فصل في اختلافُهم فى الأقراء، هل هى الحيض أو الأطهار؟
 
ومن ذلك اختلافُهم فى الأقراء، هل هى الحيض أو الأطهار؟ فقال أكابر الصحابة: إنها الحيض، هذا قول أبى بكر، وعمر، وعثمان، وعلى، وابن مسعود، وأبى موسى، وعُبادة بن الصامت، وأبى الدرداء، وابن عباس، ومعاذ ابن جبل رضى اللَّه عنهم، وهو قولُ أصحاب عبد اللَّه ابن مسعود، كلهم كعلقمة، والأسود، وإبراهيم، وشُريح وقول الشعبى، والحسن، وقتادة، وقولُ أصحاب ابن عباس، سعيدِ ابن جبير، وطاووس، وهو قولُ سعيد بن المسيِّب، وهو قولُ أئمة الحديث: كإسحاق بن إبراهيم، وأبى عُبيد القاسم، والإمام أحمد رحمه اللَّه، فإنه رجع إلى القول به، واستقرَّ مذهبُه عليه، فليس له مذهب سواه، وكان يقول: إنها الأطهار، فقال فى رواية الأثرم: رأيتُ الأحاديث عمن قال: القروء الحيض، تختلِفُ. والأحاديث عمن قال: إنه أحقُّ بها حتى تدخل فى الحيضة الثالثة أحاديثُ صحاح قوية، وهذا النصُّ وحدَه هو الذى ظفر به أبو عمر بن عبد البر، فقال: رجع أحمد إلى أنَّ الأقراء: الأطهار، وليس كما قال: بل كان يقولُ هذا أولاً، ثم توقَّف فيه، فقال فى رواية الأثرم أيضاً: قد كنتُ أقول الأطهار، ثم وقفت كقول الأكابر، ثم جزم أنها الحيضُ، وصرح بالرجوع عن الأطهار، فقال فى رواية ابن هانىء. كنت أقول: إنها الأطهارُ، وأنا اليوم أذهبُ إلى أن الأقراء الحيض، قال القاضى أبو يعلى: وهذا هو الصحيح عن أحمد رحمه اللَّه، وإليه ذهب أصحابنا، ورجع عن قوله بالأطهار، ثم ذكر نصَّ رجوعه مِن رواية ابن هانىء كما تقدم، وهو قولُ أئمة أهل الرأى، كأبى حنيفة وأصحابه.
وقالت طائفة: الأقراء: الأطهار، وهذا قولُ عائشة أم المؤمنين وزيد بن ثابت، وعبد اللَّه بن عمر.
ويُروى عن الفقهاء السبعة، وأبان بن عثمان والزهرى، وعامة فقهاء المدينة، وبه قال مالك، والشافعى، وأحمد فى إحدى الروايتين عنه.
وعلى هذا القول، فمتى طلقها فى أثناءِ طهر، فهل تحتسب ببقيته قرءاً؟ على ثلاثة أقوال.
أحدها: تحتسب به، وهو المشهورُ.
والثانى: لا تحتسِبُ به، وهو قولُ الزهرى. كما لا تحتسِبُ ببقية الحيضة عند مَنْ يقول: القرء: الحيض اتفاقاً.
والثالث: إن كان قد جامعها فى ذلك الطهر، لم تحتسِب ببقيته، وإلا احتسبت، وهذا قولُ أبى عبيد. فإذا طعنت فى الحيضة الثالثة أو الرابعة على قول الزهرى، انقضت عدتها. وعلى قول الأول، لا تنقضى العدة حتى تنقضى الحيضةُ الثالثة.
