فصل الحكم الرابع: أن الرضاع الذى يتعلَّق به التحريمُ ما كان قبل الفطام فى زمن الارتضاع المعتاد
 
والحكم الرابع: أن الرضاع الذى يتعلَّق به التحريمُ ما كان قبل الفطام فى زمن الارتضاع المعتاد، وقد اختلف الفقهاء فى ذلك، فقال الشافعى، وأحمد، وأبو يوسف، ومحمد: هو ما كان فى الحولين، ولا يُحَرَّمُ ما كان بعدهما، وصح ذلك عن عمر، وابنِ مسعود، وأبى هريرة، وابن عباس، وابن عمر، ورُوى عن سعيد بن المسيِّب، والشعبى وابن شُبْرُمَةَ، وهو قولُ سفيان. وإسحاق وأبى عُبيد، وابنِ حزم، وابنِ المنذر، وداود، وجمهور أصحابه.
وقالت طائفة: الرضاعُ المحرم ما كان قبل الفطام، ولم يحدوه بزمن، صحَّ ذلك عن أم سلمة، وابن عباس ورُوى عن على، ولم يصح عنه، وهو قولُ الزهرى، والحسن، وقتادة، وعِكرمة، والأوزاعى. قال الأوزاعى: إن فُطمَ وله عام واحد واستمر فِطامُه، ثم رضع فى الحولين، لم يُحَرِّم هذا الرضاعُ شيئاً، فإن تمادى رضاعُه ولم يُفطم، فما كان فى الحولين فإنه يُحرِّمُ. وما كان بعدهما، فإنه لا يُحرِّمُ، وإن تمادى الرضاعُ. وقالت طائفة: الرضاعُ المحرِّمُ ما كان فى الصغر، ولم يوقته هؤلاء بوقت، وروى هذا عن ابن عمر، وابن المسيِّب، وأزواج رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم خلا عائشة رضى اللَّه عنها. وقال أبو حنيفة وزفر: ثلاثون شهراً، وعن أبى حنيفة رواية أخرى، كقول أبى يوسف ومحمد. وقال مالك فى المشهور من مذهبه: يُحرِّمُ فى الحولين، وما قاربهما، ولا حُرمة له بعد ذلك. ثم روى عنه اعتبارُ أيام يسيرة، وروى عنه شهران. وروى شهر، ونحوه. وروى عنه الوليدُ بن مسلم وغيره: أن ما كان بعدَ الحولين مِن رضاعِ بشهر أو شهرين أو ثلاثة أشهر، فإنه عندى من الحولين، وهذا هو المشهورُ عند كثير من أصحابه. والذى رواهُ عنه أصحابُ الموطأ وكان يُقرأ عليه إلى أن مات قوله فيه: وما كان مِن الرضاع بعد الحولين كان قليلُه وكثيرُه لا يُحرِّمُ شيئاً، إنما هو بمنزلة الطعام، هذا لفظه. وقال: إذا فُصلَ الصبى قبلَ الحولين، واستغنى بالطعام عن الرِّضاع، فما ارتضع بعد ذلك لم يكن للرضاع حرمة. وقال الحسنُ بن صالح، وابن أبى ذِئب وجماعةٌ من أهل الكوفة: مدةُ الرضاع المُحرِّم ثلاثُ سنين، فما زاد عليها لم يُحرم، وقال عمرُ بنُ عبد العزيز: مدته إلى سبعِ سنين، وكان يزيدُ بن هارون يحكيه عنه كالمتعجِّبِ من قوله. وروى عنه خلافُ هذا، وحَكَى عنه ربيعة، أن مدته حولان، واثنا عشر يوماً.
وقالت طائفة من السلف والخلف: يحرمُ رضاع الكبير، ولو أنه شيخ، فروى مالك، عن ابن شهاب، أنه سئل عن رضاع الكبير، فقال: أخبرنى عروة بن الزبير، بحديثِ أمر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم سهلة بنت سهيل برضاع سالم، ففعلت، وكانت تراه ابناً لها. قال عروةُ: فأخذت بذلك عائشة أمُّ المؤمنين رضى اللَّه عنها فيمن كانت تُحبُّ أن يدخل عليها من الرجال، فكانت تأمر أختَها أمّ كلثوم، وبنات أخيها يرضعن من أحبَّت أن يدخل عليها من الرجال.
