فصل في من جعل الأقراء الأطهار : مقام الجواب عن الأدلة
 
وأما المقام الآخر، وهو الجواب عن أدلتكم: فنُجيبكم بجوابين مجملٍ ومفصل.
أما المجمل: فنقولُ: من أنزل عليه القرآن، فهو أعلمُ بتفسيره، وبمراد المتكلم به من كل أحد سواه، وقد فسر النبىُّ صلى الله عليه وسلم العدة التى أمر اللَّهُ أن تُطلَّق لها النساءُ بالأطهار، فلا التفاتَ بعد ذلك إلى شىء خالفه، بل كُلُّ تفسير يُخالف هذا فباطل. قالُوا: وأعلم الأمة بهذه المسألة أزواجُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وأعلمُهن بها عائشة رضى اللَّه عنها، لأنها فيهن لا فى الرجال، ولأن اللَّه تعالى جعل قولَهن فى ذلك مقبولاً فى وجود الحيض والحمل، لأنه لا يُعلم إلا مِن جهتهن، فدلَّ على أنهنَّ أعلمُ بذلك من الرجال، فإذا قالت أمُّ المؤمنين رضى اللَّه عنها: إن الأقراء الأطهار.
فَقَدْ قَاَلتْ حَذَامِ فَصَدِّقُوهَا فَإنَّ القَوْلَ مَا قَالَتْ حَذَام
قالوا: وأما الجوابُ المفصَّلُ، فَنُفْرِدُ كلَّ واحد مِن أدلتكم بجواب خاص، فهاكم الأجوبة.
أما قولكم: إما أن يُراد بالأقراء فى الآية الأطهار فقط، أو الحيض فقط، أو مجموعُهما إلى آخره.
فجوابُه أن نقول: الأطهار فقط، لما ذكرنا من الدلالة. قولُكم النص اقتضى ثلاثة إلى آخره. قلنا: عنه جوابان.
أحدهما: أن بقية الطهر عندنا قرء كامل، فما اعتدت إلا بثلاثِ كوامل.
الثانى: أن العرب تُوقِع اسم الجمع على اثنين، وبعضَ الثالث، كقوله تعالى: {الحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197]، فإنها شوال، وذو القعدة، وعشر من ذى الحجة أو تسع، أو ثلاثة عشر. ويقولون: لفلان ثلاث عشرة سنة، إذا دخل فى السنة الثالثة عشر. فإذا كان هذا معروفاً فى لُغتهم، وقد دل الدليلُ عليه، وجب المصيرُ إليه.
وأما قولكم: إن استعمال القرء فى الحيض أظهر منه فى الطهر، فمقابَل بقولِ منازعيكم.
قولكم: إن أهل اللغة يُصدرون كتبهم بأن القرء هو الحيض، فيذكرونه تفسيراً للفظ، ثم يُردفونه بقولهم: بقيل، أو وقال بعضهم: هو الطهر.
قلنا: أهل اللغة يحكون أن له مسميين فى اللغة، ويُصرحون بأنه يُقال على هذا وعلى هذا، ومنهم من يجعله فى الحيض أظهر، ومنهم من يحكى إطلاقه عليهما من غير ترجيح، فالجوهرى: رجَّح الحيض. والشافعى من أئمة اللغة، وقد رجح أنه الطهر، وقال أبو عبيد: القرء يصلحُ للطهر والحيض، وقال الزجاج: أخبرنى من أثق به، عن يونس، أن القرء عنده يصلحُ للطهر والحيض، وقال أبو عمرو بن العلاء: القرء الوقت، وهو يصلُح للحيض، ويصلح للطهر، وإذا كانت هذه نصوص أهل اللغة، فكيف يحتجون بقولهم: إن الأقراء الحيض؟
قولكم: إن من جعله الطهر، فإنه يُريد أوقات الطهر التى يحتوشُها الدم، وإلا فالصغيرة والآية ليستا مِن ذوات الأقراء، وعنه جوابان.
أحدهما: المنع، بل إذا طلقت الصغيرة التى لم تحض ثم حاضت، فإنها تعتد بالطُّهر الذى طُلِّقت فيه قرءاً على أصح الوجهين عندنا، لأنه طهر بعده حيض، وكان قرءاً كما لو كان قبله حيض.
