فصل ما هى الرضعةُ التى تنفصلُ من أختها، وما حدُّها؟
 
فإن قيل: ما هى الرضعةُ التى تنفصلُ من أختها، وما حدُّها؟ قيل: الرضعةُ فعلة مِن الرضاع، فهى مرة منه بلا شك، كضربة وجلسة وأكلة، فمتى التقم الثدىَ، فامتصَّ منه ثم تركه باختياره مِن غير عارض كان ذلك رضعة، لأن الشرع ورد بذلك مطلقاً، فحُملَ على العُرف، والعُرف هذا، والقطعُ العارضُ لتنفس أو استراحة يسيرة، أو لشىء يلهيه ثم يعودُ عن قرب لا يخرجه عن كونه رضعة واحدة، كما أن الآكل إذا قطع أكلته بذلك، ثم عاد عن قريب لم يكن ذلك أكلتين بل واحدة، هذا مذهب الشافعى، ولهم فيما إذا قطعت المرضعةُ عليه، ثم أعادته وجهان. أحدهما: أنها رضعة واحدة ولو قطعته مراراً حتى يقطع بإختياره، قالُوا: لأن الاعتبار بفعله لا بفعل المرضعة، ولهذا لو ارْتَضَع منها وهى نائمة حُسِبَت رضعة، فإذا قطعت عليه، لم يُعتد به، كما لو شرع فى أكلة واحدة أمره بها الطبيبُ، فجاء شخص فقطعها عليه، ثم عاد، فإنها أكلة واحدة.
والوجه الثانى: أنها رضعة أخرى، لأن الرضاعَ يَصِحُّ من المرتضع، ومن المرضعة، ولهذا لو أَوْجَرَتْهُ وهو نائم احتسِبَ رضعة.
ولهم فيما إذا انتقل من ثدى المرأة إلى ثدى غيرها وجهان. أحدهما: لا يعتد بواحد منهما لأنه انتقل من إحداهما إلى الأخرى قبل تمام الرضعة، فلم تتم الرضعة من إحداهما. ولهذا لو انتقل من ثدى المرأة إلى ثديها الآخر كانا رضعةً واحدةً.
والثانى: أنه يحتسب من كل واحد منهما رضعة، لأنه ارتضع، وقطعه بإختياره من شخصين.
وأما مذهبُ الإمام أحمد رحمه اللَّه، فقال صاحب ((المغنى)): إذا قطع قطعاً بيناً بإختيارهِ، كان ذلك رضعة، فإن عاد كان رضعةً أخرى، فأما إن قطع لِضيق نفس، أو للانتقال من ثدى إلى ثدى، أو لشىء يُلهيه، أو قطعت عليه المرضعة، نظرنا، فإن لم يَعُدْ قريباً، فهى رضعة وإن عاد فى الحال، ففيه وجهان، أحدهما: أن الأولى رضعة، فإذا عاد فهى رضعة أخرى، قال: وهذا اختيار أبى بكر، وظاهر كلام أحمد فى رواية حنبل، فإنه قال: أما ترى الصبى يرتضع من الثدى، فإذا أدركه النَّفسُ، أمسكَ عن الثدى ليتنفس، أو ليستريح، فإذا فعل ذلك، فهى رضعة، قال الشيخ: وذلك أن الأولى رضعةٌ لو لم يعد، فكانت رضعة، وإن عاد، كما لو قطع بإختياره. والوجه الآخر أن جميع ذلك رضعة، وهو مذهب الشافعى إلا فيما إذا قطعت عليه المرضعة، ففيه وجهان، لأنه لو حلف: لا أكلتُ اليومَ إلا أكلةً واحدةً، فاستدام الأكلُ زمناً، أو انقطع لشرب ماء أو انتقال من لون إلى لون، أو انتظار لما يُحمل إليه من الطعام لم يُعدّ إلا أكلة واحدة فكذا ههنا، والأول أصح، لأن اليسير من السعوط والوَجُور رضعة، فكذا هذا.
قلتُ، وكلامُ أحمد يحتملُ أمرين، أحدهما: ما ذكره الشيخ، ويكون قوله: ((فهى رضعة))، عائداً إلى الرضعة الثانية. الثانى: أن يكون المجموعُ رضعة، فيكون قوله: ((فهى رضعة)) عائداً إلى الأول، والثانى، وهذا أظهر محتمليه، لأنه استدل بقطعه للتنفس، أو الاستراحة على كونها رضعة واحدة. ومعلوم أن هذا الاستدلال أليقُ بكون الثانية مع الأول واحدة من كون الثانية رضعةً مستقلة، فتأمله.
وأما قياسُ الشيخ له على يسير السَّعوط والوَجور، فالفرقُ بينهما أن ذلك مستقل ليس تابعاً لرضعة قبله، ولا هو مِن تمامها، فيقال: رضعة بخلاف مسألتنا، فإن الثانية تابعة للأولى، وهى من تمامها فافترقا.