وقال عبد الرزاق: حدثنا ابن جريج، قال: سمعتُ عطاء بن أبى رباح وسأله رجلٌ فقال: سقتنى امرأةٌ من لبنها بعد ما كنت رجلاً كبيراً. أفأنكِحُها؟ قال عطاء: لا تَنْكِحْهَا، فقلت له: وذلك رأيُك؟ قال: نعم، كانت عائشة رضى اللَّه عنها تأمر بذلك بنات أخيها. وهذا قولُ ثابت عن عائشة رضى اللَّه عنها. ويروى عن على، وعروة بن الزبير. وعطاء بن أبى رباح، وهو قولُ الليث بن سعد، وأبى محمد ابن حزم، قال: ورضاعُ الكبير ولو أنه شيخ يُحرِّمُ كما يحرِّم رضاع الصغير. ولا فرق، فهذه مذاهب الناس فى هذه المسألة.
ولنذكر مناظرةَ أصحاب الحولين، والقائلين برضاع الكبير، فإنهما طرفان، وسائر الأقوال متقاربة.
قال أصحابُ الحولين: قال اللَّه تعالى: {وَالوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة: 233] قالوا: فجعل تمامَ الرضاعة حولين، فدلَّ على أنه لا حكم لما بعدهما، فلا يتعلَّق به التحريم. قالوا: وهذه المدة هى مدة المجاعة التى ذكرها رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم، وقصَر الرضاعةَ المحرمة عليها. قالوا: وهذه مدة الثدى الذى قال فيها: ((لا رضاع إلا ما كان فى الثدى))، أى فى زمن الثدى، وهذه لغة معروفة عند العرب، فإن العرب يقولون: فلان ماتَ فى الثَّدى، أى: فى زمن الرضاع قبل الفطام، ومنه الحديث المشهور: ((إِنَّ إبْرَاهِيمَ مَاتَ فى الثَّدْى وإنَّ لَهُ مُرْضِعاً فى الجَنَّةِ تُتِمُّ رَضَاعَهُ)). يعنى إبراهيم ابنَه صلواتُ اللَّه وسلامه عليه. قالوا: وأكَّد ذلك بقوله: ((لا رضاع إلا ما فتق الأمعاء)) وكان فى الثدى قبل الفطام، فهذه ثلاثةُ أوصاف للرضاع المُحرِّم، ومعلوم أن رضَاعَ الشيخ الكبير عارٍ من الثلاثة. قالوا: وأصرحُ مِن هذا حديثُ ابن عباس: ((لا رضاع إلا ما كان فى الحولين)).قالوا: وأكدَهُ أيضاً حديث ابن مسعود: ((لا يُحرِّمُ مِنَ الرَّضاعةِ إلا ما أَنْبَتَ اللَّحْمَ وأَنْشَزَ العَظْمَ))، ورضاعُ الكبير لا ينبت لحماً، ولا يُنشز عظماً.
قالوا: ولو كان رضاعُ الكبير محرِّماً لما قال النبىُّ صلى الله عليه وسلم لعائشة وقد تغيَّر وجهُه، وكَرِه دخولَ أخيها من الرضاعة عليها لما رآهُ كبيراً: ((انظُرنَ مَنْ إخوانكن)) فلو حرَّم رَضَاع الكبير، لم يكن فرق بينه وبين الصغير، ولما كره ذلك وقال: ((انظرن مَن إخوانُكن)) ثم قال: ((فإنَّما الرضَاعَةُ مِنَ المجَاعَة)) وتحتَ هذا من المعنى خشيةَ أن يكونَ قد ارتضع فى غير زمن الرضاع وهو زمن المجاعة، فلا ينشر الحرمة، فلا يكون أخاً. قالوا: وأما حديثُ سهلة فى رضاع سالم، فهذا كان فى أوَّل الهجرة لأن قصته كانت عقيبَ نزول قوله تعالى: {ادْعُوهُم لآبائِهِمْ} [الأحزاب: 5] وهى نزلت فى أول الهجرة.
وأما أحاديث اشتراط الصغر، وأن يكون فى الثدى قبل الفطام، فهى من رواية ابن عباس، وأبى هريرة، وابنُ عباس إنما قدم المدينة قبل الفتح، وأبو هريرة إنما أسلم عامَ فتح خيبر بلا شك، كِلاهُما قدم المدينة بعد قصة سالم فى رضاعه من امرأة أبى حذيفة.
