فصل الحكم الثاني المستفاد من الرضاعة : أن لبن الفحل يحرم
 
الحكم الثانى: المستفاد من هذه السُّنَّة، أَنَّ لبن الفحل يُحَرِّم، وأن التحريمَ ينتشِرُ مِنه كما ينتشِر من المرأة، وهذا هو الحقُّ الذى لا يجوز أن يُقال بغيره، وإن خالف فيه مَنْ خالفَ من الصحابة ومَنْ بَعْدَهُم، فَسُنَّةُ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أحَقُّ أن تُتَّبَعَ، ويتركَ ما خالفها لأجلها، ولا تُتْرَكُ هى لأجل قولِ أحد كائناً مَنْ كان. ولو تُركت السُّنَنُ لخلاف من خالفها لعدم بلوغها له، أو لتأويلها، أو غير ذلك، لَتُرِكَ سُنَنٌ كثيرة جداً، وتُركت الحجَّةُ إلى غيرها، وقولُ من يجب اتّباعه إلى قول من لا يجب اتِّباعه، وقولُ المعصوم إلى قولِ غيرِ المعصوم، وهذه بلية، نسأل اللَّه العافية منها، وأن لا نلقاه بها يوم القيامة.
قال الأعمش: كان عِمارة، وإبراهيم، وأصحابُنا لا يَرَوْنَ بلبن الفحل بأساً حتى أتاهم الحكم بنُ عُتَيْبَة بخبر أبى القُعَيس، يعنى: فتركوا قولَهم، ورجعوا عنه، وهكذا يَصْنَعُ أهلُ العلم إذا أتَتْهُم السُّنَّةُ عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، رجعوا إليها، وتركوا قولَهم بغيرها.
قال الذين لا يحرِّمون بلبن الفحل: إنما ذكر اللَّهُ سبحانه فى كتابه التحريم بالرضاعة مِنَ جهة الأم، فقال {وأمَّهَاتُكُم اللاَّتى أَرْضَعْنكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنْ الرَّضَاعَةِ} [النساء: 23] واللام: للعهد ترجع إلى الرَّضاعة المذكورة، وهى رَضاعة الأم، وقد قال اللَّه تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُم} [النساء: 24] فلو أثبتنا التحريمَ بالحديث لَكُنَّا قد نسخنا القرآن بالسُّنَّة، وهذا - على أصل من يقول: الزيادة على النص نسخ _ ألزمُ، قالوا: وهؤلاء أصحابُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم هم أعلمُ الأُمَّة بِسُنَّتِهِ، وكانوا لا يرون التحريمَ به، فصح عن أبى عُبيدة بن عبد اللَّه بن زَمْعَةَ أن أمَّهُ زينبَ بنتَ أمِّ سلمةَ أمِّ المؤمنين أرضعتها أسماءُ بنتُ أبى بكر الصِّدِّيق رضى اللَّه عنه امرأةُ الزبير بن العوام، قالت زينب: وكان الزبيرُ يدخل علىَّ وأنا أَمْتَشِطُ فيأخذ بقَرْنٍ من قرون رأسى، ويقول: أقبلى علىَّ فحدِّثينى أرى أنه أبى، وما ولَدَ منه: فهم إخوتي، ثم إن عبدَ اللَّهِ بنَ الزبير أرسل إلىَّ يخطُبُ أمَّ كلثوم ابنتى على حمزة بن الزبير، وكان حمزةُ للكلبية، فقالت لرسوله: وهَل تَحِلُّ له؟ وإنما هى ابنةُ أخته، فقال عبد اللَّه: إنما أردتِ بهذا المنعَ من قِبَلكِ. أمَّا ما ولدتْ أسماءُ، فهم إخوتك، وما كان من غير أسماءَ فليسوا لك بإخوةٍ، فأرسلى فاسألى عن هذا، فأرسلتْ فسألتْ، وأصحابُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم متوافِرون، فقالوا لها، إن الرضاعة من قبلِ الرَّجُل لا تحرِّم شيئاً، فأنكحيها إياه، فلم تزل عنده حتى هلك عنها.
قالوا: ولم ينكر ذلك الصحابةُ رضى اللَّه عنهم، قالوا: ومن المعلوم أن الرضاعة من جهة المرأة لا من الرجل.