الثانى: إنا وإن سلمنا ذلك، فإن هذا يدل على أن الطهر لا يُسمى قرءاً حتى يحتوِشَهُ دمانِ، وكذلك نقولُ: فالدم شرط فى تسميته قرءاً، وهذا لا يدل على أنَّ مسماه الحيض، وهذا كالكأس الذى لا يُقال على الإناء إلا بشرط كون الشراب فيه وإلا فهو زُجاجة أو قدح، والمائدة التى لا تُقال للخِوان إلا إذا كان عليه طعام، وإلا فهو خِوان، والكوز الذى لا يقال لمسماه: إلا إذا كان ذا عُروة، وإلا فهو كُوب، والقلم الذى يُشترط فى صحة إطلاقه على القصبة كونها مبرية، وبدون البرى، فهو أنبوب أو قصبة، والخاتم شرط إطلاقه أن يكون ذا فَصٍّ منه أَوْ مِنْ غيره، وإلا فهو فَتْحَةٌ، والفرو شرطُ إطلاقه على مسماه الصوف، وإلا فهو جلد. والرِّيطة شرط إطلاقها على مسماها أن تكون قِطعة واحدة، فإن كانت مُلفقة من قطعتين، فهى مُلاءة، والحُلة شرط إطلاقها أن تكون ثوبين، إزار ورداء، وإلا فهو ثوب، والأريكة لا تقال على السرير إلا إذا كان عليه حَجَلَة، وهى التى تُسمى بشخانة وخركاه، وإلا فهو سرير، واللَّطيمة لا تُقال للجِمال إلا إذا كان فيها طيب، وإلا فهى عِيْرٌ، والنَّفَق لا يقال إلا لما له منفذ، وإلا فهو سَرَبٌ، والعِهْنُ لا يقال للصوف إلا إذا كان مصبوغاً، وإلا فهو صوف، والخِدْر لا يقال إلا لما اشتمل على المرأة وإلا فهو سِتْر. والمِحْجَنُ لا يقال للعصا إلا إذا كان مَحْنَّيةِ الرأس، وإلا فهى عصا. والرَّكِيَّةُ لا تقال على البئر إلا بشرط كون الماء فيها، وإلا فهى بئر. والوَقُود لا يقال للحطب إلا إذا كانت النار فيه، وإلا فهو حطب، ولا يقال للتراب ثَرَى إلا بشرط نداوته، وإلا فهو تراب. ولا يقال للرسالة: مُغَلْغَلَة، إلا إذا حُمِلَتْ من بلد إلى بلد، وإلا فهى رسالة، ولا يقال للأرض فَرَاح إلا إذا هُيئت للزراعة، ولا يقال لهروب العبد: إباق إلا إذا كان هروبُه مِن غير خوف ولا جُوع ولا جَهد، وإلا فهو هروب، والريق لا يقال له رُضاب إلا إذا كان فى الفم، فإذا فارقه فهو بُصاق وبُساق والشجاعُ لا يقال له: كَمى إلا إذا كان شاكى السلاح، وإلا فهو بطل وفى تسميته بطلاً قولان أحدهما: لأنه تُبْطِلُ شجاعته قِرنه وضربه وطعنه والثانى: لأنه تَبْطُلُ شجاعةُ الشجعان عنده، فعلى الأول، فهو فَعَلَ بمعنى فاعل، وعلى الثانى، فَعَل بمعنى مفعول، وهو قياسُ اللغة. والبعير لا يقال له: راوية إلا بشرط حمله للماء، والطبق لا يُسمى مِهْدَى إلا أن يكون عليه هدية، والمرأة لا تُسمى ظَعينة إلا بشرطِ كونها فى الهودج، هذا فى الأصل، وإلا فقد تُسمى المرأة ظعينة، وإن لم تكن فى هودج، ومنه فى الحديث: ((فَمرَّتْ ظُعُنٌ يَجْرِينَ)) والدلو لا يُقال له: سَجْل إلا ما دام فيه ماء، ولا يُقال لها: ذَنوب، إلا إذا امتلأت به، والسريرُ لا يقال له: نعش، إلا إذا كان عليه ميِّت، والعظمُ لا يقال له: عَرْق، إلا إذا اشتمل عليه لحم، والخيطُ لا يُسمى سِمطاً إلا إذا كان فيه خَرَز، ولا يقال للحَبْلِ: قَرَن إلا إذا قُرِنَ فيه اثنان فصاعداً، والقوم لا يسمون رِفقة إلا إذا انضموا فى مجلس واحد، وسير واحد، فإذا تفرقوا زال هذا الاسمُ، ولم يَزُلْ عنهم اسمُ الرفيق، والحجارة لا تسمى رَضْفاً إلا إذا حُمِيَتْ بالشمس أو بالنار، والشمسُ لا يُقال لها: غزالة إلا عند ارتفاع النهار، والثوبُ لا يُسمى مِطْرَفاً، إلا إذا كان فى طرفيه عَلَمَان، والمجلس لا يُقِال له: النادى إلا إذا كان أهلُه فيه، والمرأة لا يُقال لها: عاتِق إلا إذا كانت فى بيت أبويها، ولا يسمى الماء الْمِلحُ أجُجاً، إلا إذا كان مع ملوحته مُرَّاً، ولا يُقال للسير: إهطاع إلا إذا كان معه خوفٌ، ولا يُقال للفرس: مُحَجَّل، إلا إذا كان البياض فى قوائمها كُلِّها، أو أكثرِها، وهذا باب طويل لو تقصيناه، فكذلك لا يُقال للطهر: قرء، إلا إذا كان قبلَه دم، وبَعدَه دم، فأين فى هذا ما يُدُلُّ على أنه حيض؟
قالوا: وأما قولُكم: إنه لم يجىء فى كلام الشارع إلا للحيض، فنحنُ نمنع مجيئَه فى كلام الشارع للحيض البتة، فضلاً عن الحصر. قالوا: إنه قال للمستحاضة: ((دعى الصلاة أيام أقرائك))، فقد أجاب الشافعى عنه فى كتاب حرملة بما فيه شفاء، وهذا لفظه. قال: وزعم إبراهيم ابن إسماعيل بن عُلية، أن الأقراء: الحيض، واحتج بحديث سفيان، عن أيوب، عن سُليمان بن يسار، عن أم سلمة رضى اللَّه عنها: أن رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم قال فى امرأة استُحيضت: ((تدعَ الصَّلاةَ أيَّامَ أَقْرَائِها)) قال الشافعى رحمه اللَّه: وما حدَّث بهذا سفيان قطُّ، إنما قال سفيان، عن أيوب، عن سليمان بن يسار، عن أم سلمة رضى اللَّه عنها، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:
((تَدَعُ الصَّلاَةَ عَدَدَ اللَّيَالى والأيَّام الَّتى كَانَتْ تَحِيضُهُنَّ)). أو قال: ((أَيَّامَ أَقْرَائِهَا))، الشك من أيوب لا يدرى. قال: هذا أو هذا، فجعله هو حديثاً على ناحية ما يريد، فليس هذا بصدق، وقد أخبر مالك، عن نافع، عن سليمان بن يسار، عن أم سلمة رضى اللَّه عنها، أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: ((لِتَنْظُرْ عَدَدَ اللَّيالِى والأيَّامِ الَّتى كَانَتْ تَحِيضُهُنَّ مِنَ الشَّهْرِ قَبْلَ أنْ يُصِيبَها الَّذِى أَصَابَها، ثُمَّ لِتَدَعِ الصَّلاَةَ، ثُمَّ لِتَغْتَسِلْ وَلُتصَلِّ)) ونافع أحفظ عن سليمان من أيوب وهو يقول: بمثل أحدِ معنيى أيوب اللذين رواهما، انتهى كلامه. قالوا: وأما الاستدلالُ بقوله تعالى: {وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فى أَرْحَامِهِنَّ} [البقرة: 228] وأنه الحيض، أو الحَبَلُ أو كِلاهما، فلا ريبَ أن الحيض داخِلٌ فى ذلك، ولكن تحريمُ كتمانه لا يدل على أن القُروء المذكورة فى الآية هى الحيض، فإنها إذا كانت الأطهار، فإنها تنقضى بالطعن فى الحيضة الرابعة أو الثالثة فإذا أرادت كِتمان انقضاء العِدة لأجل النفقة أو غيرها، قالت: لم أحض، فتنقضى عدتى، وهى كاذبة وقد حاضت وانقضت عِدتها، وحينئذ فتكون دلالة الآية على أن القروء الأطهار أظهر، ونحن نقنع بإتفاق الدلالة بها، وإن أبيتم إلا الاستدلالَ، فهو من جانبنا أظهر، فإن أكثر المفسرين قالوا: الحيض والولادة. فإذا كانت العِدة تنقضى بظهور الولادة، فهكذا تنقضى بظهور الحيض تسويةً بينهما فى إتيان المرأة على كل واحد منهما.