قال المثبتون للتحريم برضاع الشيوخ: قد صحَّ عن النبىِّ صلى الله عليه وسلم صحة لا يمترى فيها أحد أنه أمر سهلة بنتَ سُهيل أن تُرْضِع سالماً مولى أبى حذيفة، وكان كبيراً ذا لحية، وقال:
((أَرْضعِيهِ تَحْرُمى))، ثم ساقوا الحديث، وطرقَهَ وألفاظَه وهى صحيحةٌ صريحة بلا شك. ثم قالوا: فهذه الأخبارُ ترفع الإشكال، وتُبين مراد اللَّه عز وجل فى الآيات المذكوراتِ أن الرضاعة التى تَتِمُّ بتمام الحولين، أو بتراضى الأبوين قبل الحولين إذا رأيا فى ذلك صلاحاً للرضيع، إنما هى الموجبة للنفقة على المرأة المرضعة، والتى يُجبر عليها الأبوان أحبا أم كرها. ولقد كان فى الآية كفاية من هذا لأنه تعالى قال: {والوَالِدَاتُ يُرضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وعلى الموْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالمعرُوفِ} [البقرة: 233]، فأمر اللَّه تعالى الوالدات بإرضاعِ المولود عامين، وليس فى هذا تحريمٌ للرضاعة بعد ذلك ولا أن التحريم ينقطِعُ بتمام الحولين، وكان قولُه تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِى أَرْضَعْنكُم وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} [النساء: 23]؟، ولم يقل فى حولين، ولا فى وقت دونَ وقت زائداً على الآيات الأخر، وعمومها لا يجوزُ تخصيصُه إلا بنص يبُين أنه تخصيص له، لا بظن، ولا محتمل لا بيانَ فيه، وكانت هذِهِ الآثارُ يعنى التى فيها التحريمُ برضاع الكبير قد جاءت مجىء التواتُرِ، رواها نساء النبى صلى الله عليه وسلم، وسهلةُ بنت سهيل، وهي من المهاجرات، وزينبُ بنت أم سلمة وهى ربيبةُ النبىِّ صلى الله عليه وسلم، ورواها من التابعين: القاسمُ بن محمد، وعروةُ بن الزبير، وحُميد بن نافع، ورواها عن هؤلاء: الزهرى، وابنُ أبى مليكة، وعبدُ الرحمن بن القاسم، ويحيى بن سعيد الأنصارى وربيعة، ثم رواها عن هؤلاء: أيوب السَّخْتيانى، وسفيانُ الثورى، وسفيانُ بن عيينة، وشعبةُ، ومالك، وابنُ جريج، وشعيب، ويونس، وجعفر بن ربيعة، ومعمر، وسليمان بن بلال، وغيرهم، ثم رواها عن هؤلاء الجمُّ الغفيرُ، والعددُ الكثير، فهى نقلُ كافة لا يختلفُ مُؤالف ولا مخالف فى صحتها، فلم يبق مِن الاعتراض إلا قول القائل: كان ذلك خاصاً بسالم، كما قال بعضُ أزواج رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ومَنْ تبعهن فى ذلك، فليعلمْ من تعلَّق بهذا أنه ظنٌ ممن ظن ذلك منهن رضى اللَّه عنهن. هكذا فى الحديث أنهن قُلن: ما نرى هذا إلا خاصاً بسالم، وما ندرى لعلها كانت رخصة لسالم. فإذا هو ظن بلا شك فإن الظن لا يُعارض به السنن الثابتة، قال اللَّه تعالى: {إنَّ الظَّنَّ لا يُغنى مِنَ الحَقِّ شَيْئاً} [يونس: 36] وشتانَ بين اجتجاجِ أمِّ سلمة رضى اللَّه عنها بظنها، وبين احتجاج عائشة رضى اللَّه عنها بالسنة الثابتة، ولهذا لما قالت لها عائشة: أمالكِ في رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة، سكتت أم سلمة، ولم تنطق بحرف، وهذا إما رجوعُ إلى مذهب عائشة، وإما انقطاع فى يدها.
قالُوا: وقولُ سهلة لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: كيف أرضِعهُ وهو رجل كبير؟ بيان جلى أنه بعد نزول الآيات المذكورات.
قالُوا: ونعلم يقيناً أنه لو كان ذلك خاصاً بسالم، لقطع النبىُّ صلى الله عليه وسلم الإلحاق، نص على أنه ليس لأحد بعده، كما بيَّن لأبى بُردة بن نيار، أن جذعته تُجزىْء عنه، ولا تجزىْء عن أحد بعده.. وأين يقعُ ذبح جَذعةٍ أضحية من هذا الحكم العظيم المتعلق به حلُّ الفرج وتحريمه، وثبوت المحرمية، والخلة بالمرأة والسفر بها؟ فمعلوم قطعاً، أن هذا أولى ببيان التخصيص لو كان خاصاً. قالوا: وقول النبى صلى الله عليه وسلم ((إنَّما الرّضاعةُ من المَجَاعَةِ)) حجة لنا، لأن شُرب الكبير للبن يُؤثر فى دفع مجاعته قطعاً، كما يُؤثر فى الصغير أو قريباً منه.
فإن قلتم: فما فائدة ذكره إذا كان الكبيرُ والصغيرُ فيه سواء؟ قلنا: فائدتُه إبطال تعلق التحريم بالقطرة من اللبن، أو المصَّة الواحدة التى لا تُغنى من جوع، ولا تُنبت لحماً، ولا تُنشز عظماً.
قالوا: وقولُه صلى الله عليه وسلم: ((لا رضاع إلا ما كان فى الحولين، وكان فى الثدى قبلَ الفطام)) ليس بأبلغَ مِن قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا ربا إلاّ فى النسيئة))،
((وإنما الربا فى النسيئة))، ولم يمنع ذلك ثبوتُ ربا الفضل بالأدلة الدالة عليه، فكذا هذا.
فأحاديثُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وسنُنه الثابتة كُلُّهَا حق يجب اتباعُها لا يضرب بعضها ببعض، بل تستعمل كلاً منها على وجهه. قالوا: ومما يدلُّ على ذلك أن عائشة أم المؤمنين رضى اللَّه عنها، وأفقه نساء الأمة هى التى روت هذا وهذا، فهى التى روت: ((إنَّماالرَضَاعَةُ مِنَ المَجَاعَةِ)) وروت حديث سهلة، وأخذت به فلو كان عندها حديث ((إنما الرضاعة من المجاعة)) مخالفاً لحديث سهلة، لما ذهبت إليه وتركت حديثاً واجهها به رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم، وتغيَّرَ وجهه، وكره الرجل الذى رآه عندها، وقالت: هو أخى.
قالوا: وقد صحَّ عنها أنها كانت تُدْخلُ عليها الكبير إذا أرضعته فى حال كبره أختٌ مِن أخواتها الرضاع المُحَرم، ونحن نشهدُ بشهادة اللَّه، ونقطع قطعاً نلقاه به يوم القيامة، أن أمّ المؤمنين لم تكن لِتبيحَ سِترَ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بحيث ينتهِكُه من لا يَحِلُّ له انتهاكُه، ولم يكن اللَّه عز وجل ليبيح ذلك على يدِ الصِّديقة المبرأةِ من فوق سبع سَمَاوات، وقد عصم اللَّه سبحانه ذلك الجنابَ الكريم، والحمى المنيع، والشرفَ الرفيع أتمَّ عِصمة، وصانه أعظمَ صيانة، وتولَّى صيانته وحمايتَه، والذبَّ عنه بنفسه ووحيه وكلامه، قالوا: فنحن نُوقِنُ ونقطعُ، ونَبُتُّ الشهادة للَّه، بأن فعلَ عائشة رضى اللَّه عنها هو الحقُّ، وأن رضاعَ الكبير يقع به من التحريم والمحرميةِ ما يقع برضاع الصغير، ويكفينا أمُّنا أفقه نساء الأمة على الإطلاق، وقد كانت تُناظر فى ذلك نساءه صلى الله عليه وسلم، ولا يُجِبْنَها بغيرِ قولهن: ما أحدٌ داخلٌ علينا بتلك الرضاعة، ويكفينا فى ذلك أنه مذهبُ ابن عم نبينا، وأعلم أهل الأرض على الإطلاق حين كان خليفة، ومذهبُ الليث بن سعد الذى شهد له الشافعى بأنه كان أفقه من مالك، إلا أنه ضيَّعهُ أصحابُه، ومذهبُ عطاء بن أبى رباح ذكره عبدُ الرزاق عن ابن جريج عنه. وذكر مالك عن الزهرى، أنه سُئلَ عن رضاع الكبير، فاحتج بحديثِ سهلة بنت سهيل فى قصة سالم مولى أبى حذيفة، وقال عبد الرزاق: وأخبرنى ابن جريج، قال: أخبرنى عبد الكريم، أن سالم ابن أبى جعد المولى الأشجعى أخبره أن أباه أخبره، أنه سأل على بن أبى طالب رضى اللَّه عنه فقال: أردت أن أتزوَّج امرأة قد سقتنى من لبنها وأنا كبير تداويتُ به، فقال له على: لا تَنْكِحْهَا، ونهاه عنها.