وهَلْ يقِفُ انقضاء عدتها على اغتسالها منها؟ على ثلاثة أقوال. أحدها: لا تنقضى عدتها حتى تغتسل، وهذا هو المشهُورُ عن أكابرِ الصحابة، قال الإمام أحمد: وعمر، وعلى، وابن مسعود يقولون: له رجعتُها قبل أن تغتسِلَ مِن الحيضة الثالثة، انتهى. ورُوى ذلك عن أبى بكر الصديق، وعثمان بن عفان، وأبى موسى، وعبادة، وأبى الدرداء، ومعاذ بن جبل رضى اللَّه عنهم، كما فى مصنف وكيع، عن عيسى الخياط، عن الشعبى، عن ثلاثة عشر من أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم الخيَّر فالخيَّر، منهم: أبو بكر، وعمر، وابن عباس: أنه أحقُّ بها ما لم تغتسِلْ مِن الحيضة الثالثة.
وفى ((مصنفه)) أيضاً، عن محمد بن راشد، عن مكحول، عن معاذ ابن جبل وأبى الدرداء مثلُه.
وفى مصنف عبد الرزاق: عن معمر، عن زيد بن رفيع، عن أبى عُبيدة بن عبد اللَّه بن مسعود، قال: أرسل عثمان إلى أبىِّ بن كعب فى ذلك، فقال أبى بن كعب: أرى أنه أحق بها حتى تغتسل من حَيضتها الثالثة، وتحل لها الصلاةُ، قال: فما أعلم عثمان إلا أخذ بذلك.
وفى ((مصنفه)) أيضاً: عن عمر بن راشد، عن يحيى بن أبى كثير، أن عُبادة ابن الصامت قال: لا تبينُ حتى تغتسِلَ من الحَيْضَة الثالثة، وتَحِلُّ لها الصلاة.
فهولاء بضعة عشر من الصحابة، وهو قولُ سعيد بن المسيب، وسفيان الثورى وإسحاق بن راهوية. قال شريك: له الرجعة وإن فرَّطت فى الغسل عشرينَ سنة، وهذا إحدى الروايات عن الإمام أحمد رحمه اللَّه.
والثانى: أنها تنقضى بمجرد طهرها من الحيضة الثالثة، ولا تَقِفُ على الغسل، وهذا قولُ سعيد بن جبير والأوزاعى، والشافعى فى قوله القديم حيث كان يقول: الأقراء: الحيض، وهو إحدى الروايات عن الإمام أحمد اختارها أبو الخطاب.
والثالث: أنها فى عدتها بعد انقطاع الدم، ولِزوجها رجعتها حتى يمضى عليها وقتُ الصلاة التى طهرت فى وقتها، وهذا قولُ الثورى، والرواية الثالثة عن أحمد: حكاها أبو بكر عنه، وهو قولُ أبى حنيفة رحمه اللَّه، لكن إذا انقطع الدم لأقلِّ الحيض، وإن انقطع الدم لأكثره، إنقضتِ العدة عنها بمجردِ انقطاعه.
وأما من قال: إنها الأطهار، اختلفوا فى موضعين، أحدهما: هل يشترط كون الطهر مسبوقاً بدم قبله، أو لا يُشترط ذلك؟ على قولين لهم، وهما وجهان فى مذهب الشافعى وأحمد. أحدهما: يُحتسب، لأنه طهر بعده حيض فكان قرءاً، كما لو كان قبله حيض. والثانى: لا يُحتسب، وهو ظاهر نص الشافعى فى الجديد، لأنها لا تُسمى من ذوات الأقراء إلا إذا رأت الدم.
الموضع الثانى: هل تنقضى العدة بالطعن فى الحيضة الثالثة أو لا تنقضى حتى تحيضَ يوماً وليلةً؟ على وجهين لأصحاب أحمد، وهما قولان منصوصان للشافعى، ولأصحابه وجه ثالث: إن حاضت للعادة، انقضت العِدةُ بالطعن فى الحيضة. وإن حاضت لِغير العادة، بأن كانت عادتها ترى الدم فى عاشر الشهر، فرأته فى أوله، لم تنقضِ حتى يمضَى عليها يوم وليلة. ثم اختلفوا: هل يكون هذا الدم محسوباً من العدة؟ على وجهين، تظهرُ فائدتهما فى رجعتها فى وقته، فهذا تقرير مذاهب الناس فى الأقراء.