وأما استدلالُكم بقوله تعالى: {والَّلائى يَئِسْنَ مِنَ المحِيضِ مِنْ نِسَائِكُم إن ارْتَبْتُم فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ} [الطلاق: 4].
فجعل كل شهر بإزاء حيضة، فليس هذا بصريح فى أن القروء هى الحيض، بل غاية الآية أنه جعل اليأسَ من الحيض شرطاً فى الاعتداد بالأشهر، فما دامت حائضاً لا تنتقل إلى عدة الآيسات، وذلك أن الأقراء التى هى الأطهار عندنا لا تُوجد إلا مع الحيض، لا تُكون بدونه، فمن أين يلزم أن تكون هى الحيض؟
وأما استدلالُكم بحديثِ عائشة رضى اللَّه عنها:
((طَلاَقُ الأَمِةَ طَلْقَتَانِ وقَرؤُهَا حَيْضَتَان))، فهو حديث لو استدللنا به عليكم لم تقبلُوا ذلك منا، فإنه حديثٌ ضعيف معلول، قال الترمذى: غريب لانعرفه إلا من حديث مظاهر بن أسلم، ومظاهر لا يُعرف له فى العلم غير هذا الحديث، انتهى. ومظاهر بن أسلم هذا، قال فيه أبو حاتم الرازى: منكر الحديث. وقال يحيى بن معين: ليس بشىء، مع أنه لا يعرف، وضعفه أبو عاصم أيضاً. وقال أبو داود: هذا حديث مجهول، وقال الخطابى: أهلُ الحديث ضعفوا هذا الحديث، وقال البيهقى: لو كان ثابتاً لقُلنا به إلا أنا لا نُثبت حديثاً يرويه من تُجهل عدالته، وقال الدارقطنى: الصحيح عن القاسم بخلاف هذا، ثم روى عن زيد بن أسلم قال: سئل القاسم عن الأمة كم تطلق؟ قال: طلاقها ثنتان، وعِدتها حيضتان. قال: فقيل له: هل بلغك عن رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم فى هذا؟ فقال: لا. وقال البخارى فى ((تاريخه)): مظاهر بن أسلم، عن القاسم، عن عائشة رضى اللَّه عنها يرفعه: ((طلاقُ الأمِة طلقتان، وعِدتُها حيضتَانِ)). قال أبو عاصم: أخبرنا ابنُ جريج، عن مظاهر، ثم لقيتُ مظاهراً، فحدثنا به، وكان أبو عاصم يُضَعِّفُ مظاهراً، وقال يحيى بن سليمان: حدثنا ابنُ وهب، قال: حدثنى أسامة بن زيد بن أسلم، أنه كان جالساً عند أبيه، فأتاه رسولُ الأمير، فقال: إن الأميرَ يقولُ لك: كم عِدةُ الأمة؟ فقال: عِدة الأمة حيضتان، وطلاقُ الحر الأمة ثلاث، وطلاقُ العبد الحرة تطليقتان، وعِدة الحرة ثلاثُ حيض، ثم قال للرسول: أين تذهبُ؟ قال أمرنى أن أسأل القاسم بن محمد، وسالم بن عبد اللَّه، قال: فأقْسِمُ عليك إلا رجعتَ إلىَّ فأخبرتنى ما يقولان، فذهب ورجع إلى أبى، فأخبره أنهما قالا كما قال، وقالا له: قل له: إن هذا ليس فى كتاب اللَّه، ولا سنةِ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ولكن عَمِلَ به المسلمون.
وقال أبو القاسم بن عساكر فى ((أطرافه)): فدل ذلك على أن الحديثَ المرفوعَ غيرُ محفوظ.
وأما استدلالكم بحديث ابن عمر مرفوعاً، ((طَلاقُ الأَمَةِ ثِنْتَانِ، وعِدَّتُها حَيْضَتَانِ))، فهو من رواية عطية بن سعدٍ العَوْفى، وقد ضعفه، غيرُ واحد من الأئمة. قال الدارقطنى: والصحيح عن ابن عمر رضى اللَّه عنه ما رواه سالم، ونافع من قوله، وروى الدارقطنى أيضاً عن سالم ونافع، أن ابن عمر كان يقول: طلاقُ العبد الحرة تطليقتان، وعِدتها ثلاثة قروء، وطلاقُ الحر الأمة تطليقتان، وعدتها عدة الأمة حيضتان.
قالوا: والثابت بلا شك، عن ابن عمر رضى اللَّه عنه، أن الأقراء: الأطهار.
قال الشافعى رحمه اللَّه: أخبرنا مالك رحمه اللَّه، عن نافع، عن ابن عمر قال: إذا طلَّق الرجل امرأته، فدخلت فى الدم من الحيضة الثالثة، فقد برئت منه، ولا ترثه ولا يرثها.