فهؤلاء سلفنا فى هذه المسألة، وتلك نصوصنا كالشمسِ صحة وصراحة. قالوا: وأصرحُ أحاديثكم حديثُ أم سلمة ترفعه: ((لا يُحَرِّمُ مِن الرّضَاعِ إلا مَا فَتَقَ الأَمْعَاءَ فى الثَّدْى وكَانَ قَبْلَ الفِطَام)) فما أصرحه لو كان سليماً من العلة، لكن هذا حديثٌ منقطع، لأنه من رواية فاطمة بنت المنذر عن أم سلمة، ولم تسمع منها شيئاً، لأنها كانت أسنَّ مِن زوجها هشام باثنى عشر عاماً، فكان مولده فى سنة ستين، ومولد فاطمة فى سنة ثمان وأربعين، وماتت أم سلمة سنة تسع وخمسين، وفاطمة صغيرة لم تبلغها، فكيف تحفظُ عنها، ولم تسمعْ مِن خالة أبيها شيئاً وهى فى حَجْرها، كما حصل سماعُها من جدتها أسماء بنت أبى بكر؟ قالوا: وإذا نظر العالمُ المنصف فى هذا القول، ووازن بينه وبينَ قول من يحدد مدةَ الرضاع المُحرِّمِ بخمسة وعشرين شهراً، أو ستة وعشرين شهراً أو سبعة وعشرين شهراً، أو ثلاثين شهراً من تلك الأقوال التى لا دليل عليها مِن كتاب اللَّه، أو سُنة رسوله، ولا قوِلِ أحد من الصحابة، تبيَّن له فضلُ ما بين القولين، فهذا منتهى أقدام الطائفتين فى هذه المسألة، ولعل الواقف عليها لم يكن يخطر له أن هذا القول تنتهى قوتُه إلى هذا الحد، وأنه ليس بأيدى أصحابه قدرةٌ على تقديره وتصحيحه، فاجلس أيها العالمُ المنصف مجلِسَ الحَكَم بين هذين المتنازعين، وافصل بينهما بالحجةِ والبيان لا بالتقليد، وقال فلان.
واختلف القائلون بالحولين فى حديث سهلة هذا على ثلاثة مسالك، أحدها: أنه منسوخ، وهذا مسلكُ كثير منهم، ولم يأتوا على النسخ بحجة سوى الدعوى، فإنهم لا يُمكنهم إثباتُ التاريخ المعلوم التأخر بينه وبينَ تلك الأحاديث. ولو قلَبَ أصحابُ هذا القول عليهم الدعوى، وادعوا نسخَ تلك الأحاديث بحديث سهلة، لكانت نظيرَ دعواهم.
وأما قولهم: إنها كانت فى أوَّلِ الهجرة، وحين نزول قوله تعالى:{ادْعُوهُمْ لآبائِهِمْ} [الأحزاب: 5]، ورواية ابن عباس رضى اللَّه عنه، وأبى هريرة بعد ذلك، فجوابه من وجوه.أحدها: أنهما لم يصرحا بسماعه مِن النبى صلى الله عليه وسلم، بل لم يسمع منه ابنُ عباس إلا دونَ العشرين حديثاً، وسائرُها عن الصحابة رضى اللَّه عنهم.
الثانى: أن نساء النبىِّ صلى الله عليه وسلم لم تحتج واحدةٌ منهن، بل ولا غيرُهن على عائشة رضى اللَّه عنها بذلك، بل سلكن فى الحديث بتخصيصه بسالم، وعدم إلحاق غيره به.
الثالث: أن عائشةَ رضى اللَّه عنها نفسَها روت هذا وهذا، فلو كان حديثُ سهلة منسوخاً، لكانت عائشةُ رضى اللَّه عنها قد أخذت به، وتركتِ الناسخَ، أو خفى عليها تقدُّمه مع كونها هى الراوية له، وكلاهما ممتنع، وفى غاية البعد.
