد في اعتدادِ المتوفَّى عنها في بيت زوجها وليست فاطمةُ بدونها علماً وجلالةً وثقةً وأمانةً، بل هي أفقهُ منها بلا شك، فإن فُريعة لا تُعرف إلا في هذا الخبر وأما شهرةُ فاطمة، ودعاؤها من نازعها مِن الصحابة إلى كتاب اللّه، ومناظرتها على ذلك، فأمر مشهور، وكانت أسعدَ بهذه المناظرة ممن خالفها كما مضى تقريرُه، وقد كان الصحابة رضي اللّه عنهم يختلِفونَ في الشيء، فتروي لهم إحدى أمهات المؤمنين عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم شيئاً، فيأخذون به، ويرجعون إليه، ويتركون ما عندهم له، وإنما فُضِّلْنَ على فاطمة بنت قيس بكونهن أزواجَ رسولِ اللّه صلى الله عليه وسلم، وإلا فهي مِن المهاجرات الأول، وقد رضيها رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم لِحِبِّه وابنِ حِبِّه أسامة بن زيد، وكان الذي خطبها له. وإذا شئتَ أن تعرف مقدارَ حفظها وعلمها، فاعرفه مِن حديث الدَّجَالِ الطويلِ الذي حدث به رسول اللّه صلى الله عليه وسلم على المنبر، فوعته فاطمةُ وحفظته، وأدته كما سمعته، ولم ينكره عليها أحد مع طوله وغرابته، فكيف بقصة جرت لها وهي سببها، وخاصمت فيها، وحكم فيها بكلمتين: وهى لا نفقة ولا سكنى، والعادة تُوجبُ حفظ مثل هذا وذكره، واحتمال النسيان فيه أمر مشترك بينها وبين من أنكر عليها، فهذا عمرُ قد نسي تيمُّمَ الجنب، وذكرهُ عمار بن ياسر أمر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لهما بالتيمم من الجنابة،فلم يذكره عمر رضي اللّه عنه، وأقام على أن الجنب لا يصلي حتى يجد الماء.
ونسي قولَه تعالى: {وإِنْ أَرَدْتُم استِبْدَالَ زَوجٍ مَكَانَ زَوجٍ وَآْتيتُم إحْدَاهن قِنْطَاراً فَلاَ تَأخُذُوا مِنهُ شَيئا} [النساء: 20].
حتى ذكَّرته به امرأَة، فرجعَ إلى قولها.ونسي قوله: {إنَّكَ ميِّتٌ وَإنَّهُمْ مَيّتونَ} [الزمر: 30] حتى ذُكر بهِ، فإن كان جوازُ النسيان على الراوي يُوجب سقوطَ روايته، سقطت روايةُ عمر التي عارضتم بها خبر فاطمة، وإن كان لا يُوجب سقوطَ روايته، بطلت المعارضةُ بذلك، فهي باطلة على التقديرين، ولو رُدَّتِ السُّننُ بمثل هذا، لم يبق بأيدي الأمة منها إلا اليسير، ثم كيف يُعارِضُ خَبر فاطمة، ويَطْعَنُ فيهِ بمثل هذا مَنْ يرى قبولَ خبرِ الواحد العدل، ولا يشترطُ للرواية نِصاباً، وعمر رضي اللّه عنه أصابه في مثل هذا ما أصابه في رد خبر أبي موسى في الاستئذان حتى شهد له أبو سعيد، وردَّ خبرَ المغيرة بنِ شُعبة في إملاصِ المرأةِ حتى شَهِدَ له مُحمَّدُ بن مسلمة، وهذا كان تثبيتاً منه رضي اللّه عنه حتى لا يركب الناس الصَّعبَ والذَّلُولَ في الرواية عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، وإلا فقد قَبِلَ خبرَ الضحاك بن سفيان الكلابي وحده وهو أعرابي، وقبل لعائشة رضي اللّه عنها عدةَ أخبار تفرَّدت بها، وبالجملة، فلا يقول أحد: إنه لا يقبل قولُ الراوي الثقة العدل حتى يشهد له شاهدان لا سيما إن كان من ا لصحابة.
فصل
وأما المطعن الثاني: وهو أن روايتها مخالفة للقرآن، فنجيب بجوابين: مجملٍ، ومفصلٍ، أما المُجمل: فنقولُ: لو كانت مخالفة كما ذكرتم، لكانت
مخالفةً لعمومه،فتكون تخصيصاً للعام، فحكمُها حكمُ تخصيص قوله: {يُوصِيكُم اللهُ في أَوْلاَدِكُم} [النساء: 11]، بالكافر، والرقيق، والقاتل، وتخصيصِ قولِه:{وأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذلِكُم} [النساء: 24] بتحريم الجمعِ بينَ المرأة وعمتها، وبينها وبين خالتها ونظائره، فإن القرآنَ لم يخُصَّ البائن بأنها لا تَخْرُج ولا تُخْرَجُ، وبأنها تسكن من حيث يسكنُ زوجها، بل إما أن يَعُمَّها ويَعُمَّ الرجعية، وإما أن يخُصَّ الرجعيةَ.