قالوا: فهذا الحديثُ مدارُه على ابن عمر، وعائشة، ومذهبُهما بلا شك أن الأقراء: الأطهار، فكيف يكون عندهما عن النبى صلى الله عليه وسلم خلافُ ذلك، ولا يذهبان إليه؟ قالوا: وهذا بعينه هو الجوابُ عن حديث عائشة الآخر: أمرت بريرة أن تعتدَّ ثلاثَ حيض. قالوا: وقد رُوى هذا الحديث بثلاثة ألفاظ: أمرت أن تعتد، وأمرت أن تعتد عدة الحرة، وأمرت أن تعتد ثلاثَ حيض، فلعل رواية من روى ((ثلاث حيض)) محمولة على المعنى، ومن العجب أن يكون عند عائشة رضى اللَّه عنها هذا وهى تقول: الأقراء: الأطهار، وأعجبُ منه أن يكون هذا الحديثُ بهذا السند المشهور الذى كُلُّهم أئمة، ولا يخرجه أصحاب الصحيح، ولا المسانِد، ولا من اعتنى بأحاديث الأحكام وجمعها، ولا الأئمة الأربعة، وكيف يصبر عن إخراج هذا الحديث من هو مضطر إليه، ولا سيما بهذا السندِ المعروف الذى هو كالشمس شُهرةً ولا شك بريرَة أمرت أن تعتد، وأما أنها أمرت بثلاثِ حيض، فهذا لو صحَّ لم نَعدُهُ إلى غيره، ولبادرنا إليه.
قالوا: وأما استدلالكم بأن الاستبراء، فلا ريب أن الصحيحَ كونه بحيضة، وهو ظاهرُ النص الصحيح، فلا وجه للاشتغال بالتعلل بالقول: إنها تُستبرأ بالطهر، فإنه خلاف ظاهر نصِّ الرسول صلى الله عليه وسلم، وخلاف القول الصحيح من قول الشافعى، وخلاف قول الجمهور من الأمة، فالوجه العدولُ إلى الفرق بين البابين، فنقولٌ: الفرقُ بينهما ما تقدم أن العِدة وجبت قضاء لحق الزوج، فاختُصَّت بزمان حقه، وهو الطهرُ بأنها تتكرر، فيُعلم منها البراءة بواسطة الحيض بخلاف الاستبراء.
قولكم: لو كانت الأقراء الأطهار لم تحصل بالقَرء الأول دلالة، لأنه لو جامعها ثم طلَّقها فيه حُسِبَتْ بقيته قَرءاً، ومعلوم قطعاً أن هذا الطهر لا يدل على شىء.
فجوابه أنها إذا طهرت بعد طُهرين كاملين، صحت دِلالته بإنضمامه إليهما.
قولُكم: إن الحدودَ والعلاماتِ والأدلة إنما تحصل بالأمور الظاهرة إلى آخره.
جوابه أن الطهر إذا احتوشه دمانِ، كان كذلك، وإذا لم يكن قبله دم، ولا بَعده دم، فهذا لا يُعتد به البتة.
قالوا: ويزيد ما ذهبنا إليه قوة، أن القَرء هو الجمع، وزمان الطهر أولى به، فإنه حينئذ يجتمع الحيضُ، وإما يخرج بعد معه. قالوا وإدخال التاء فى ثلاثة قروء يدل على أن القَرء مذكر، وهو الطهر فلو كان الحيض لكان بغير تاء لأن واحدها حيضة.
فهذا ما احتج به أربابُ هذا القول استدلالاً وجواباً، وهذا موضع لا يُمكن فيه التوسطُ بينَ الفريقين، إذ لا توسط بين القولين، فلا بد من التحيُّزِ إلى أحد الفئتين ونحن متحيِّزون فى هذه المسألة إلى أكابر الصحابة وقائلون فيها بقولهم: إن القَرء الحيضُ، وقد تقدم الاستدلالُ على صحة هذا القول، فنُجيب عما عارض به أربابُ القول الآخر، ليتبين ما رجحناه، وباللَّه التوفيق.
فنقول: أما استدلالُكم بقوله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1]، فهو إلى أن يكونَ حجة عليكم أقربُ منه إلى أن يكون حجة لكم، فإن المرأة طلاقها قبل العدة ضرورة، إذ لا يمكن حملُ الآية على الطلاق فى العِدة فإن هذا مع تضمنه لكون اللام للظرفية بمعنى- في - فاسد معنى، إذ لا يُمكن إيقاعُ الطلاق فى العِدة، فإنه سبُبها، والسببُ يتقدم الحكم، وإذا تقرر ذلك فمن قال: الأقراء الحيض، فقد عمل بالآية، وطلَّق قبل العدة. فإن قلتم: ومن قال: إنها الأطهار فالعِدة تتعقب الطلاق، فقد طلَّق قبل العدة، قلنا: فبطل احتجاجُكم حينئذ، وصحَّ أن المراد الطلاقُ قبل العدة لا فيها، وكلا الأمرين يصح أن يُراد بالآية، لكن إرادةُ الحيض أرجحُ، وبيانُه أن العِدة فعلة مما يعنى معدودة، لأنها تُعد وتُحصى، كقوله: {وَأَحْصُوا العِدَّةَ} [الطلاق: 1]، والطهرُ الذى قبل الحيضة، مما يعد ويُحصى، فهو من العِدة، وليس الكلامُ فيه، وإنما الكلام فى أمر آخر، وهو دخولُه فى مسمى القروء الثلاثة المذكورة فى الآية أم لا؟ فلو كان النصُّ: فطلقوهن لِقروئهن، لكان فيه تعلق، فهنا أمران. قوله تعالى: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَة قُرُوءٍ} [البقرة: 228]، والثانى: قوله: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1]، ولا ريب أن القائل: افعل كذا لثلاث بَقِينَ مِن الشهر، إنما يكون المأمور ممتثلاً إذا فعله قبل مجىء الثلاث، وكذلك إذا قال: فعلته لثلاث مضين من الشهر، إنما يصدق إذا فعله بعد مضى الثلاث، وهو بخلاف حرف الظرف الذى هو ((فى)) فإنه إذا قال: فعلته فى ثلاث بقين، كان الفعل واقعاً فى نفس الثلاث، وههنا نكتة حسنة، وهى أنهم يقولون: فعلُته لثلاث ليال خَلَوْن أو بقين من الشهر، وفعلته فى الثانى أو الثالث من الشهر، أو فى ثانية أو ثالثة، فمتى أرادوا مضى الزمان أو استقباله، أتَوْا باللام، ومتى أرادوا وقوعَ الفعل فيه، أتوا بفى، وسِرُّ ذلك أنهم إذا أرادوا مضى زمن الفعل أو استقباله أتوا بالعلامة الدالة على اختصاص العدد الذى يلفظون به بما مضى، أو بما يُستقبل، وإذا أرادوا وقوع الفعل فى ذلك الزمان أتوا بالأداة المعينة له، وهى أداة ((فى))، وهذا خير من قول كثير من النحاة: إن اللام تكون بمعنى قبل فى قولهم: كتبته لثلاث بقين، وقوله: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1]، وبمعنى بعد، كقولهم: لثلاث خلون. وبمعنى فى: كقوله تعالى: {ونضع الموازِينَ القِسْطَ لِيَوْمِ القِيَامَةِ} [الأنبياء: 47]، وقوله: {فَكَيْفَ إذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لاَ رَيْبَ فِيهِ} [آل عمران: 25]، والتحقيقُ أن اللام على بابها للاختصاص بالوقت المذكور، كأنهم جعلوا الفِعل للزمان المذكور اتساعاً لاختصاصه به، فكأنه له، فتأمله.