قال من نص: إنها الحيض: الدليل عليه وجوه.
أحدها: أن قولَه تعالى: {يَتَرَبَّصْنَ بِأنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُروُء} [البقرة: 228]، إما أن يراد به الأطهار فقط، أو الحيض فقط، أو مجموعُهما. والثالث: محال إجماعاً، حتى عند من يَحمِلُ اللفظ المشترك على معنييه. وإذا تعيَّن حمله على أحدهما، فالحيض أولى به لوجوه.
أحدها: أنها لو كانت الأطهار فالمعتدة بها يكفيها قَرآنِ، ولحظةُ من الثالث، وإطلاق الثلاثة على هذا مجاز بعيد لنصية الثلاثة فى العدد المخصوص.
فإن قلتم: بعض الطهر المطلق فيه عندنا قرء كامل، قيل: جوابه مِن ثلاثة أوجه.
أحدها: أن هذا مختلف فيه كما تقدم، فلم تُجمع الأمة على أن بعض القَرء قرء قطُّ، فدعوى هذا يفتقِرُ إلى دليل.
الثانى: أن هذا دعوى مذهبية، أوجب حملَ الآية عليها إلزامُ كون الأقراء الأطهار، والدعاوى المذهبية لا يُفسَّرُ بها القرآن، وتُحمل عليها اللغة، ولا يُعقل فى اللغة قطُّ أن اللحظة من الطُّهر تُسمى قرءاً كاملاً، ولا اجتمعت الأمة على ذلك، فدعواه لا تثبت نقلاً ولا إجماعاً، وإنما هو مجرد الحمل، ولا ريب أن الحمل شىء، والوضع شىء آخر، وإنما يُفيد ثبوتُ الوضع لغة أو شرعاً أو عرفاً.
الثالث: أن القرء إما أن يكون اسماً لمجموع الطهر، كما يكون اسماً لمجموع الحيضة أو لبعضه، أو مشتركاً بين الأمرين اشتراكاً لفظيًّا، أو اشتراكاً معنويًّا، والأقسام الثلاثة باطلةٌ فتعيَّن الأول، أما بطلانُ وضعه لبعض الطهر، فلأنه يلزمُ أن يكون الطهرُ الواحِدُ عدَّةَ أقراء، ويكون استعمالُ لفظ ((القرء)) فيه مجازاً. وأما بطلانُ الاشتراك المعنوى، فمن وجهين، أحدهما: أنه يلزم أن يصْدُق على الطهر الواحد أنه عِدة أقراء حقيقة. والثانى: أن نظيرَهَ وهو الحيض لا يُسمى جزؤه قرءاً اتفاقاً، ووضع القرء لهما لغة لا يختلِفُ، وهذا لاخفاء به.
فإن قيل: تختار من هذه الأقسام أن يكون مشتركاً بين كُلِّه وجزُئه اشتراكاً لفظيًّا، ويُحمل المشترك على معنييه، فإنه أحفظُ، وبه تحصل البراءة بيقين. قيل: الجوابُ من وجهين. أحدهما: أنه لا يَصِحُّ اشتراكه كما تقدم. الثانى: أنه لو صح اشتراكه، لم يجز حملُه على مجموع معنييه.
