الجواب عن قول من قال، بأن قوله تعالى : أسكنوهن من حيث سكنتم ... ، إنما هو من البوائن لا من الرجعيات
 
فإن قيل: بقي عليكم شيء واحد، وهو أن قوله سبحانه: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُم مِنْ وُجْدِكُم} [الطلاق: 6]، إنما هو في البوائن لا في الرجعيات، بدليل قوله عقيبه: {ولا تُضارُوهُنَ لِتُضَيِّقوا عَلَيْهِن وَإِنْ كُن أولاتِ حَمْلٍ فَأنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَى يَضَعْنَ حَملَهُنَ} [الطلاق: 6]، فهذا في البائن، إذ لو كانت رجعية، لما قيد النفقة عليها بالحمل، ولكان عديم التأثير، فإنها تستحِقُها حائلاً كانت أو حاملاً، والظاهر: أن الضمير في ((أسكنوهن)) هو، والضمير في قوله: {وإنْ كُنَ أولاتِ حَمْل فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَ}، واحد.
فالجواب: أن مُوْرِدَ هذا السؤالِ إما أن يكونَ من الموجبين النفقةَ
والسكنى، أو ممن يُوجب السُّكنى دون النفقة، فإن كان الأولُ، فالآيةُ على زعمه حجة عليه، لأنه سبحانه شرط في إيجاب النفقة عليهن كونهن حواملَ، والحكم المعلَّق على الشرط ينتفي عند انتفائه، فدل على أن البائنَ الحائلَ لا نفقة لها.
فإن قيل: فهذه دلالة على المفهوم، ولا يقولُ بها.
قيل: ليس ذلك مِن دلالة المفهوم، بل مِن انتفاء الحكم عند انتفاء شرطه، فلو بقي الحكم بعد انتفائه، لم يكن شرطاً، وإن كان فمن يُوجب السكنى وحدها فيقال له: ليس في الآية ضمير واحد يخصُّ البائن، بل ضمائرها نوعان: نوع يخص الرجعية قطعاً، كقوله: {فَإذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهنَّ بمَعْروفٍ} [الطلاق: 2] ونوع يحَتمِلُ أن يكون للبائن، وأن يَكون للرجعيةِ، وأن يَكون لهما، وهو قوله: {لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ} [الطلاق: 1]، وقوله: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حيثُ سكنتُمْ مِنْ وجْدِكُم} [الطلاق: 6] فحمله على الرجعية هو المتعين لِتتحد الضمائرُ ومفسرها، وهو خلافُ الأصل، والحمل على الأصل أولى.
فإن قيل: فما الفائدة في تخصيص، نفقة الرجعية بكونها حاملاً؟
قيل: ليس في الآَية ما يقتضي أنه، لا نفقة للرجعية الحائل، بل الرجعيةُ نوعان، قد بيَّن اللّهُ حكمهما في كتابه: حائل، فلها النفقة بعقد الزوجية، إذ حكمُها حكم الأزواج، أو حامل، فلها النفقة بهذه الآية إلى أن تضع حملها، فتصير النفقهُ بعد الوضع نفقةَ قريب لا نفقة زوج، فيخالف حالها قبل الوضع حالها بعده، فإن الزوج يُنفق عليها وحدَه إذا كانت حاملاً، فإذا وضعت، صارت نفقتها على من تجِبُ عليه نفقة الطفل، ولا يكون حالها في حال حملها كذلك، بحيث تجب نفقتُها على من تجب عليه نفقة الطفل، فإنه في حال حملها جزء من أجزائها، فإذا انفصل، كان له حكم آخر، وانتقلت النفقةُ مِن حكم إلى حكم، فظهرت فائدة التقييد وسر الاشتراط واللّه أعلم بما أراد من كلامه.