قال الجمهور: ليس فيما ذكرتم ما يُعارضُ السُّنَّة الصحيحة الصريحة، فلا يجوزُ العدولُ عنها. أمَّا القرآن، فإنه بينَ أمرين: إما أن يتناولَ الأخت من الأب من الرضاعة فيكون دالاً على تحريمها، وإما أن لا يتناولَها فيكون ساكتاً عنها، فيكون تحريمُ السُّنَّة لها تحريماً مبتدءاً ومخصصاً لعموم قوله:{وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] والظاهرُ يتناولُ لفظ الأختِ لها، فإنه سبحانه عمم لفظ الأخوات من الرَّضاعة، فدخل فيه كُلُّ مَنْ أطلق عليها أخته، ولا يجوزُ أن يُقال: إن أخته من أبيه من الرّضاعة ليست أختاً له، فإن النبىَّ صلى الله عليه وسلم قال لعائشة رضى اللَّه عنها: ائذنى لأفلح، فإنه عَمُّك، فأثْبتَ العمومةَ بينها وبينه بلبنِ الفحل وحده، فإذا ثبتت العُمُومة بين المرتضعة، وبين أخى صاحب اللبن، فثبوتُ الأُخوة بينها وبين ابنه بطريق الأولى أو مثله.
فالسُّنَّة بينتْ مرادَ الكتاب، لا أنها خالفته، وغايتُها أن تكونَ أثبتتْ تحريمَ ما سكت عنه، أو تَخصيص ما لم يرد عمومه.
وأما قولكم: إن أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لا يرون التحريمَ بذلك، فدعوى باطلة على جميع الصحابة، فقد صح عن على رضى اللَّه عنه إثبات التحريمِ به، وذكر البخارى فى ((صحيحه)) أن ابن عباس سئل عن رجل كانت له امرأتانِ أرضعت إحداهما جاريةً، والأخرى غلاماً، أيحِلُّ أن يَنْكَحَهَا؟ فقال ابنُ عباس: لا، اللقاحُ واحد، وهذا الأثر الذى استدللتم به صريح عن الزبير أنه كان يعتقدُ أن زينبَ ابنته بتلك الرضاعة، وهذه عائشةُ أُمُّ المؤمنين رضى اللَّه عنها كانت تُفتى: أن لبن الفحل ينشُرُ الحرمة، فلم يَبْقَ بأيديكم إلا عبدُ اللَّه بنُ الزبير، وأين يَقَعُ من هؤلاء.
وأما الذين سَألتهُم فأفتوها بالحل، فمجهولون غيرُ مَسَمَّين، ولم يقلِ الراوى: فسألت أصحابَ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وهم متوافرون، بل لعلها أرسلتْ فسألت من لم تَبْلُغْهُ السُّنَّةُ الصحيحة منهم، فأفتاها بما أفتاها به عبد اللَّه بن الزبير، ولم يكن الصحابة إذ ذاك متوافرين بالمدينة، بل كان معظمهم وأكابرُهم بالشام والعراق ومصر.
وأما قولكم: إن الرَّضاعة إنما هى من جهة الأم، فالجواب أن يقال: إنما اللبنُ للأب الذى ثار بوطئه، والأم وعاء له، وباللَّه التوفيق.
فإن قيل: فهل تَثْبت أبُوَّةُ صاحب اللبن وإن لم تثبت أمومة المرضعة، أو ثبوتُ أُبُوَّتهِ فرع على ثبوت أمومة المرضعة؟
قيل: هذا الأصلُ فيه قولان للفقهاء، وهما وجهان فى مذهب أحمد والشافعى، وعليه مسألة من له أربعُ زوجات، فأرضعنَ طفلةً كُلُّ واحدةٍ منهن رَضْعتين، فإنهن لا يَصِرْنَ أماً لها، لأن كل واحدة منهن لم تُرضِعْها خمس رَضَعَات. وهل يصير الزوج أباً للطفلة؟ فيه وجهان. أحدهما: لا يصير أباً، كما لم تَصِر المرضعاتُ أُمَّهاتٍ، والثانى وهو الأصح: يصير أباً، لكون الولد ارتضع من لبنه خمس رَضَعَات، ولبنُ الفَحْل أصلٌ بنفسه، غير متفرِّع على أمومة المرضعة، فإن الأبوةَ إنما تثبُت بحصول الارتضاع من لبنه، لا لِكون المرضعة أمه، ولا يجىءُ على أَصْلَىْ أبى حنيفة ومالك، فإن عندهما قليل الرضاع وكثيره محرِّم، فالزوجاتُ الأربع أمهات للمرتضِع، فإذا قلنا بثبوت الأُبُوَّةِ وهو الصحيح، حَرُمَتِ المرضعاتُ على الطفل، لأنه ربيبُهنَّ، وهُنَّ موطوءات أبيه، فهو ابنُ بَعْلهِنَّ. وإن قلنا: لا تثُبت الأْبُوَّةُ لم يَحْرُمْنَ عليه بهذا الرضاع.