وفرق آخر: وهو أنك إذا أتيت باللام، لم يكن الزمانُ المذكورُ بعدَه إلا ماضياً أو منتظراً، ومتى أتيت بفى لم يكن الزمان المجرور بها إلا مقارناً للفعل، وإذا تقرَّر هذا مِن قواعد العربية، فقولُه تعالى:{فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1]، معناه: لاستقبال عدتهن لا فيها، وإذا كانت العدة التى يُطلق لها النساء مستقبلةً بعد الطلاق، فالمستقبَلُ بعدها إنما هو الحيضُ، فإن الطاهر لا تستَقْبِلُ الطهر إذ هى فيه، وإنما تستقبلُ الحيضَ بعد حالها التى هى فيها، هذا المعروفُ لغةً وعقلاً وعُرفاً، فإنه لا يُقال لمن هو فى عافية: هو مستقبل العافية، ولا لمن هو فى أمن: هو مستقبل الأمن، ولا لمن هو فى قبض مغله وإحرازه: هو مستقبل المغل، وإنما المعهودُ لغة وعُرفاً أن يستقبلَ الشىءَ منْ هو على حال ضِدْ، وهذا أظهرُ من أن نُكثَر شواهده.
فإن قيل: فيلزم من هذا أن يكون من طلق فى الحيض مطلقاً للعِدة عند مَنْ يقول: الأقراء الأطهار، لأنها تستقبلُ طهرها بعد حالها التى هى فيها، قلنا: نعم يلزمهم ذلك، فإنه لو كان أول العدة التى تُطلق لها المرأة هو الطهر، لكان إذا طلقها فى أثناء الحيض مطلقاً للعدة، لأنها تستقبِلُ الطهرَ بعد ذلك الطلاق.
فإن قيل: ((اللام)) بمعنى ((فى))، والمعنى: فطلقوهن فى عدتهن، وهذا إنما يُمكن إذا طلقها فى الطهر، بخلاف ما إذا طلقها فى الحيض قيل: الجوابُ من وجهين.
أحدهما: أن الأصل عدمُ الاشتراك فى الحروف، والأصل إفراد كل حرف بمعناه فدعوى خلافِ ذلك مردودة بالأصل.
الثانى: أنه يلزم منه أن يكون بعض العِدة ظرفاً لزمن الطلاق، فيكون الطلاق واقعاً فى نفس العِدة ضرورة صحة الظرفية، كما إذا قلت: فعلته فى يوم الخميس بل الغالب فى الاستعمال مِن هذا، أن يكون بعضُ الظرف سابقاً على الفعل، ولا ريبَ فى امتناع هذا، فإن العِدة تتعقب الطلاق ولا تُقارنه، ولا تتقدم عليه.
قالوا: ولو سلمنا أن ((اللام)) بمعنى ((فى))، وساعد على ذلك قراءةُ ابن عمر رضى اللَّه عنه وغيره: ((فطلقوهن فى قُبُلِ عدتهن))، فإنه لا يلزمُ مِن ذلك أن يكون القَرء: هو الطهر، فإن القَرء حينئذ يكون هو الحيضَ، وهو المعدودُ والمحسوب، وما قَبله من الطهر يدخل فى حكمه تبعاً وضمناً لوجهين.
أحدهما: أن من ضرورة الحيض أن يتقدَّمه طهر، فإذا قيل: تربَّصى ثلاث حيض، وهى فى أثناء الطهر كان ذلك الطهر من مدة التربص، كما لو قيل لرجل: أقم ههنا ثلاثة أيام، وهو أثناء ليلة، فإنه يدخُل بقية تلك الليلة فى اليوم الذى يليها، كما تدخل ليلة اليومين الآخرين فى يوميهما. ولو قيل له فى النهار: أقم ثلاث ليال، دخل تمامُ ذلك النهار تبعاً لليلة التى تليه.