ذكر حكم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم الموافق لكتاب الله تعالى من وجوب النفقة للأقارب
روى أبو داود في ((سننه)): عن كليب بن منفعة، عن جده، أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول اللّه ! من أبَرُّ؟ قال ((أُمَّك وأَبَاكَ وأُخْتَكَ وَأَخَاكَ وَمَوْلاَكَ الَّذِي يَلي ذاك، حَقّ وَاجِب ورَحِمٌ مَوْصُولَةٌ))
وروى النسائي عن طارِق المحاربي قال: قدمتُ المدينة، فإذا رسولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قائمٌ على المنبر يخطُب،الناسَ وهو يقول: ((يَدُ المُعْطي العُلْيَا، وَابْدَأ بِمَنْ تَعُولُ: أُمَّكَ وَأَبَاكَ، وَأُخْتَكَ وأَخَاكَ، ثُمَّ أَدْنَاكَ أَدْنَاكَ))
وفي ((الصحيحين)): عن أبي هُريرة رضي اللّه عنه قال: جاء رجلٌ إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسولَ اللّهِ ! من أحقُّ الناسِ بحُسن صَحَابتي؟ قال ((أُمُكَّ))، قال: ثم من؟ قال: ((أُمُّكَ))، قال: ثم من؟ قال: ((أُمُّكَ))، قال: ثم من؟ قال: ((أَبُوكَ ثُمَ أَدْنَاكَ أَدْنَاكَ)).
وفي الترمذي، عن معاوية القُشيري رضي اللّه عنه، قال: قلت: يا رسولَ اللّه ! مَنْ أَبَرُ؟ قال: ((أُمَّكَ))، قلتُ: ثم مَنْ؟ قال: ((أُمَّكَ))، قلت: ثم من؟ قال: ((أُمَّك))، قلت: ثم مَن؟ قال: ((أَبَاكَ ثُمَّ الأَقْرَبَ فَالأَقرَبَ)).
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لِهند: ((خُذي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَك بِالمَعْرُوفِ)).
وفي ((سنن أبي داود))، من حديث عمرو بن شعيبٍ، عن أبيه، عن جدِّه، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إنَّ أَطْيَبَ مَا أَكَلْتم مِنْ كَسْبِكُمْ، وإِنَّ أَوْلاَدَكُمْ مِنْ كَسبِكُم فَكُلُوهُ هنيئاً)). ورواه أيضاً من حديث،عائشة رضي الله عنها مرفوعاً.
وروى النسائي من حديث جابر بن عبد اللّه، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ((ابْدَأْ بِنَفْسِكَ فَتصَدَّقْ عَلَيْهَا فَإِنْ فَضَلَ شَيءٌ، فَلأهْلِكَ، فَإنْ فَضَلَ عَنْ أَهْلِكَ شَيءٌ، فَلِذِي قَرَابَتِكَ، فَإنْ فَضَلَ عَنْ ذِي قَرَابتكَ، فهكَذَا وهكَذَا)).
وهذا كله تفسير لقوله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وبِالوَالِدَينِ إحْسَاناً وبذِي القُرْبَى} [النساء: 36] وقوله تعالى: {وآتِ ذا القُرْبى حَقَّهُ} [الإسراء: 26] فجعل سبحانه حق ذى القربى يلي حق الوالدين، كما جعله النبيُّ صلى الله عليه وسلم سواءً بسواء، وأخبر سبحانه؟ أن لذي القربى حقاً على قرابته، وأمر بإتيانه إياه، فإن لم يكن ذلك حقَّ النفقةِ، فلا نَدْرِي أيَّ حقٍّ هُوَ. وأمر تعالى بالإِحسان إلى ذي القربى. ومن أعظم الإِساءَةَ أن يراه، يموت جوعاً وعُرْياً، وهو قادر على سد خَلَّته وستر عَوْرَتِهِ، ولا يطعمه لُقمة، ولا يَسْتُر له عَوْرَة إلا بأن يقرضه ذلك في ذِمَّتِهِ، وهذَا الحكم من، النبيِّ صلى الله عليه وسلم مطابق لكتاب اللّه تعالى حيث يقول: {وَالوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَولَيْنِ كامِلَيْنِ لِمنَ أَرَادَ أَنْ يتُمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى المَوْلُودِ لَهُ رِزْقهنَّ وكِسْوَتُهُنَّ بِالمَعْرُوفِ لا نكَلِّفُ نَفْسٌ إلاَّ وُسْعَهَا لاَ تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِها وَلاَ مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدهِ وَعَلَى الوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة: 233] فأوجب سبحانه وتعالى على الوارثِ مثل ما أوجب على المولود له، وبمثلِ هذا الحكم حكم أميرُ المؤمنين عمرُ بنُ الخطاب رضي اللّه عنه. فروى سفيان بن عُيَيْةً، عن ابن جريج، عن عمرو بن شعيب، عن سعيد بن المسِّيب، أن عمر رضي الله عنه حَبَسَ عَصَبَةَ صبيٍّ على أن يُنْفقوا عليه، الرجال دون النِّساء. وقال عبد الرزاق: حدثنا ابن جريج، أخبرني عمرو بن شعيب، أن ابن المسيِّب أخبره، أن عمرَ بنَ الخطاب رضي اللّه عنه، وقف بني عم على مَنْفُوسٍ كَلالة بالنفقة عليه مثل العاقلة، فقالوا: لا مال له، فقال: ولَوْ، وقوفُهم بالنفقة عليه كهيئة العقل، قال ابن المديني: قوله: ولو، أي: ولو لم يكن له مال. وذكر ابن أبي شيبة، عن أبي خالد الأحمر، عن حجاج، عن عمرو، عن سعيد بن المسيب، قال: جاء ولي يتيم إلى عمرَ بنِ الخطَّاب رضي الله عنه، فقال: أَنْفِق عليه، ثم قال: لو لم أجدْ إلا أقصى عشيرته لَفَرَضْتُ عليهم. وحكم بمثل ذلك أيضاً زيدُ بن ثابت.
قال ابن أبي شيبة: حدثنا حميد بن عبد الرحمن، عن حسن، عن مطرف،عن إسماعيل، عن الحسن، عن زيد بن ثابت، قال: إذا كان أُمّ وَعَمّ، فعلى الأم بقدر مِيراثها، وعلى العم بقدر مِيراثه، ولا يعرفُ لعمر، وزيد مخالف في الصحابة البتَّةَ.
وقال ابن جريج: قلت لعطاء: {وعَلَى الوَارِثِ مِثْلُ ذلِكَ} [البقرة: 233]، قال: على ورثة اليتيم أن ينفقوا عليه كما يرثونه. قلت له: أيحْبسُ وارث المولود إن لم يكن للمولود مال؟ قال: أفيدعُه يموت؟ وقال الحسن: {وعَلى الوَارِثِ مِثْلُ ذلِكَ} [البقرة: 233] قال: على الرجلِ الذي يَرِثُ أن ينفق عليه حتى يستغنيَ. وبهذا فسَّرَ الآية جمهورُ السلف، منهم: قتادة، ومجاهد، والضحاك، وزيدُ بن أسلم، وشريح القاضي، وقَبِيصةُ بنُ ذؤيب، وعبدُ اللّه بن عتبة بن مسعود، وإبراهيم النخعي، والشعبي، وأصحابُ ابن مسعود، ومن بعدهم: سفيان الثوري، وعبد الرزاق، وأبو حنيفة وأصحابه، ومن بعدهم: أحمد، وإسحاق، وداود و أصحابهم.
وقد اختلف الفقهاء في حكم هذه المسألة على عدة أقوال.
أحدُها أنه لا يُجْبَرُ أحدٌ على نفقةِ أحدٍ من أقاربه، وإنما ذلك بِرٌ وصِلَة، وهذا مذهب يُعَزى إلى الشعبي. قال عبدُ بنُ حميدٍ الكَشِّي: حدثنا قَبِيصةُ، عن سفيان الثوري، عن أشعث، عن الشعبى، قال: ما رأيت أحداً أجبرَ أحداً على أحدٍ، يعني على نفقته. وفي إثبات هذا المذهب بهذا الكلام نظر، والشعبي أفقه من هذا، والظاهر أنه أراد: أن الناسَ كانوا أتقى للّه من أن يحتاج الغنيُّ أن يجبرَهُ الحاكم على الإِنفاق على قريبه المحتاج، فكان الناس يكتفون بإيجاب الشرع عن إيجاب الحاكم أو إجباره.