وعلى هذه المسألة: ما لو كان لِرجل خمسُ بناتٍ، فأرضعنَ طفْلاً، كلُّ واحدة رَضْعَة، لم يَصِرْنَ أمهاتٍ له. وهل يصير الرجل جداً له، وأولاده الذين هم إخوةُ المرضِعات أخوالاً له وخالات؟ على وجهين، احدهما: يصير جداً، وأخوهن خالاً، لأنه قد كَملَ المرتضِع خمسَ رَضَعَاتٍ من لبن بناته، فصار جَدّاً، كما لو كان المرتضِع بنتاً واحدة. وإذا صار جَدّاً كان أولادُه الذين هُم إخوةُ البنات أخوالاً وخالات، لأنهن إخوةُ من كمل له منهن خمسُ رَضَعتَات، فنزلوا بالنسبة إليه منزلةَ أم واحدة، والآخر لا يصيرُ جَداً، ولا أخواتُهن خالاتٍ، لأن كونَه جداً فرعٌ على كونِ ابنته أمَّاً، وكونُ أخيها خالاً فرع على كون أُخته أمّاً، ولم يثبتِ الأصل، فلا يثُبت فرعُه، وهذا الوجه أصحُّ فى هذه المسألة، بخلاف التى قبلَها، فإن ثبوت الأُبُوَّةِ فيها لا يستلزم ثبوت الأمومة على الصحيح. والفرقُ بينهما: أن الفرعية متحققة فى هذه المسألة بين المرضعات وأبيهن، فإنهنَّ بناتُه، واللبن ليس له، فالتحريم هنا بين المرضعة وابنها، فإذا لم تكن أُمًّا، لم يكن أبوها جَدَّاً، بخلافِ تلك، فإن التحريم بينَ المرتضِع وبينَ صاحب اللبن، فسواءٌ ثبتت أمومةُ المرضعة أولا، فعلى هذا إذا قلنا: يصير أَخُوهنَّ خالاً، فهل تكون كل واحدة منهن خالةً له؟ فيه وجهان. أحدهما: لا تكون خالةً، لأنه لم يرتضِعْ من لبن أخواتِهَا خمس رضعات، فلا تثبت الخؤولة. والثانى: تثبت، لأنه قد اجتمع من اللبن المحرِّم خمس رضعات، وكان ما ارتضع منها ومن أخواتها مثبتاً للخؤولة، ولا تثبت أمومة واحدة منهن إذ لم يرتضع منها خمس رضعات، ولا يستبعدُ ثبوت خؤولة بلا أمومة، كما ثبت فى لبن الفحل أبوة بلا أمومة، وهذا ضعيف. والفرق بينهما. أن الخؤولة فرع محض على الأمومة، فإذا لم يثبت الأصل، فكيف يثُبت فرعُه؟ بخلاف الأبوة والأُمومة، فإنهما أصلان لا يلزم من انتفاه أحدهما انتفاء الآخر.
وعلى هذا مسألة، ما لو كان لرجل أُم، وأخت، وابنة، وزوجةُ ابن، فأرضعن طِفْلَةً كُلُّ واحدة منهن رَضْعَة، لم تَصِرْ واحدةٌ منهن أمها، وهل تحرم على الرجل؟ على وجهين. أوجههما: ما تقدم. والتحريمُ ههنا بعيد، فإن هذا اللبن الذى كمل للطفل لا يجعل الرجل أباً له، ولا جداً، ولا أخاً، ولا خالاً، واللَّه أعلم.