أما على قول من لا يُجوِّزُ حمل المشترك على معنييه، فظاهر، وأما من يُجوِّز حمله عَليهما، فإنما يُجوزونه إذا دل الدليل على إرادتهما معاً. فإذا لم يدل الدليل وقفوه حتى يقوم الدليل على إرادة أحدهما، أو إرادتهما، وحكى المتأخرون عن الشافعى، والقاضى أبى بكر، أنه إذا تجرَّد عن القرائن، وجب حملُه على معنييه، كالاسم العام لأنه أحوط، إذ ليس أحدهما أولى به من الآخر، ولا سبيل إلى معنى ثالث، وتعطيلُهُ غير ممكن، ويمتنِعُ تأخيرُ البيان عن وقت الحاجة. فإذا جاء وقتُ العمل، ولم يتبيَّنْ أن أحدَهما هو المقصود بعينه، عُلِمَ أن الحقيقة غيرُ مرادة، إذ لو أريدت لبيّنت، فتعيَّن المجازُ، وهو مجموع المعنيين، ومن يقول: إن الحمل عليهما بالحقيقة يقول: لما لم يتبين أن المرادَ أحدهما علم أنه أراد كليهما.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه اللَّه: فى هذه الحكاية عن الشافعى والقاضى نظر، أما القاضى، فمن أصله الوقف فى صيغ العموم، وأنه لا يجوز حملُها على الاستغراق إلا بدليل، فمن يَقِفُ فى ألفاظ العموم كيف يَجْزِمُ فى الألفاظ المشتركة بالاستغراقِ من غير دليل وإنما الذى ذكره فى كتبه إحالة الاشتراك رأساً، وما يُدعى فيه الاشتراك، فهو عنده من قبيل المتواطىء، وأما الشافعى، فمنصبُه فى العلم أجلُّ من أن يقول مثل هذا، وإنما استنبط هذا من قوله: إذا أوصى لمواليه تناول المولى مِن فوق ومِنْ أسفل، وهذا قد يكونُ قاله لاعتقاده أن المولى من الأسماء المتواطِئة، وأن موضعه القدر المشترك بينهما، فإنه من الأسماء المتضايقة، كقوله ((منْ كُنْتُ مَوْلاَهُ فَعَلي مَوْلاَهُ)) ولا يلزمُ مِن هذا أن يُحكى عنه قاعدة عامة فى الأسماء التى ليس من معانيها قدرٌ مشترك أن تُحمَلَ عند الإطلاق على جميع معانيها.
ثم الذى يَدلُّ على فساد هذا القول وجوه.
أحدها: أن استعمال اللفظ فى معنييه إنما هو مجاز، إذ وَضْعهُ لِكل واحد منهما على سبيل الانفراد هو الحقيقة، واللفظُ المطلق لا يجوزُ حمله على المجاز، بل يجب حملُه على حقيقته.
الثانى: أنه لو قُدِّرَ أنه موضوع لهما منفردين، ولكل واحد منهما مجتمعين، فإنه يكون له حينئذ ثلاثةُ مفاهيم، فالحمل على أحد مفاهيمه دونَ غيره بغير موجب ممتنع.
الثالث: أنه حينئذ يستحيلُ حملُه على جميع معانيه، إذ حملُه على هذا وحدَه، وعليهما معاً مستلزم للجمع بين النقيضين، فيستحيلُ حملُه على جميع معانيه، وحملُه عليهما معاً حملٌ له على بعض مفهوماته، فحملُه على جميعها يُبطِلُ حمله على جميعها.
الرابع: أن ههنا أموراً. أحدها: هذه الحقيقة وحدها، والثانى: الحقيقة الأخرى وحدها، والثالث: مجموعهما، والرابع: مجاز هذه وحدها، والخامس: مجاز الأخرىوحدها، والسادس: مجازهما معاً، والسابع: الحقيقة وحدَها مع مجازِها، والثامن: الحقيقة مع مجاز الأخرى. والتاسع: الحقيقةُ الواحدة مع مجازهما، والعاشر: الحقيقة الأخرى مع مجازها، والحادى عشر: مع مجاز الأخرى، والثانى عشر: مع مجازهما، فهذه اثنا عشر محملاً بعضها على سبيل الحقيقة، وبعضها على سبيل المجاز، فتعيين معنى واحد مجازى دونَ سائر المجازات، والحقائق ترجيحٌ مِن غير مرجح، وهو ممتنع.