المذهب الثاني: انه يجب عليه النفقةُ على أبيه الأدنى، وأمِّه التي ولدته خاصة، فهذان الأبوان يجبر الذكر والأنثى من الولد على النفقة عليهما إذا كانا فقيرين، فأما نفقةُ الأولادِ، فالرجل يُجْبرُ على نفقة ابنهِ الأدنى حتى يبلغ فقط، وعلى نفقة بنته الدنيا حتى تُزَوَّجَ، ولا يجبر على نفقة ابن ابنه، ولا بنت ابنه وإن سفلا، ولا تُجْبرُ الأُمُ على نفقة ابنها وابنتها ولو كانا في غاية الحاجة والأم في غاية الغنى، ولا تجب على أحد النفقةُ على ابن ابن، ولا جدٍّ، ولا أخٍ، ولا أختٍ، ولا عمٍّ،ولا عمةٍ ولا خالٍ ولا خالةٍ ولا أحد من الأقارب البتة سوى ما ذكرنا. وتجب النفقةُ مع اتحادِ الدِّين واختلافه حيث وجبت، وهذا مذهب مالك، وهو أضيقُ المذاهب في النفقات.
المذهب الثالث: أنه تجبُ نفقةُ عمودي النسب خاصة، دون مَنْ عداهم، مع اتفاق الدِّين، ويَسَارِ المنفِقِ، وقدرته، وحاجة المُنْفَقِ عليه، وعجزه عن الكسب بصغرٍ أو جنونٍ أو زمانةٍ إن كان من العمود الأسفل. وإن كانَ من العمود الأعلى: فهل يشترط عَجْزهُم عن الكسبِ؟ على قولين. ومنهم من طرَّد القولين أيضاً في العمود الأسفل. فإذا بلغ الولد صحيحاً، سقطت نفقته ذكراً كان أو أنثى، وهذا مذهب الشافعي، وهو أوسع من مذهب مالك.
المذهب الرابع: أن النفقة تَجِبُ على كل ذي رحم مَحْرَمٍ لذي رحمه فإن كان من الأولاد وأولادهم، أو الآباء والأجداد، وجبت نفقتُهم مع اتحاد الدَين واختلافه. وإن كان من غيرهم، لم تجب إلا مع اتحاد الدِّين، فلا يجب على المسلم أن ينفق على ذي رحمه الكافر، ثم إنما تجب النفقة بشرط قدرة المنفِق وحاجة المنفَقِ عليه. فإن كان صغيراً اعْتُبِرَ فَقْرُهُ فَقَط، وإن كان كبيراً، فإن كان أنثى، فكذلك، وإن كان ذَكَراً، فلا بُدَّ مع فقره من عَمَاهُ أو زَمَانَتِهِ، فإن كان صحيحاً بصيرا لم تجب نفقته، وهي مرتَّبة عنده على الميراث إلا في نفقة الولد، فإنها على أبيه، خاصة على المشهور من مذهبه.
وروي عن الحسن بن زياد اللؤلؤي: أنها على أبويه خاصة بقدر ميراثهما طرداً للقياس، وهذا مذهب أبي حنيفة، وهو أوسعُ من مذهب الشافعي،
المذهب الخامس: أن القريب إن كان من عمودي النسب وجبتْ نفقته مطلقاً، سواءً كان وارثاً أو غير وارث، وهل يشترط اتحادُ الدِّين بينهم؟ على روايتين وعنه رواية أخرى: أنه لا تجبُ نفقتُهم إلا بشرط أن يرثهم بِفَرْضٍ أو تَعْصيب كسائر الأقارب. وإن كان من غير عمودي النسب، وجبت نفقتهم بشرط.