فإن عمَّ النوعينِ، فالحديثُ مخصِّصٌ لعمومه، وإن خص الرجعيات وهو الصواب للسياق الذي مَنْ تدبَّره وتأمله قطع بأنه في الرجعيات من عدة أوجه قد أشرنا إليها، فالحديث ليس مخالفاً لكتاب اللّه، بل موافق له، ولو ذُكِّرَ أميرُ المؤمنين رضي اللّه عنه بذلك، لكان أوَّل راجع إليه، فإن الرجل كما يذهَلُ عن النص يذهَلُ عن دخول الواقعة المعينة تحتَ النصِّ العام واندراجِه تحتها، فهذا كثيرٌ جداً، والتفطُنُ له من الفهم الذي يُؤتيه اللّه مَنْ يشاء من عباده، ولقد كان أمير المؤمنين عمر رضي اللّه عنه مِن ذلك بالمنزلة التي لا تُجهل، ولا تستغرقها عبارةٌ، غيرَ أن الغسيان والذُّهولَ عُرضةٌ للإِنسان، وإنما الفاضلُ العالمُ من إذا ذُكِّرَ ذَكَرَ وَرَجَعَ.
فحديثُ فاطمة رضي اللّه عنها مع كتاب اللّه على ثلاثة أطباق لا يخرُج عن واحد منها، إما أن يكون تخصيصاً لعامه. الثاني: أن يكون بياناَ لما لم يتناوله، بل سكت عنه. الثالث: أن يكون بياناً لما أريد به وموافِقاً لما أرشد إليه سياقه وتعليله وتنبيهه، وهذا هو الصوابُ، فهو إذن موافق له لا مخالف، وهكذا ينبغي قطعاً، ومعاذَ اللّهِ أن يحكم رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم بما يُخالف كتاب اللّه تعالى أو يعارضه، وقد أنكر الإمام أحمد رحمه اللّه هذا مِن قول عمر رضي اللّه عنه، وجعل يتبسَّمُ ويقول: أين في كتاب اللّه إيجاب السكنى والنفقة للمطلقة ثلاثاً، وأنكرته قبله الفقيهة الفاضلة فاطمة، وقالت: بيني وبينكم كتابُ اللّه، قال اللّه تعالى: {لا تَدْرِي لَعَلَّ الله يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِك أَمْراً} [الطلاق: 1] وأي أمر يحدث بعد الثلاث، وقد تقدم أن قوله: {فإِذَا بَلَغْنَ أجَلَهُنَّ فَأمْسِكُوهُنَّ} [الطلاق: 2]، يشهد بأن الآيات كلها في الرجعيات.
فصل
وأما المطعن الثالث: وهو أن خروجها لم يكن إلا لِفحش من لسانها، فما أبردَه من تأويل وأسمجَه، فإن المرأة مِن خيار الصحابةِ رضي اللّه عنهم وفُضلائهم، ومِن المهاجرات الأول، وممن لا يحملها رِقّةُ الدين وقلة التقوىَ على فُحش يُوجب إخراجَها من دارها، وأن يمنع حقها الذي جعله اللّه لها، ونهى عن إضاعته، فيا عجباً! كيف لم يُنْكِرْ عليها النبيُّ صلى الله عليه وسلم هذا الفُحْشَ؟ ويقول لها: اتقي اللّه، وكُفِّي لسانَك عن أذى أهل زوجك، واستقري في مسكنكِ؟ وكَيفَ يَعْدِلُ عن هذا إلى قوله: ((لا نفقة لك ولا سكنى))، إلى قوله: ((إنَّمَا السُّكنَى والنَّفَقةُ لِلمَرْأَةِ إذا كَانَ لِزَوْجِهَا عَلَيْهَا رَجْعَةٌ؟!)) فيا عجباً! كيف يُترك هذا المانع الصريح الذي خرج من بين شفتي النبي صلى الله عليه وسلم، ويُعلَّل بأَمرٍ موهوم لم يعلل به رسول اللّه صلى الله عليه وسلم،البتة ولا أشار إليه، ولا نبه عليه؟ هذا من المحال البيَن. ثم لو كانت فاحشة اللسان وقد أعاذها اللّهُ من ذلك، لقال لها النبيُّ صلى الله عليه وسلم، وسمعت وأطاعتْ: كفي لِسانَك حتى تنقضيَ عِدَّتُكِ، وكان من دونها يسمع ويطيع لئلا تخرج من سكنه.
فصل
وأما المطعنُ الرابع: وهو معارضةُ روايتِها برواية عمر رضي اللّه عنه، فهذه المعارضةُ تُورد مِن وجهين. أحدهما: قوله: لا نَدَعُ كتابَ ربنا وسنةَ نبينَا،؟أن هذا مِن حكم المرفوع. الثاني: قوله: سمعتُ رسولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يقول: ((لَهَا السُّكْنَى والنَّفَقَةُ)). ونحن نقول: قد أعاذ اللّه أميرَ المؤمنين مِن هذا الكلام الباطل الذي لا يَصِحُّ عنه أبداً. قال الإِمام أحمد: لا يَصِحُّ ذلك عن عمر. وقال أبو الحسن الدارقطني:
بل السنةُ بيد فاطمة بنت قيس قطعاً، ومن له إلمام بسنة رسولِ اللّه صلى الله عليه وسلم يشهدُ شهادة اللّه أنه لم يكن عند عمر رضي اللّه عنه سنة عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أن للمطلقة ثلاثاً، السكنى والنفقة، وعمر كان أتقى للّه، وأحرصَ في تبليغ سننِ رسولِ اللّه صلى الله عليه وسلم في أن تكونَ هذه السنةُ عنده، ثم لايرويها أصلاً، ولا تبينها ولا يُبلغها عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم.