الخامس: أنه لو وجب حملُه علىالمعنيين جميعاً لصار من صيغ العموم، لأن حكم الاسم العام وجوبُ حمله على جميع مفرداته عند التجرد مِن التخصيص، ولو كان كذلك، لجاز استثناء أحدِ المعنيين منه، ولسبق إلى الذهن منه عند الإطلاق العموم، وكان المستعمِلُ له فى أحد معنييه بمنزلة المستعملِ للاسم العام فى بعض معانيه، فيكون متجوزاً فى خطابه غير متكلم بالحقيقة، وأن يكون من استعمله فى معنييه غيرَ محتاج إلى دليل، وإنما يحتاج إليه من نفى المعنى الآخر، ولوجب أن يفهم منه الشمول قبل البحث عن التخصيص عند من يقول بذلك فى صيغ العموم، ولا ينفى الإجمِال عنه، إذ يصيرُ بمنزلة سائر الألفاظ العامة، وهذا باطل قطعاً، وأحكام الأسماء المشتركة لا تُفارق أحكام الأسماء العامة، وهذا مما يعلم بالاضطرار من اللغة، ولكانت الأمة قد أجمعت فى هذه الآية على حملها على خلاف ظاهرها ومطلقها إذ لم يصر أحدٌ منهم إلى حمل ((القرء)) على الطهر والحيض معاً، وبهذا يتبين بطلان قولهم: حمله عليهما أحوطُ، فإنه لو قُدِّرَ حملُ الآية على ثلاثةِ من الحيض والأطهار، لكان فيه خروجٌ عن الاحتياط. إن قيل: نحمله على ثلاثة من كل منهما، فهو خلاف نص القرآن إذ تصير الأقراء ستة.
قولهم: إما أن يُحمل على أحدهما بعينه، أو عليهما إلى آخره قلنا: مثلُ هذا لا يجوز أن يَعرى عن دلالة تُبين المراد منه كما فى الأسماء المجملة، وإن خفيت الدلالة على بعض المجتهدين، فلا يلزمُ أن تكون خفية عن مجموع الأمة، وهذا هو الجواب عن الوجه الثالث، فالكلام، إذا لم يكن مطلقُه يدل على المعنى المراد، فلا بد من بيان المراد. وإذا تعين أن المراد بالقرء فى الآية أحدُهما لا كلاهما، فإرادة الحيض أولى لوجوه. منها: ما تقدم.
الثانى: أن استعمال القرء فى الحيض أظهر منه فى الطهر، فإنهم يذكرونه تفسيراً للفظه، ثم يُردفونه بقولهم: وقيل، أو قال فلان، أو يقال، على الطهر، أو وهو أيضاً الطهر، فيجعلون تفسيره بالحيض كالمستقر المعلوم المستفيض، وتفسيره بالطهرِ قول قيل. وهاك حكايةُ ألفاظهم. قال الجوهرى: القَرء بالفتح: الحيض، والجمع أقراء وقُروء، فى الحديث: ((لا صَلاَةَ أَيَّامَ أقْرائِك)).
القَرء أيضاً: الطهر، وهو من الأضداد.وقال أبو عُبيد: الأقراء: الحيض، ثم قال: الأقراء الأطهار، وقال الكِسائى: والفَراء أقرأتِ المرأة: إذا حاضت. وقال ابن فارس: القُروء: أوقات، يكون للطهر مرة، وللحيض مرة، والواحد قَرء ويقال: القرء: وهو الطهر، ثم قال: وقوم يذهبون إلى أن القرء الحيض، فحكي قولَ مَنْ جعله مشتركاً بين أوقات الطهر والحيض، وقولَ من جعله لأوقات الطهر، وقولَ من جعله لأوقات الحيض، وكأنه لم يختر واحداً منهما، بل جعله لأوقاتهما. قال: وأقرأت المرأة إذا خرجت من حيض إلى طهر، ومن طهر إلى حيض، وهذا يدل على أنه لا بُدَّ من مسمى الحيض فى حقيقته يُوضح أن من قال: أوقاتُ الطهر تُسمى قروءاً، فإنما يريد أوقات الطهر التى يحتوِشُها الدم، وإلا فالصغيرة والآيسة لا يقال لزمن طهرهما أقراء، ولا هُما مِن ذوات الأقراء بإتفاق أهل اللغة.