أن يكون بينه وبينهم توارث. ثم هل يشترط أن يكون التوارث من الجانبين، أو يكفي أن يكون من أحدهما؟ على روايتين. وهل يشترط ثبوت التَّوارُثِ في الحال، أو أن يكون من أهل الميراث في الجملة؟ على روايتين: فإن كان الأقارب من ذوي الأرحام الذين لا يرثون، فلا نفقةَ لهم على المنصوص عنه، وخرَّج بعض أصحابه وجوبَها عليهم من مذهبه من توارثهم، ولا بد عنده من اتِّحاد الدِّين بين المنفِق والمنفَقِ عليه حيث وجبت النفقة إلا في عمودي النسب في إحدى الروايتين. فإن كان الميراث بغير القرابة، كالولاء وجبت النفقة به في ظاهر مذهبه على الوارث دون الموروث، وإذا لزمتْه نفقةُ رجلٍ لزمته نفقةُ زوجتِهِ في ظاهر مذهبه. وعنه: لا تلزمه. وعنه: تلزمه في عمودي النسب خاصة دون مَنْ عداهم. وعنه: تلزمه لزوجة الأب خاصة، ويلزمه إعفاف عمودي نسبه بتزويج أو تَسَرٍّ إذا طلبوا ذلك.قال القاضي أبو يعلى: وكذلك يجيءُ في كل مَنْ لزمته نفقتُه: أخ، أو عم، أو غيرهما يلزمُه إعفافُه، لأن أحمد رحمه اللّه قد نص في العبد يلزمه أن يزوجه إذا طلب ذلك، وإلا بيع عليه، وإذا لزمه إعفافُ رجل لزمه نفقة زوجته، لأنه لا تُمَكَّنُ من الإِعفاف إلا بذلك، وهذه غير المسألة المتقدمة، وهو وجوب الإِنفاق على زوجة المنفَق عليه، ولهذه مأخذ، ولتلك مأخذ، وهذا مذهب الإِمام أحمد، وهو أوسع من مذهب أبي حنيفة، وإن كان مذهب أبي حنيفة أوسعَ منه من وجه آخر حيثُ يُوجِبُ النفقةَ على ذوي الأرحام وهو الصحيح في الدليل، وهو الذي تقتضيه أصولُ أحمد ونصوصُه وقواعد الشرع، وصلةُ الرحم التي أمر اللّه أن تُوصَلَ، وحرَّمَ الجنة على كل قاطع رحم، فالنفقةُ تُسْتَحَقّ بشيئين: بالميراث بكتاب اللّه، وبالرحم بسنة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم. وقد تقدَمَ أن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه حبس عَصَبَةَ صبيٍّ أن ينفقوا عليه، وكانوا بني عمه، وتقدَّمَ قولُ زيد بن ثابت: إذا كان عَمٌّ وأمٌّ فعلى العم بقدر ميراثه، وعلى الأم بقدر ميراثها، فإنه لا مخالف لهما في الصحابة البتة، وهو قولُ جمهورِ السلف، وعليه يدل قوله تعالى:{وآتِ ذا القُرْبَى حَقَّه} [الإسراء: 26]، وقوله تعالى: {وَبالْوَالدَيْن إحْسَاناً وَبذي القُرْبَى} [النساء: 36].
وقد أوجب النبى صلى الله عليه وسلم للأقارب، العطية وصرَّح بأنسابهم، فقال: ((وأُخْتَكَ وَأَخَاكَ، ثُمَّ أَدْنَاكَ فأدناكَ، حَقٌّ وَاجِبٌ وَرَحِمٌ مَوْصُولَةٌ)).
فإن قيل: فالمراد بذلك البِرُّ والصِّلةُ دون الوجوب.
قيل: يَرُدُّ هذا أنه سبحانه أمر به وسمَّاهُ حقاً، وأضافه إليه بقوله: ((حَقَّهُ))، وأخبر النبى صلى الله عليه وسلم بأنه حقٌّ، وأنه واجبٌ، وبعض هذا ينادى على الوجوب جهاراً.
فإن قيل: المراد بحقه ترك قطيعته.
فالجواب: من وجهين. أحدهما: أن يقال: فأى قطيعة أعظم من أن يراه يتلظَّى جُوعاً وعَطَشاً، ويتأذَّى غاية الأذى بالحر والبرد، ولا يكسوه ما يستر عَوْرَتَهُ ويقيهِ الحرَّ والبردَ، ويُسْكِنُهُ تحت سقف يُظله، هذا وهو أخوه ابن أمه وأبيه، أو عمه صِنْو أبيه، أو خالته التى هى أمه، إنما يجب عليه من ذلك ما يجب بَدْلُهُ للأجنبىِّ البعيد، بأن يعاوضه على ذلك فى الذِّمَّةِ إلى أن يُوسر، ثم يسترجع به عليه، هذا مع كونه فى غاية اليَسَارِ والجِدَةِ، وسَعَةِ الأموال. فإن لم تكن هذه قطيعة، فإنا لا ندرى ما هى القطيعة المحرمة، والصِّلَةُ التى أمر اللَّه بها، وحرَّمَ الجنة على قاطعها.