الرابع: أن عائشةَ رضى اللَّه عنها ابتُليت بالمسألة، وكانت تعمَلُ بها، وتُناظر عليها، وتدعو إليها صواحباتِها فلها بها مزيدُ اعتناء، فكيف يكون هذا حُكماً منسوخاً قد بطل كونهُ من الدين جملة، ويخفى عليها ذلك، ويخفى على نساءِ النبى صلى الله عليه وسلم فلا تذكُرُه لها واحدةٌ منهن.
المسلك الثانى: أنه مخصوص بسالم دون من عداه، وهذا مسلك أمِّ سلمة ومَنْ معها من نساء النبى صلى الله عليه وسلم ومَنْ تبعهن، وهذا المسلكُ أقوى مما قبله، فإن أصحابه قالوا مما يُبين اختصاصَه بسالم أن فيه: أن سهلة سألت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بعد نزول آية الحجاب، وهى تقتضى أنه لا يَحِلُّ للمرأة أن تُبدى زينتها إلا لمن ذكر فى الآية وسُمِّىَ فيها، ولا يُخص من عموم من عداهم أحد إلا بدليل. قالُوا: والمرأة إذا أرضعت أجنبياً، فقد أبدت زينتها له، فلا يجوزُ ذلك تمسكاً بعموم الآية، فعلمنا أن إبداء سهلة زينتها لسالم خاصٌّ به. قالوا: وإذا أمر رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم واحداً مِن الأمة بأمر، أو أباح له شيئاً أو نهاه عن شىء وليس فى الشريعة ما يُعارضه ثبت ذلك فى حق غيره من الأمة ما لم ينصَّ على تخصيصه، وأما إذا أمر الناس بأمرٍ، أو نهاهم عن شىء، ثم أمر واحداً من الأمة بخلاف ما أمرَ به الناس، أو أطلقَ له ما نهاهم عنه، فإن ذلك يكون خاصاً به وحدَه، ولا يقولُ فى هذا الموضع: إن أمره للواحد أمرٌ للجميع، وإباحته. للواحد إباحةٌ للجميع، لأن ذلك يُؤدى إلى إسقاط الأمر الأول، والنهى الأول، بل نقول: إنه خاص بذلك الواحد لتتفق النصوصُ وتأتلفَ ولا يُعارض بعضها بعضاً، فحرم اللَّه فى كتابه أن تبدىَ المرأةُ زينتها لغير مَحْرَمٍ، وأباح رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لسهلة أن تُبدى زينتها لسالم وهو غيرُ مَحْرَمٍ عند إِبداء الزينة قطعاً، فيكون ذلك رخصةً خاصة بسالم، مستثناة من عموم التحريم، ولا نقول: إن حكمها عام، فيبطل حكم الآية المحرمة.
قالوا: ويتعيَّن هذا المسلك لأنا لو لم نسلكه، لزمنا أحدُ مسلكين، ولا بد منهما إما نسخ هذا الحديث بالأحاديثِ الدالة على إعتبار الصِّغر فى التحريم، وإما نسخُها به، ولا سبيلَ إلى واحد من الأمرين لعدم العلم بالتاريخ، ولعدم تحقق المعارضة، ولإمكان العمل بالأحاديث كُلِّها، فإنا إذا حملنا حديثَ سهلة على الرخصة الخاصة، والأحاديث الأخرَ على عمومها فيما عدا سالماً، لم تتعارض، ولم ينسخ بعضُها بعضاً، وعُمِلَ بجميعها.
قالوا: وإذا كان النبىُّ صلى الله عليه وسلم قد بَّين أن الرضاع إنما يكون فى الحولين، وأنه إنما يكون فى الثدى، وإنما يكون قبل الفِطام، كان ذلك ما يَدُلُّ على أن حديث سهلة على الخصوص، سواء تقدم أو تأخر، فلا ينحصِرُ بيانُ الخصوص فى قوله هذا لك وحدك حتى يتعيَّن طريقاً.