الثانى: أن الحيض إنما يتم بإجتماع الدم فى الرحم قبله، فكان الطهر مقدمةً وسبباً لوجود الحيض، فإذا علق الحكم بالحيض، فَمِنْ لوازمه ما لا يُوجد الحيض إلا بوجوده، وبهذا يظهرُ أن هذا أبلغُ مِن الأيام والليالى، فإن الليلَ والنهار متلازمان، وليس أحدهما سبباً لوجود الآخر، وههنا الطهرُ سببٌ لاجتماع الدم فى الرحم، فقولُه سبحانه وتعالى: {لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] أى: لاستقبال العدة التى تتربصها، وهى تتربص ثلاث حيض بالأطهار التى قبلها. فإذا طلقت فى أثناء الطهر، فقد طلقت فى الوقت الذى تستقبل فيه العدة المحسوبة، وتلك العِدة هى الحيض بما قبلها من الأطهار، بخلاف ما لو طلقت فى أثناء حيضة، فإنها لم تطلق لِعدة تحسبها، لأن بقية ذلك الحيض ليس هو العِدة التى تعتد بها المرأة أصلاً ولا تبعاً لأصل، وإنما تسمى عِدة لأنها تُحبس فيها عن الأزواج، إذا عرف هذا، فقوله: {ونَضَعُ المَوازِينَ القِسْطَ لِيَوْمِ القِيَامَةِ} [الأنبياء: 47]، يجوز أن تكون اللامُ لامَ التعليل، أى: لأجل يومِ القيامة. وقد قيل: إن القِسط منصوب على أنه مفعول له، أى: نضعها لأجل القسط، وقد استوفى شروطَ نصبه، وأما قوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78]، فليست اللام بمعنى ((فى)) قطعاً، بل قيل: إنها لام التعليل، أى: لأجل دلوك الشمس، وقيل: إنها بمعنى بعد، فإنه ليس المرادُ إقامتهَا وقتَ الدلوك سواء فسر بالزوال أو الغروب، وإنما يُؤمر بالصلاة بعده، ويستحيلُ حمل آية العدة على ذلك، وهكذا يستحيلُ حملُ آية العِدة عليه، إذ يصيرُ المعنى: فَطَلِّقُوهُنَّ بَعْدَ عِدَّتِهِنَّ. فلم يبق إلا أن يكون المعنى: فطلقوهن لاستقبال عِدتهن، ومعلوم أنها إذا طلقت طاهراً استقبلت العدةَ بالحيض. ولو كانت الأقراء الأطهار، لكانت السنة أن تطلق حائضاً لتستقبل العدة بالأطهار، فبيَّن النبىُّ صلى الله عليه وسلم أن العدة التى أمر اللَّه أن تطلق لها النساء هى أن تطلَّق طاهراً لتستقبل عدتها بعد الطلاق.
فإن قيل: فإذا جعلنا الأقراء: الأطهار، استقبلت عدتها بعد الطلاق بلا فصل، ومن جعلها الحيضَ لم تستقبلها على قوله حتى ينقضى الطُّهرُ.
قيل: كلام الرب تبارك وتعالى لا بد أن يُحمل على فائدة مستقلة، وحملُ الآية على معنى: فطلقوهن طلاقاً تكون العدةُ بعده لا فائدة فيه، وهذا بخلاف ما إذا كان المعنى: فطلقوهن طلاقاً يستقبلن فيه العدة لا يستقِبْلنَ فيه طهراً لا تعتد به، فإنها إذا طُلقت حائضاً استقبلت طهراً لا تعتد به، فلم تُطلق لاستقبال العدة، ويُوضحه قراءة من قرأ: فَطَلِّقُوهُنَّ فى قُبُل عِدَّتِهِنَّ. وقُبُلُ العدة: هو الوقت الذى يكون بين يدى العدة تستقبل به، كقبل الحائض، يوضحه أنه لو أُريد ما ذكروه، لقيل: فى أوَّلِ عدتهن، فالفرق بَيِّنٌ بينَ قُبُلِ الشىء وأوله.
وأما قولكم: لو كانت القروء هى الحِيض، لكان قد طلقها قَبْلَ العِدة. قلنا: أجل، وهذا هو الواجبُ عقلاً وشرعاً، فإن العِدة لا تُفارق الطلاقَ ولا تَسبِقُهُ، بل يجبُ تأخرها عنه.
قولكم: وكان ذلك تطويلاً عليها، كما لو طلَّقها فى الحيض، قيل: هذا مبنى على أن العِلة فى تحريمِ طلاق الحائض خشية التطويل عليها، وكثيرٌ من الفقهاء لا يرضون هذا التعليلَ، ويفسدونه بأَنها لو رضيت بالطلاق فيه، واختارت التطويلَ، لم يُبح له، ولو كان ذلك لأجل التطويل، لم تبح له برضاها، كما يُباح إسقاطُ الرجعة الذى هو حقُّ المطلِّق بتراضيهما بإسقاطها بالعِوض اتفاقاً، وبدونه فى أحد القولين، وهذا هو مذهبُ أبى حنيفة، وإحدى الروايتين عن أحمد ومالك، ويقولون: إنما حرم طلاقُها فى الحيض، لأنه طلقها فى وقت رغبة عنها، ولو سلمنا أن التحريم لأجل التطويل عليها، فالتطويلُ المضر أن يُطلقها حائضاً، فتنتظرَ مضى الحيضة والطهر الذى يليها، ثم تأخُذ فى العدة، فلا تكون مستقبلةً لِعدتها بالطلاق وأما إذا طلقت طاهراً، فإنها تستقبِلُ العِدة عقيب انقضاء الطهر، فلا يتحقق التطويلُ.
وقولكم: إن القَرء مشتق من الجمع، وإنما يُجمع الحيض فى زمن الطهر. عنه ثلاثة أجوبة.