الوجه الثانى: أن يقال: فما هذه الصلة الواجبة التى نادت عليها النصوصُ، وبالغت فى إيجابها، وذَمَّتْ قاطعها؟ فأىُّ قَدْرٍ زائدٍ فيها على حق الاجنبىِّ حتى تَعْقِلَهُ القلوب، وتُخْبِرَ به الألسنة، وتَعْمَلَ به الجوارحُ؟ أهو السلامُ عليه إذا لقيه، وعيادتُه إذا مرض، وتشميتُه إذا عطس، وإجابتُه إذا دعاهُ، وإنكم لا تُوجبون شيئاً من ذلك إلا ما يجبُ نظيرُه للأجنبىِّ على الأجنبىِّ؟ وإن كانت هذه الصِّلةُ ترك ضربِه وسبه وأذاه والإزراء به، ونحو ذلك، فهذا حق يجبُ لكل مسلم على كُلِّ مسلم، بل للذمِّى البعيد على المسلم، فما خصوصيةُ صلةِ الواجبة؟ ولهذا كان بعضُ فضلاء المتأخِّرين يقول: أعيانى أن أعرف صلةَ الرحم الواجبة. ولما أَوْرَدَ الناسُ هذا على أصحابِ مالك، وقالوا لهم: ما معنى صلةِ الرحم عندكم؟ صَنَّفَ بعضُهم فى صلة الرحم كتاباً كبيراً، وأوعب فيه من الآثارِ المرفوعةِ، وذكر جنسَ الصلة وأنواعها وأقسامها، ومع هذا فلم يتخلَّص من هذا الإلزام، فإن الصلة معروفة يعرفُها الخاصُّ والعام، والآثارُ فيها أشهر من العلم، ولكن ما الصِّلةُ التى تختَصُّ بها الرحمُ، وتجب له الرحمة، ولا يُشاركه فيها الأجنبى؟ فلا يُمكنكم أن تُعَيِّنوا وجوب شىءٍ إلا وكانت النفقةُ أوجبَ منه، ولا يمكنكم أن تَذْكُروا مُسْقِطاً لوجوب النَّفقة إلا وكان ما عداها أولى بالسقوط منه، والنبىُّ صلى الله عليه وسلم قد قَرَنَ حَقَّ الأخ والأخت بالأب والأم، فقال:((أُمَّكَ وأَبَاكَ، وأُخْتَكَ وَأَخَاكَ، ثُمَّ أَدْنَاكَ فَأَدْنَاكَ))، فما الذى نسخ هذا، وما الذى جعل أَوَّلَهُ للوجوب، وآخِرَهُ للاستحبابِ؟ وإذا عُرِفَ هذا، فليس من بِرِّ الوالدينِ أن يَدَعَ الرجلُ أباهُ يَكْنُسُ الكُنُفَ، ويُكارى على الحُمر، ويُوقِدُ فى أَتوُّنِ الحَمَّامِ، ويَحْمِلُ للناس على رأسه ما يَتَقَوَّتُ بأُجْرَتِهِ، وهو فى غاية الغِنى واليَسَار، وسَعَةِ ذاتِ اليدِ، وليس مِن بِرِّ أُمِّهِ أن يَدَعَهَا تَخْدُمُ النَّاسَ، وتغسلُ ثيابهم، وتسقى لهم الماء ونحو ذلك، ولا يصُونُها بما يُنْفِقهُ عليها، ويقول: الأبوان مُكْتَسِبَانِ صحيحانِ، وليسا بِزَمِنَيْنِ ولا أَعْمَيَيْنِ، فباللَّهِ العجبُ: أين شرطُ اللَّه ورسولهِ فى برِّ الوالدين، وصِلَةِ الرَّحمِ أن يكون أحدُهم زَمِناً أو أعمى، وليست صِلَةُ الرَّحمِ ولا بِرُّ الوالدين موقوفةً على ذلك شرعاً ولا لغةً ولا عرفاً، وباللَّه التوفيق.