الدليل الثانى: أن لفظ القرء لم يستعمل فى كلام الشارع إلا للحيض، ولم يجىء عنه فى موضع واحد استعمالُه للطهر، فحملُه فى الآية على المعهود المعروفِ من خطاب الشارع أولى، بل متعين، فإنه صلى الله عليه وسلم قال للمستحاضة: ((دَعى الصَّلاَةَ أَيَّامَ أَقْرَائِكِ)) وهو صلى الله عليه وسلم المعبِّرُ عن اللَّه تعالى، وبلغة قومِه نزل القرآنُ، فإذا ورد المشتركُ فى كلامِهِ على أحد معنييه، وجب حملُه فى سائر كلامه عليه إذا لم تثبت إرادة الآخر فى شىء من كلامه البتة، ويصيرُ هو لغةَ القرآن التى خوطبنا بها، وإن كان له معنى آخر فى كلام غيره، ويصير هذا المعنى الحقيقة الشرعية فى تخصيص المشترك بأحد معنييه، كما يُخَصُّ المتواطىءُ بأحد أفراده، بل هذا أولى، لأن أغَلبَ أسباب الاشتراك تسمية أحدِ القبيلتين الشىء باسم، وتسمية الأخرى بذلك الاسم مسمى آخر، ثم تشيع الاستعمالات، بل قال المبرَّد وغيره: لا يقع الاشتراكُ فى اللغة إلا بهذا الوجه خاصة، والواضع لم يضع لفظاً مشتركاً البتة، فإذا ثبت استعمالُ الشارع لفظ القروء فى الحيض، علم أن هذا لغته، فيتعينُ حملُه على ما فى كلامه. ويوضح ذلك ما فى سياق الآية مِن قوله: {ولاَ يَحِّلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فى أَرْحَامِهِنَّ} [البقرة: 228] وهذا هو الحيضُ، والحمل عند عامة المفسرين، والمخلوق فى الرحم إنما هو الحيض الوجودى، ولهذا قال السلف والخلف: هو الحمل والحيض، وقال بعضُهم: الحمل، وبعضهم: الحيض، ولم يقل أحد قطُّ: إنه الطهر، ولهذا لم ينقله من عُنىَ بجمع أقوال أهل التفسير، كابن الجوزى وغيره. وأيضاً فقد قال سبحانه: {واللاَّئى يَئِسْنَ مِنَ المحيضِ مِنْ نِسَائِكُم إن ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاَثَةُ أشْهُرٍ، واللاَّئىْ لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق: 4]، فجعل كُلَّ شهر بإزاء حيضة، وعلَّق الحكم بعدم الحيض لا بعدم الطهر من الحيض.
وأيضاً فحديث عائشة رضى اللَّه عنها عن النبى صلى الله عليه وسلم:
((طَلاَقُ الأَمَةِ تَطْليقَتَانِ، وَعِدَّتُها حَيْضَتَانِ))، رواه أبو داود، ابن ماجه، والترمذى وقال: غريب لا نعرفه إلاّ من حديث مظاهر ابن أسلم، ومظاهر لا يُعرف له فى العلم غير هذا الحديث، وفى لفظ للدارقطنى فيه: ((طلاقُ العَبْدِ ثِنْتان))، وروى ابن ماجه من حديث عَطية العَوْفى، عن ابن عمر رضى اللَّه عنهما قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ((طَلاَقُ الأَمَةِ اثْنَتَانِ، وعِدَّتُها حَيْضَتَانِ)). أيضاً: قال ابن ماجه فى سننه: حدثنا على بن محمد، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة رضى اللَّه عنها قالت: أمرت بريرة أن تعتدَّ ثلاث حيض.وفى ((المسند)): عن ابن عباس رضى اللَّه عنهما، أن النبى صلى الله عليه وسلم خير بريرة، فاختارت نفسها، وأمرها أن تعتد عدة الحرة. وقد فسر عدة الحرة بثلاث حيض فى حديث عائشة رضى اللَّه عنها. فإن قيل: فمذهب عائشة رضى اللَّه عنها، أن الأقراء: الأطهار؟ قيل: ليس هذا بأول حديث خالفه روايه، فأخذ بروايته دون رأيه، وأيضاً ففى حديث الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذ، أن النبى صلى الله عليه وسلم أمر امرأة ثابتِ بنِ قيس ابن شمَّاس لما اختلعت من زوجها أن تتربَّص حيضة واحدة، وتلحق بأهلها، رواه النسائى.