قالوا: وأما تفسيرُ حديث ((إنَّما الرَّضَاعَةُ مِنَ المجَاعَةِ)) بما ذكرتموه، ففى غاية البُعد من اللفظ، ولا تتبادر إليه أفهامُ المخاطبين، بل القولُ فى معناه ما قاله أبو عُبيد والناس، قال أبو عبيد: قوله: ((إنما الرَّضاعةُ مِنَ المجاعة)) يقول: إن الذى إذا جاع كان طعامُه الذى يُشبعه اللبن، إنما هو الصبىُّ الرضيعُ. فأما الذى شبعُه من جوعه الطعامُ، فإن رضاعه ليس برضاع، ومعنى الحديث: إنَّما الرضاعُ فى الحولين قبل الفطام، هذا تفسير أبى عُبيد والناس، وهو الذى يتبادر فهمُه مِن الحديث إلى الأذهان، حتى لو احتمل الحديثُ التفسيرين على السواء، لكان هذا المعنى أولى به لمساعدة سائر الأحاديثِ لهذا المعنى، وكشفها له، وإيضاحها، ومما يبين أن غيرَ هذا التفسير خطأ، وأنه لا يَصحّ أن يُراد به رضاعة الكبير، أن لفظة ((المجاعة)) إنما تدل على رضاعة الصغير، فهى تُثبتُ رضاعة المجاعة، وتَنفى غيرها، ومعلوم يقيناً أنه إنما أراد مجاعةَ اللبن لا مجاعةَ الخبز واللحم، فهذا لا يخطُر ببالِ المتكلم ولا السامع، فلو جعلنا حكم الرضاعة عاماً لم يبق لنا ما ينفى ويُثبت. وسياق قوله: لما رأى الرجل الكبير، فقال: ((إنما الرضاعةُ مِن المجاعة)) يبينُ المرادِ، وأنه إنما يُحرِّم رضاعة من يجوعُ إلى لبن المرأة، والسياق يُنزِّلُ اللفظ منزلة الصريح، فتغيرُ وجهه الكريم صلوات اللَّهِ وسلامه عليه وكراهتُه لذلك الرجل، وقوله: ((انظرن مَنْ إخوانُكن)) إنما هو للتَحفظ فى الرضاعة، وأنها لا تُحرَّمُ كلَّ وقت، وإنما تُحَرِّمُ وقتاً دون وقت، ولا يفهم أحدٌ من هذا أنما الرضاعة ما كان عددُها خمساً فيعبر عن هذا المعنى بقوله: ((من المجاعة))، وهذا ضدُّ البيان الذى كان عليه صلى الله عليه وسلم.
وقولكم: إن الرضاعة تطرُدُ الجوع عن الكبير، كما تطرد الجوعَ عن الصغير كلام باطل، فإنه لا يُعهد ذو لحية يُشبِعُهُ رضاعُ المرأة ويَطْردُ عنه الجوع، بخلاف الصغير فإنه ليس له ما يقومُ مقامَ اللبن، فهو يَطْرُدُ عنه الجوع، فالكبير ليس ذا مجاعة إلى اللبن أصلاً، والذى يُوضِّحُ هذا أنه صلى الله عليه وسلم لم يُرِدْ حقيقة المجاعة، وإنما أراد مَظنتها وزمنها، ولا شك أنه الصِّغَرُ، فإن أبيتم إلا الظاهرية، وأنه أراد حقيقتها، لزمكم أن لا يُحرِّمَ رضاعُ الكبير إلا إذا ارتضع وهو جائعٌ، فلو ارتضع وهو شبعان لم يؤثر شيئاً.
وأما حديث الستر المصون، والحُرمة العظيمة، والحِمى المنيع، فرضىَ اللَّه عن أم المؤمنين، فإنها وإن رأت أن هذا الرضاع يُثبت المحرمية، فسائرُ أزواج النبىِّ صلى الله عليه وسلم يخالفنها فى ذلك، ولا يرينَ دخولَ هذا السِّتر المصون، والحِمى الرفيع بهذه الرضاعة، فهى مسألة اجتهاد، وأحدُ الحزبين مأجور أجراً واحداً، والآخر مأجورٌ أجرين، وأسعدُهما بالأجرين من أصاب حكم اللَّهِ ورسوله فى هذه الواقعة، فكل من المدخل للستر المصونِ بهذهِ الرضاعة، والمانع مِن الدخول فائز بالأجر، مجتهد فى مرضاة اللَّه وطاعة رسوله، وتنفيذ حكمه، ولهما أسوة بالنبيين الكريمين داودَ وسُلَيْمانِ اللذين أثنى اللَّه عليهما بالحِكمة والحُكم، وخصَّ بفهم الحُكومة أحدَهُما.