وأما حديثُ حماد بن سلمة عن حماد بن أبي سليمان، عن إبراهيم، عن عمر رضي اللّه عنه، رسولَ اللّه صلى الله عليه وسلم يقول: ((لَهَا السُّكْنَى والنَّفَقَةُ))، فنحن نشهَدُ باللّهِ شهادةً نُسألُ عنها إذا لقيناه، أن هذا كذبٌ على عُمَرَ رضي اللّه عنه، وكذب على رسولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم، وينبغي أن لا يَحمِلَ الإِنسانَ فرطُ الانتصارِ للمذاهب والتعصب لها على معارضةِ سننِ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم الصحيحةِ الصريحةِ بالكذب البحت، فلو يكونُ هذا عند عمر رضي اللّه عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، لخرستَ فاطمة وذووها، ولم يَنْبِسوا بكلمة، ولا دَعَتْ فاطمة إلى المناظرة، ولا احتِيجَ إلى ذكر إخراجها لبَذاء لسانها، ولما فات هذا الحديث أئمةَ الحديثِ والمصنفين في السنن والأحكام المنتصرين للسنن فقط لا لِمذهب، ولا لرجل، هذا قبل أن نَصِلَ به إلى إبراهيم، ولو قدر؟وصولُنا بالحديث إلى إبراهيم لا نقطع نخَاعُهُ، فإن إبراهيم لم يُولد إلا بعد موت عمر رضي اللّه عنه بسنين، فإن كان مخبرٌ أخبر به إبراهيم عن عمر رضي اللّه عنه، وحسنَّا به الظن، كان قد روى له قول عمر رضي اللّه عنه بالمعنى، وظنَّ أن رسولَ اللّه صلى الله عليه وسلم هو الذي حكم بثبوت النفقة والسكنى للمطلقة، حتى قال عمُر رضي اللّه عنه: لا ندع كتابَ ربنا لِقول امرأة، فقد يكون الرجل صالحاً ويكون مغفَّلاً، ليس تَحمُّلُ الحديثِ وحفظُه وروايتُه مِن شأنِهِ، وباللّهِ التوفيق.
وقد تناظر في هذه المسألة ميمونُ بن مهران، وسعيدُ بن المسيِّب، فذكر له ميمون خبر فاطمة، فقال سعيد: تلك امرأة فتنتِ الناسَ، فقال له ميمون: لئن كانت إنما أخذت بما أفتاها به رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم ما فَتَنَتِ الناسَ، وإن لنا في رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أسوةً حسنة، مع أنها أحرمُ الناس عليه ليس لها عليه رجعة، ولا بينهما ميراث. انتهى.
ولا يعلم أحدٌ من الفقهاء رحمهم اللّه إلا وقد احتجَّ بحديث فاطمة بنت قيس هذا، وأخذ به في بعض الأحكام كمالك، والشافعي. وجمهورُ الأمة يحتجون به في سقوط نفقة المبتوتة إذا كانت حائلاً، والشافعي نفسُه احتج به على جواز جمع الثلاث، لأن في بعض، ألفاظه: فطلقني ثلاثاً، وقد بيَّنا أنه إنما طلقها آخرَ ثلاثٍ كما أخبرت به عن نفسها. واحتجَّ به من يرى جوازَ نظر المرأة إلى الرجال، واحتج به الأئمة كُلُّهُم على، جوازِ خِطبة الرجل على خِطبة أخيه إذا لم تكن المرأةُ قد سكنت إلى الخاطب الأول، واحتجوا به على جواز بيان ما في الرجل إذا كان على وجه النصيحةِ لمن استشاره أن يزوِّجه، أو يُعامِلَه، أو تسافِرَ معه، وأن ذلك ليس بغيبة، واحتجوا به على جواز نكاحِ القرشية من غير القرشي، واحتجوا به على وقوعِ الطلاق في حال غيبة أحدِ الزوجين عن الآخر، وأنه لا يُشترط حضورُه ومواجهتُه به، واحتجوا به على جواز التعريض بخطبة المعتدة البائن، وكانت هذه الأحكامُ كُلُها حاصلةً ببركة روايتها، وصدقِ حديثها، فاستنْبَطَتْها الأمةُ منها، وعملت بها، فما بالُ روايتها ترد في حكم واحدٍ من أحكام هذا الحديث، وتُقبل فيما عداه؟! فإن كانت حفظته، قبلت في جميعه، وإن لم تكن حفظته وجب أن لا يقبل في شيِء من أحكامه وباللّه التوفيق.