وفى سنن أبى داود عن ابن عباس رضى اللَّه عنهما، أن امرأة ثَابت ابن قَيْس اخْتَلَعَتْ مِنْ زَوْجِهَا، فأمرها النبىُّ صلى الله عليه وسلم أن تعتدَّ بحَيْضةٍ.
وفى الترمذى: أن الرُّبَيِّعَ بنتَ معوذ اختلعَت على عهدِ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فأمرها النبىُّ صلى الله عليه وسلم أو أمِرَتْ أن تَعتَدَّ بحيضة. قال الترمذى: حديث الرُّبَيِّعِ الصحيحُ أنها أُمِرَتْ أن تعتد بحيضة. وأيضاً، فإن الاستبراء هو عِدَّةُ الأمة، وقد ثبت عن أبى سعيد: أن النبىَّ صلى الله عليه وسلم قال فى سبايا أوطاس: ((لاَ تُوَطأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ وَلاَ غَيْرُ ذَاتِ حَمْلِ حَتَّى تَحيضَ حَيْضَةً)) رواه أحمد وأبو داود.
فإن قيل: لا نسلِّم أن استبراء الأمة بالحيضة، وإنما هو بالطهر الذى هو قبلَ الحيضة، كذلك قال ابنُ عبد البر، وقال: قولهم: إن استبراء الأمة حيضة بإجماع ليس كما ظنُّوا، بل جائز لها عندنا أن تنكِحَ إذا دخلت فى الحيضة، واستيقنت أن دمَها دمُ حيض، كذلك قال إسماعيل بن إسحاق ليحيى بن أكثم حين أدخل عليه فى مناظرته إياه.
قلنا: هذا يردُّه قولُه صلى الله عليه وسلم: ((لاَ تُوطَأُ الحَامِلُ حَتَى تَضَعَ وَلا حَائِلٌ حَتَى تُسْتَبْرأ بِحَيْضَةٍ)).
وأيضاً فَالمقصودُ الأصلى مِن العدة إنما هو استبراءُ الرحم، وإن كان لها فوائد أخر، ولِشرف الحرة المنكوحة وخطرها، جعل العلم الدال على براءة رحمها ثلاثة أقراء، فلو كان القرء: هو الطهر، لم تحصل بالقرء الأول دلالة، فإنه لو جامعها فى الطهر، ثم طلقها، ثم حاضت كان ذلك قرءاً محسوباً من الأقراء عند من يقول: الأقراء الأطهار. ومعلوم: أن هذا لم يدل على شىء، وإنما الذى يَدُلُّ على البراءة الحيض الحاصل بعد الطلاق، ولو طلقها فى طهر، لم يُصبها فيه، فإنما يعلم هنا براءة الرحم بالحيض الموجود قبلَ الطلاق، والعِدة لا تكونُ قبل الطلاق لأنها حُكمه، والحكم لا يسبِقُ سببه، فإذا كان الطهرُ الموجود بعد الطلاق لا دلالة له على البراءة أصلاً، لم يجز إدخالهُ فى العِدد الدالة على براءة الرحم، وكان مثلُه كمثل شاهدٍ غيرِ مقبول، ولا يجوزُ تعليقُ الحكم بشهادة شاهد لا شهادة له، يُوضحه أن العدة فى المنكوحات، كالاستبراء فى المملوكات.