أحدها: أن هذا ممنوع، والذى هو مشتق من الجمع إنما هو مِن باب الياء مِن المعتل، من قرى يقرى، كقضى يقضى، والقَرء من المهموز من بنات الهمز، مِن قرأ يقرأ، كنحر يَنحر، وهما أصلان مختلفان فإنهم يقولون: قريتُ الماء فى الحوض أقريه، أى: جمعتُه، ومنه سميت القرية، ومنه قرية النمل: للبيت الذى تجتمع فيه، لأنه يقربها، أى: يضمُّها ويجمعُها. وأما المهموزُ، فإنه من الظهور والخروج على وجه التوقيت والتحديد، ومنه قراءة القرآن، لأن قارئه يُظهره ويُخرجه مقداراً محدوداً لا يزيدُ ولا ينقُصُ، ويدل عليه قوله: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وقُرْآنَه} [القيامة: 17]، ففرق بين الجمع والقُرْآنِ. ولو كانا واحداً، لكان تكريراً محضاً، ولهذا قال ابن عباس رضى اللَّه عنهما: {فإذَا قَرأْنَاهُ فاتَّبع قُرْآنَهُ} [القيامة: 18]، فإذا بيناه، فجعل قراءته نفس إظهاره وبيانه، لا كما زعم أبو عُبيدة أن القرآن مشتق من الجمع. ومنه قولهم: ما قرأت هذه الناقةُ سَلَى قَطُّ، وما قرأت جنيناً هو من هذا الباب، أى ما ولدته وأخرجته وأظهرته، ومنه: فلان يَقرؤك السلام، ويقرأ عليك السلام، هو من الظهور والبيان، ومنه قولهم: قرأت المرأة حيضة أو حيضتين، أى: حاضتهما، لأن الحيض ظهورُ ما كان كامناً، كظهور الجنين، ومنه: قروء الثريا، وقروء الريح: وهو الوقت الذى يظهر المطر والريح، فإنهما يظهران فى وقت مخصوص، وقد ذكر هذا الاشتقاق المصنفون فى كتب الاشتقاق، وذكره أبو عمرو وغيره، ولا ريب أن هذا المعْنَى فى الحيض أظهرُ منه فى الطهر.
قولكم: إن عائشة رضى اللَّه عنها قالت: القُروء: الأطهار، والنساء أعلم بهذا من الرجال.
فالجواب أن يُقال: مَنْ جَعَلَ النساء أعلمَ بمراد اللَّه من كتابه، وأفهَم لمعناه مِن أبى بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعلى بن أبى طالب، وعبد اللَّه بن مسعود وأبى الدرداء رضى اللَّه عنهم، وأكابر أصحابِ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؟، فنزولُ ذلك فى شأنهن لا يدل على أنهن أعلمُ به من الرجال، وإلا كانت كُلُّ آية نزلت فى النِّساءِ تكونُ النساءُ أعلَم بها من الرجال، ويجبُ على الرجال تقليدُهن فى معناها وحكمها فيكنَّ أعلَم مِن الرجال بآيةِ الرضاع، وآيةِ الحيض، وتحريمِ وطء الحائض، وآية عِدة المتوفى عنها، وآيةِ الحمل والفِصال ومدتهما، وآيةِ تحريم إبداء الزينة إلا لمن ذكر فيها، وغير ذلك من الآيات التى تتعلق بهن، وفى شأنهن نزلت، ويجبُ على الرجال تقليدُهن فى حكم هذه الآيات ومعناها، وهذا لا سبيل إليه البتة. وكيف ومدار العلم بالوحى على الفهم والمعرفة، ووفور العقل والرجال أحقُّ بهذا من النساء، وأوفر نصيباً منه، بل لا يكاد يختِلفُ الرجالُ والنساء فى مسألة إلا والصوابُ فى جانب الرجال، وكيف يُقال: إذا اختلفت عائشة، وعمر بن الخطاب، وعلى بن أبى طالب، وعبد اللَّه بن مسعود فى مسألة: إن الأخذ بقول عائشة رضى اللَّه عنها أولى، وهل الأولى إلا قولٌ فيه خليفتان راشدان؟ وإن كان الصديق معهما كما حُكى عنه، فذلك القولُ مما لا يعدوه الصوابُ البتة، فإن النقل عن عمر وعلى ثابت، وأما عن الصديق، ففيه غرابة، ويكفينا قولُ جماعة من الصحابة فيهم مثلُ: عمر، وعلى، وابن مسعود، وأبى الدرداء، وأبى موسى، فكيف نقدم قول أُمِّ المؤمنين وفهمها على أمثال هؤلاء؟
ثم يقال: فهذه عائشة رضى اللَّه عنها ترى رضاعَ الكبير يَنْشُرُ الحُرمة، ويُثبت المحرمية، ومعها جماعة من الصحابة رضى اللَّه عنهم، وقد خالفها غيرُها من الصحابة، وهى روت حديثَ التحريم به، فهلاَّ قلتم: النساءُ أعلم بهذا من الرجال، ورجحتم قولَها على قول من خالفها؟
ونقول لأصحاب مالك رحمه اللَّه: وهذه عائشة رضى اللَّه عنها لا ترى التحريمَ إلا بخمس رضعات، ومعها جماعةٌ من الصحابة، وروت فيه حديثين، فهلاَّ قلُتم: النساء أعلم بهذا من الرجال، وقدمتُم قولَها على قول من خالفها؟ فإن قلتم: هذا حكم يتعدَّى إلى الرجال، فيستوى النساءُ معهم فيه، قيل: ويتعدى حكمُ العِدة مثله إلى الرجال، فيجب أن يستوىَ النساءُ معهم فيه، وهذا لخفاءَ به. ثم يُرجح قولُ الرجال فى هذه المسألة، بأن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم شهِد لِواحدٍ من هذا الحزب، بأن اللَّه ضرب الحقَّ على لِسانه وقلبه. وقد وافق ربَّه تبارك وتعالى فى عدة مواضع قال فيها قولاً، فنزل القرآنُ بمثل ما قال، وأعطاه النبىُّ صلى الله عليه وسلم فضلَ إنائه فى النوم، وأوله بالعلم وشهد له بأنه مُحَدَّثٌ مُلْهَمٌ، فإذا لم يكن بُد من التقليد، فتقليدُه أولى، وإن كانت الحجة هى التى تَفْصِلُ بين المتنازعين، فتحكيمُها هو الواجب.
قولكم: إن من قال: إن الأقراء الحِيَض، لا يقولُون بقول على وابن مسعود، ولا بقول عائشة، فإن علياً يقول: هو أحقُّ برجعتها ما لم تغتسل، وأنتم لا تقولون بواحدٍ من القولين، فهذا غايتُه أن يكون تناقضاً ممن لا يقول بذلك، كأصحاب أبى حنيفة، وتلْكَ شَكَاة ظَاهِرٌ عَنْكَ عَارُهَا عمن يقول بقول على، وهو الإمام أحمد وأصحابه، كما تقدم حكاية ذلك، فإن العِدة تبقى عنده إلى أن تغتسل كما قاله على، ومن وافقه، ونحن نعتذِرُ عمن يقول: الأقراء الحِيض فى ذلك، ولا يقول: هو أحقُّ بها ما لم تغتسل فإنه وافق من يقول: الأقراء الحِيض فى ذلك، وخالفه فى توقف انقضائها على الغسل لمعارض أوجب مخالفته، كما يفعلُه سائر الفقهاء. ولو ذهبنا نعُدُّ ما تصرفتم فيه هذا التصرفَ بعينه، فإن كان هذا المعارض صحيحاً لم يكن تناقضاً منهم، وإن لم يكن صحيحاً، لم يكن ضعفُ قولهم فى إحدى المسألتين عندهم بمانع لهم مِن موافقتهم لهم فى المسألة الأخرى، فإن موافقة أكابر الصحابة وفيهم مَنْ فيهم مِن الخلفاء الراشدين فى معظم قولهم خيرٌ، وأولى من مخالفتهم فى قولهم جميعِه وإلغائه بحيث لايُعتبر البتة.
قالوا: ثم لم نخالفهم فى توقف انقضائها على الغسل، بل قلنا: لا تنقضى حتى تغتسِلَ، أو يمضى عليها وقتُ صلاة، فوافقناهم فى قولهم بالغسل، وزدنا عليهم انقضاءَها بمضى وقت الصلاة، لأنها صارت فى حكم الطاهرات بدليل استقرار الصلاة فى ذمتها، فأين المخالفةُ الصريحة للخلفاء الراشدين رضوان اللَّه عليهم.
وقولكم: لا نجد فى كتاب اللَّه للغسل معنى. فيقال: كتابُ اللَّه تعالى لم يتعرض للغسل بنفى ولا إثبات، وإنما علَّق الحِلَّ والبينونة بإنقضاء الأجل.
وقد اختلف السلف والخلف فيما ينقضى به الأجلُ، فقيل: بإنقطاع الحيض. وقيل: بالغسل أو مضى صلاة، أو انقطاعه لأكثره. وقيل: بالطعن فى الحيضة الثالثة، وحجة من وقفه على الغسل قضاءُ الخلفاء الراشدين، قال الإمام أحمد: عمر، وعلى، وابن مسعود يقولون: حتى تغتسِلَ من الحيضة الثالثة. قالوا: وهم أعلمُ بكتاب اللَّه، وحدودِ ما أُنزِل على رسوله، وقد رُوِىَ هذا المذهب عن أبى بكر الصديق، وعثمان بن عفان، وأبى موسى، وعُبادة، وأبى الدرداء، حكاه صاحب ((المغنى)) وغيره عنهم. ومن ههنا قيل: إن مذهب الصديق ومن ذُكِرَ معه، أن الأقراء: الحِيض.
قالوا: وهذا القول له حظ وافر مِن الفقه، فإن المرأة إذا انقطع حيضها صارت فى حكم الطاهرات من وجه، وفى حكم الحُيَّضِ من وجه، والوجوه التى هى فيها فى حكم الحيض أكثر من الوجوه التى هى فيها فى حُكم الطاهرات، فإنها فى حُكم الطاهرات فى صحة الصيام، ووجوب الصلاة، وفى حُكم الحُيَّضِ فى تحريم قراءة القرآن عند من حرمه على الحائض، واللبث فى المسجد، والطواف بالبيت، وتحريم الوطء، وتحريم الطلاق فى أحد القولين، فاحتاطَ الخلفاءُ الراشدون وأكابر الصحابة للنكاح، ولم يُخرجوها منه بعد ثبوته إلا بقيد لا ريبَ فيه، وهو ثبوتُ حكم الطاهرات فى حقها من كل وجه، إزالةٌ لليقين بيقين مثله، إذ ليس جعلها حائضاً فى تلك الأحكام أولى من جعلها حائضاً فى بقاء الزوجية، وثبوت الرجعة، وهذا من أدق الفقه وألطفه مأخذاً.
قالوا: وأما قول الأعشى:
لِما ضَاعَ فِيهَا مِنْ قُرُوءِ نِسَائكا.
فغايته استعمال القروء فى الطهر، ونحن لا ننكره.
قولكم: إن الطهر أسبق من الحيض، فكان أولى بالاسم، فترجيحٌ طريف جداً فمن أين يكون أولى بالاسم إذا كان سابقاً فى الوجود؟ ثم ذلك السابق لا يُسمى قرءاً ما لم يسبقه دم عند جمهور من يقوله: الأقراء الأطهار، وهل يقال فى كل لفظ مشترك: إن أسبق معانيه إلى الوجود أحق به، فيكون عَسْعَسَ من قوله: {واللَّيْلِ إذَا عَسْعَسَ} [التكوير: 17]، أولى بكونه لإقبال الليل لسبقه فى الوجود، فإن الظلام سابق على الضياء.
وأما قولكم: إن النبى صلى الله عليه وسلم فسر القروء بالأطهار، فلعمرُ اللَّه لو كان الأمر كذلك، لما سبقتمُونا إلى القول بأنها الأطهار، ولبادرنا إلى هذا القول اعتقاداً وعملاً، وهل المعوَّل إلا على تفسيره وبيانه:
تَقُولٌ سُلَيْمَى لَوْ أَقَمْتُمْ بأرْضِنَا وَلَم تَدْرِ أَنىِّ لِلْمُقَامِ أَطُوفُ
فقد بينا مِن صريح كلامه ومعناه ما يدل على تفسيره للقروء بالحيض، وفى ذلك كفاية.