وقد ثبت بصريح السنة أن الاستبراء بالحيض لا بالطُّهر، فكذلك العِدَّةُ إذ لا فرق بينهما إلا بتعدد العِدة، والاكتفاءُ بالاستبراء بقرء واحد، وهذا لا يُوجب اختلافهما فى حقيقة القرء، وإنما يختلفان فى القدر المعتبر منهما، ولهذا قال الشافعى فى أصحَّ القولين عنه: إن استبراء الأمة يكون بالحيض، وفرق أصحابه بين البابين، بأن العدة وجبت قضاء لحق الزوج، فاختصَّت بأزمان حقه، وهى أزمان الطهر، وبأنها تتكرر، فتُعلم معها البراءة بتوسط الحيض بخلاف الاستبراء، فإنه لا يتكرر، والمقصودُ منه مجرد البراءة، فاكتفى فيه بحيضة. وقال فى القول الآخر: تُستبرأ بطهر طرداً لأصله فى العِدد، وعلى هذا، فهل تُحتسب ببعض الطهر؟ على وجهين لأصحابه، فإذا احتُسِبَتْ به، فلا بُد من ضمِّ حيضة كاملة إليه. فإذا طعنت فى الطهر الثانى، حلَّت، وإن لم تحتسب به، فلا بُدَّ من ضمِّ طهر كامل إليه، ولا تحتسب ببعض الطهر عنده قرءاً قولاً واحداً.
والمقصود: أن الجمهورَ على أن عدة الاستبراء حيضة لا طُهر، وهذا الاستبراء فى حق الأمة كالعِدة فى حق الحرة، قالوا: بل الاعتداد فى حق الحرة بالحيض أولى من الأمة من وجهين.
أحدهما: أن الاحتياط فى حقها ثابت بتكرير القرء ثلاث استبراءات، فهكذا ينبغى أن يكونَ الاعتدادُ فى حقها بالحيض الذى هو أحوطُ مِن الطهر، فإنها لا تُحسب بقية الحيضة قرءاً، وتُحتسب ببقية الطهر قرءاً.
الثانى: أن استبراء الأمة فرع عدة الحُرَّةِ، وهى الثابتة بنص القرآن، والاستبراء إنما ثبت بالسنة، فإذا كان قد احتاط له الشارعُ بأن جعله بالحيض، فاستبراء الحرة أولى، فعِدة الحرة استبراء لها، واستبراء الأمة عِدة لها.
وأيضاً فالأدلة والعلامات والحدود والغايات إنما تحصُل بالأمور الظاهرة المتميِّزة عن غيرها، والطهرُ هو الأمر الأصلى، ولهذا متى كان مستمراً مستصحباً لم يكن له حكم يُفرد به فى الشريعة، وإنما الأمر المتميز هو الحيضُ، فإن المرأة إذا حاضت تغيَّرت أحكامُها مِن بلوغها، وتحريم العبادات عليها من الصلاة والصوم والطواف واللُّبث فى المسجد وغيرِ ذلك من الأحكام.
ثم إذا إنقطع الدمُ واغتسلت، فلم تتغير أحكامُها بتجدد الطهر، لكن لزوال المغير الذى هو الحيض، فإنها تعود بعد الطهر إلى ما كانت عليه قبل الحيض من غير أن يُجدد لها الطهر حكماً، والقرء أمر يُغير أحكام المرأة، هذا التغييرُ إنما يحصل بالحيض دون الطهر. فهذا الوجه دال على فساد قول من يحتسب بالطهر الذى قبل الحيضة قرءاً فيما إذا طلقت قبل أن تحيض، ثم حاضت، فإن من اعتد بهذا الطهر قرءاً، جعل شيئاً ليس له حكم فى الشريعة قرءاً من الأقراء، وهذا فاسد.
(